السبت. نوفمبر 23rd, 2024

تقرير من إعداد الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية

ما هي أهمية البحر الأسود؟

 وهل سيدخل العالم في منعرج جديد الحرب البحرية؟

تحول البحر الأسود إلى مركز اهتمام دولي وساحة صراع بين الدول العظمى وخاصة وأن كل الخبراء والمستشرفين يرون أن الحرب القادمة هي حرب البحار وستكون أكثر شراسة من الحرب البريّة.

وقد برزت أهمية البحر الأسود بعد إسقاط مقاتلة روسية لطائرة تابعة للقوات الجوية الأمريكية فوق البحر الأسود، مما اثار حفيظة واشنطن واعتبر أن موسكو قد تخطت الخطوط الحمراء،وفي المقابل موسكو قد ردت بالآلية التي تفهمها واشنطن، يشير هذا الحادث إلى عدم سماح روسيا للتواجد الأمريكي الذي يُستخدم لإمداد أوكرانيا بمعلومات استخبارية دقيقة وكذلك عدم السماح لوشنطن بمواصلة التطاول على الأراضي والبحار “الخاصة” بروسيا الإتحادية.

وبالرجوع الى قواعد اتفاقية مونترو المتعلقة بمضيق البوسفور والدردنيل اللذين يربطان البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط، فإن البلدان التي تقع على البحر الأسود لديها وصول غير محدود، لا يجوز للبلدان غير المقيمة إرسال السفن إلا لفترات قصيرة وتكون محدودة بحجم السفينة. لذلك فالناتو في كل مرّة يحاول تجاوز الإتفاقية ويريد أن يقدم الخدمات الإستخباراتية والعسكرية لأكرانيا من بحر الأسود الذي يعتبر نقطة ضعف أكرانيا ونقطة قوة موسكو.

ولهذا يحتاج حلف شمال الأطلسي إلى دعم واسع النطاق من الدول التي تتشاطر شواطئ البحر الأسود، فأوكرانيا ورومانيا وجورجيا من الممكن أن تتيح لسفن حلف شمال الأطلسي الوصول لموانئها، لكنها تفتقر القدرات البحرية اللازمة لتقديم دعم عسكري كبير وهذا طبعا تدركه تماما موسكو وتضغط من خلاله وحسب تقييمنا فإنّ الهزيمة الكبرى للناتو ولأكرانيا ستكون من البحر الأسود.

كما يمثل البحر الأسود رهاناً استراتيجياً عسكريا للطرفي النزاع فهو بمثابة المختبر المفتوح للقوى العسكرية فهو يؤكد على استمرار اختبار القوة المفتوح بين موسكو وحلف شمال الأطلسي انطلاقا من أوكرانيا.

وأهمية البحر الأسود تكمن أنه يضع موسكو وحلف “الناتو” وجها لوجه، مما يزيد من خطر المواجهة المباشرة بينهما والتي ستكون عواقبها كارثية على الكورة الأرضية لما يكتسبه الإثنين من قوة مدمّرة فحتى الخيال العلمي أصبح حقيقة، بات متوقعاً أن التنافس الدولي في البحر الأسود سيتصاعد بوتيرة أسرع خلال المرحلة المقبلة، ما يرمي بظلاله على أمن الطاقة العالمية والأمن الغذائي.

كما أن استكمال موسكو السيطرة على الساحل الأوكراني لا سيما بعد السيطرة على بحر “أزوف” يجعل من أوكرانيا دولة من دون منافذ بحرية أساسية، ما يقلب موازين القوى في الصراع.

وبالنسبة للإتحاد الأوروبي فهو كان يعوّل كثيرا على التواجد الحلف الأطلسي وعلى أكرانيا ولم يقرأ الحسابات المستقبلية بالرغم من أهمية البحر الأسود له خاصة في مجال الطاقة اذ لم يكن لاعباً أساسيا فيما يتعلق بالأمن واليوم وبعد الحرب الأكرانية والسيطرة الكلية لموسكو على معابر البحر لم يجد الآن، الظروف المؤسسية أو المادية للعب دور حقيقي في منطقة البحر الأسود وبحر قزوين الكبرى.

خطورة البحر الأسود في هذه الفترة ومستقبليا

أصبح البحر الأسود منطقة ساخنة بسبب التوترات العسكرية والجيوسياسية بعد إنهاء العمل بصفقة الحبوب. وبعد الاستهداف الثاني لجسر القرم بات البحر الأسود منطقة خطرةً للملاحة ومنطقة حرب وثيقة الصلة بحلف شمال الأطلس ما يثير القلق بشأن التصعيد وجر الحلف إلى صراع مباشر مع القوات الروسية وهناك من يرى من أن موسكو تحاول جرّ الحلف الى الإنخراط في حرب ستكون القاضية على الحلف بل وإلحاق الهزائم به، وربما ستكون نهاية حلف الناتو وتشتته في البحر الأسود وما سينجر عنه من “تشرذم” للإتحاد الأوروبي.

كما تشكل الضربات التي توجهها أوكرانيا وطبعا من ورائها حلف الناتو وخاصة الأمريكان لأسطول البحر الأسود الروسي لا سيما سفينة الإنزال “أولينغوروسكي غورنياك” تطوراً جديدا في الصراع، حيث تعد سفينة الإنزال “أولينغوروسكي غورنياك” أكبر سفينة روسية تتعرض لهجوم وموسكو لن تسكت وبدأت فعلا في ردات فعل قاتلة وموجعة للأسطول الناتو وخاصة اسقاط طائرات الجوسسة فالفعل وردات الفعل بين الطرفين بدأت في التصعيد المباشر.

يشير تصاعد الصراع في البحر الأسود إلى جرأة أوكرانيا ومن ورائها لمهاجمة السفن الحربية الروسية في هذه المنطقة كذلك الناقلات الروسية، واستهداف القواعد العسكرية بالبحر الأسود في عمليات إستفزازية وإستكشافية، خاصة من خلال الهجمات بطائرات بدون طيار على الناقلات الروسية في البحر الأسود بمضيق “كيرتش” إلى فتح جبهة جديدة محتملة في حرب أوكرانيا و إرسال رسالة قوية إلى روسيا لاستهداف شحنات موسكو من النفط والوقود وطبعا الدب الروسي لن يسكت وستكون ضرباته موجعة جدا ليس لأكرانيا وإنما لحلف الناتو لواشنطن.

الخوف من الشتاء وفقدان الغذاء

ومعركة السيطرة على البحر الأسود والهجمات الروسية على صوامع الحبوب والبنية التحتية للموانئ على ساحل البحر الأسود ونهر “الدانوب” تشكل خطراوتداعيات على أسواق الطاقة العالمية والإمدادات الغذائية العالمية خاصة الأوروبية التي لم تجد الى اليوم ومنذ إندلاع غالحرب في أكرانيا البديل للغذاء الروسي ولا للطاقة الروسية، وهذا ما شكل كذلك تحديات جديدة لحلف شمال الأطلسي خاصة أنه يسعى إلى دعم حرية الملاحة في البحر الأسود وهذا ما يفسر العمليات الاستخباراتية و زيادة عدد رحلات الاستطلاع الجوية للحلف التي إترضتها القوى الجوية والبحرية العسكرية “البوتينية” .

ومن المتوقع أن يعتمد حلف شمال الأطلسي استراتيجية مركزة في البحر الأسود تعززموقف الدفاع والردع الإقليمي للحلف بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، بالإضافة إلى معالجة نقاط الضعف وإيجاد حلول لعدم توافق الحلفاء، لا سيما بين حلفاء الناتو في البحرالأسود وذلك لمنع قدرة روسيