إعداد بدرة قعلول : رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية
لا أحد ينسى المشهد المريب الذي قدمه أحمد المسماري الناطق الرسمي باسم الجيش العربي الليبي، صورة الجنود ذوي الملامح الغريبة وحاملي أسلحة متطورة جدا وكذلك صورة الجندي الطيار الأمريكي الذي تم إلقاء القبض عليه وهو من المرتزقة المبعوثين ضمن صفقات التعامل مع الشركات المتعاقدة العسكرية وهي عبارة عن شركات تبيع جنودا مرتزقة للقتال وتسميهم مقاتلين متعاقدين ، من خليط من الجنسيات وتجندهم مقابل أموال كثيرة وقد بدأت التجربة في العراق.
المبحث الأصلي لدينا اليوم هو هذه الشركات وعلاقتها بالأزمة الليبية ومن يجندها ويدفع لها الأموال؟ بدأنا البحث منذ أكثر من سنة محاولين معرفة سر هذه الشراكات التي تختفي وتظهر من حين إلى آخر ومن يوظفها وكيف تتعامل مع الميدان الليبي؟
كانت لدينا قناعة ومعطيات تفيد بأن هذه الشركات موجودة، وهي في حالة تدريب واختبار للميدان، متسترة تحت العديد من المسميات، وحتى حين يلقى القبض على بعض العناصر يتم التكتم خوفا من العواقب وحتى لا يقال إن الجيش يحارب شركات مرتزقة.
الكثير من المؤشرات أصبحت تؤكد وجود شركات المقاتلين متعددي الجنسيات الذين يقومون بعمليات على الميدان وخاصة صنف الطيارين وكذلك التقنيين المختصين بالطائرات المسيرة
. أما المعطى الثاني الغريب فهو صفقة الصواريخ التي دخلت إلى ليبيا وبالتحديد إلى ميناء مصراتة الليبي في شهر مايو 2019 والتي تم التعتيم عليها، لكن الأغرب أن يتم إنكارها.
المؤشر الثالث هي شحنات السلاح والذخيرة الكبيرة التي تصل تباعا إلى ليبيا.. والسؤال الذي يُطرح: من سيستعملها أو من سيجيد استعمالها، وهل فعلا ستستعمل من أجل حل الأزمة الليبية، ولماذا لا يحرك العالم بمنظماته الأممية ساكنا؟
أسئلة كثيرة تطرح تنتظر أجوبة في ظل التطورات الكبرى التي تشهدها المنطقة،في ظل تقاطعات مصالح دولية وإقليمية كبرى وتواتر الأحداث في المنطقة وبخاصة الضفة الجنوبية للمتوسط، وفي ظل غموض التفاعل الدولي مع الأزمة وتطوراتها حيث يراقب تماسيح العالم الميدان الليبي ومن سيسيطر على الميدان ستصفق له كل التماسيح!
التطورات الميدانية متواترة وسريعة ومزلزلة، وعلى مستوى الميدان لا يوجد رابح ولا يوجد منهزم إلى حد الآن.. كل الأطراف تسبح في مستنقع قاتل، خاصة وأن الحكم عليها يبنى على خريطة السيطرة العسكرية..
كما لا ننسى أن دعم الميليشيات ليس وليد اليوم بل تواصل منذ سنوات وقد سبق أن كُشف عن ذلك سواء من قبل الأتراك أو من قبل دول أخرى أو مافيا بيع السلاح، وبلغة الكرة الكل يلعب على الميدان الليبي والكل يريد أن تمتد اللعبة وأن تتواصل بمن فيهم المبعوث الأممي إلى ليبيا. كل الأطراف الدولية تجد في بقاء الأزمة بقاءً لها ولمصالحها، والخاسر الوحيد هو الشعب الليبي الذي انقسم وشُرد وسُرقت مقدراته وامتلأ قلبه بالأحقاد والثأر ويعيش أزمة خانقة.
حكومة السراج وميليشياته تحظى بالإمداد والدعم المباشر من النظام التركي بحراً وجواً وخاصة من قبل الشركات العسكرية متعددة الجنسيات التي تموقعت على الأرض منذ سنوات، وذلك ضمن توطيد الإرتباط المشبوه بين تركيا وحكومة السراج، خاصة في وضع الخلخلة التي أحدثها الجيش العربي الليبي في صفوف مرتزقة تركيا وفي ظل التقدم الكبير الذي أحرزه ميدانيا وخاصة بتدمير منصات إطلاق الطائرات المسيرة التركية التي تم بيعها إلى حكومة السراج بملايين الدولارات، وتدمير مشروع القاعدة العسكرية التركية قرب الهلال النفطي الذي يسيطر عليه الجيش العربي الليبي.
وأمام هذه المعطيات لم يعد هناك مجال لتركيا ولا لحكومة السراج أن تتعاملا فيما بينهما بسرية فاندفع الإثنان إلى الإعلان عن تفعيل بند من بنود اتفاقيتي التفاهم الموقعتين فكان الطلب الرسمي للحكومة التركية بالتدخل عسكرياً في الأراضي الليبية الذي وافق عليه البرلمان التركي اليوم الخميس 02 يناير 2020.
هذه اللعبة تم التفاهم عليها مع دولة كبرى لتوكل الملف برمته إلى تركيا لتقع في مستنقع إقليمي كبير، وتحاول من خلاله إضعاف كل القوى البارزة في البحر الأبيض المتوسط ولتصبح ليبيا سوريا شمال إفريقيا، وبؤرة صراع دولية وإقليمية، بشكل يهدد الأمن القومي لكل دول المنطقة.
لكن السؤال الذي يطرح الآن ضمن اللعبة الدولية التي بدأت تظهر معالمها: من المستفيد بأن يُزعزع استقرار دول المنطقة ؟
ربما المستفيد الوحيد هو من يملك خيوط اللعبة ومسيرها ومن يريد أن يقطع الطريق عن القوة العالمية الثالثة البارزة التي تريد أن تتموقع في إفريقيا وهي الصين الشعبية التي لها إنجازات كبرى في إفريقيا..طبعا هذه المعطيات لا تستحسنها الولايات المتحدة الأمريكية وهي التي خسرت الشرق الأوسط بهزيمة المشروع العدواني في سوريا،لذلك لا يمكن أن تترك البوابة الكبرى للعمق الإفريقي بيد الصين وحليفتها روسيا،وليس مستبعدا أن تعمد إلى جر قدم روسيا واستنزافها من أجل إضعافها في مستنقع أخر وهو الضفة الجنوبية للمتوسط.
في هذه الحرب كل شيء وارد وكل السيناريوهات مطروحة على طاولة اللاعب الأكبر، لكن تبقى القوى الأخرى مدركة جيدا للمخطط،إلا أن المشكل في اللاعبين الصغار الذين يريدون أن يكون لهم دورٌ مهما كان،والذين تهزهم أطماعهم إلى الهاوية. هذا الوكيل الصغير الطامع الذي يرى أنه أصبح يلعب مع الكبار ويمكنه أن يتحكم في مصير الدول والشعوب متأرجحا بين أمريكا وروسيا ، أوهموه بأنه يمكن أن يكون فاعلا..
فما الذي تحصل عليه من ضمانات حتى يتحرك بهذه الحرية؟ تركيا منذ 2011 كان لها دور سلبي في ليبيا وعملت على نشر أذرعها الإخوانية بصورة مخفية وبعدها تطور دورها قي سنة 2014 فأصبح تدخلها علنيا ودعمها للمجموعات الإرهابية كبيرا حتى أنها رفضت نتائج الإنتخابات التشريعية الليبية. ومنذ ذلك التاريح أصبح العنصر التركي يتحرك بشكل مشبوه في ليبيا وأصبح يرسل المرتزقة ويتدخل في شؤون الحكومة عبر علاقات كبرى بجماعة”الإخوان” وأمراء الميليشيات إلى أن أصبحنا اليوم نرى ارتباط العنصر التركي بالإرهاب ووسطوة المييلشيات المسلحة وبث الفتنة إلى درجة غريبة أصبح معها أردوغان يتحدث عن الدفاع عن الجالية التركية الموجودة بليبيا من الليبين،بكل وقاحة، وهو ينصب نفسه حاميا لمن يسميهم الليبيين من أصل تركي موجودين هناك منذ مئات السنين!
وبعد بدأ عملية في 04 أبريل 2019″طوفان الكرامة” وقرار الجيش بتحرير طرابلس أصبحت أنماط الدعم التركي المقدم لحكومة الميليشيات مرتبطة بمدى تأثير وقوة هجوم الجيش الوطني الليبي على محاور العاصمة طرابلس وتخوم مدينتي سرت ومصراتة والطرق الواصلة إليهما اللتين تشكلان معاقل مسلحة محسوبة على تنظيم “الإخوان المسلمين” والنظام التركي،إذ عمدت الحكومة التركية إلى إرسال شحنات من الأسلحة والذخائر، عبر سفن شحن تركية وأخرى أجنبية للتمويه، وكانت اليونان قد أوقفت سفينة شحن تركية كبيرة في طريقها إلى مصراته في شهر يناير من العام 2018، محملة بأطنان من المواد المتفجرة ولكن أغلب الشحنات الأخرى قد وصلت إلى ليبيا خاصة منذ بداية 2019 ووإالى حدود هذا التاريخ..
تُضاف إلى ذلك شحنات بشرية أي العناصر الإرهابية الذين تم نقلهم برا وبحرا إلى ليبيا ليخوضوا معارك ويكونوا بؤرا إرهابية تمس من استقرار المنطقة بكاملها، وعلى ما يبدو أن العناصر الإرهابية جزء كبير يتبع تنظيم القاعدة..أما الشق الثاني الخطير فيتمثل في الشركات المقاتلة المتواجدة بليبيا يترأسها أتراك ومن أهم عناصر أفغانيون وباكستانيون.
وبعد أن أعلن المشير خليفة حفتر عن ساعة الصفر ودخلت الحرب في مرحلتها النهائية لتحرير طرابلس اضطر السلجوق العثماني إلى تغيير دعمه وأصبح يتسارع مع الأحداث في سابقة غريبة جدا وتدخل سافر بأطماع استعمارية، فانتقل الدعم التركي من السلاح الخفيف والمتوسط، إلي الثقيل، والآليات المدرعة والطائرات المسيرة ، ولجوء صانع القرار في تركيا إلى إيجاد الإطار المناسب للتدخل العسكري المباشر في الأراضي الليبية، عبر ثلاثة اجراءات :
1- التوقيع على اتفاقيتين مع حكومة السراج تختص بترسيم الحدود البحرية وتقديم الدعم العسكري المباشر وهذا طبعا من أجل استدراج الجيش العربي الليبي ومصر والإمارات والسعودية.
2- الشروع في الحصول على موافقة البرلمان التركي المتكون في غالبيته من حزب العدالة والتنمية لإرسال قوات تركية نظامية إلى الميدان الليبي.
3- كسب حلفاء من الإقليم وخاصة جيران ليبيا وتوريط الجيران للإصطفاف في المحور التركي وربما تتغير منصة التدخل من طرابلس إلى الجنوب التونسي.
وبهذا أصبحت توجهات تركيا أكثر فأكثر غطرسة فانتقلت من تدفق يومي للعناصر الإرهابية من الشمال السوري إلى مطاري طرابلس ومصراتة إلى دعم الشركات متعددة الجنسيات وتكوين جيش خاص من المرتزقة بقيادة تركيا وهذا ما أفصح عنه المستشار العسكري للرئيس التركي بضرورة خلق هذا الجسم الهجين وإخضاعه للتجربة على الأراضي الليبية .
كما أن المستشار العسكري التركي هو من أهم رجالات أردوغان وهو صاحب شركة للمقاتلين المتعاقدين “سادات”،وتعتبر عند الأتراك من الشركات المشبوهة إلى حد تسميتها “مافيا”.
كما أن هذه الشركة متهمة بأنها تتعامل مع تنظيم داعش الإرهابي ولها علاقات عميقة مع التنظيم ومع جهاز الإستخبارات التركية الذي له شبهات إرهابية كبرى.
عناصر هذه الشركة يتواجدون على الأراضي الليبية وقد تم تسجيل حضور رسمي للعناصر المسلحة السورية ضمن تشكيلات الميليشيات التي يستهدفها الجيش العربي الليبي خاصة خلال عملياته التي قتل فيها قرابة عشرين من هذه العناصر اغلبهم يحملون الجنسية السورية وذلك يوم 20 ديسمبر 2019 في غارة جوية بمحيط مدينة سرت.
كما ظهرت هذه العناصر في محاور متعددة من العاصمة طرابلس وخاصة في محور صلاح الدين، كما أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، إرسال تركيا مجموعات من المسلحين من شمال سوريا للقتال في معارك طرابلس ومصراتة.
و قال مدير المرصد إن العناصر المسلحة التي تم إرسالها تتبع تنظيمات فيلق الشام، وألوية السلطان مراد، وشكلت العناصر من الأصول السورية التركمانية غالبية تلك المجموعات، التي سبق أن ارتكبت العديد من الجرائم ضد العرب والأكراد علي حد سواء خلال عمليات تركيا في سوريا : “درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام”..
وعلى غرار لجوء تركيا إلى الطيران المدني لنقل المسلحين من سوريا إلى الأراضي الليبية، لتفادي الهجوم والإستهداف، من المرجح أن تستخدم تركيا شركة الأمن الخاصة لتقنين عمليات إرسال المسلحين السوريين ولاسيما التركمان الذين يدينون بالولاء للمشروع التركي ويرتبطون بالقرار الإستراتيجي لأنقرة.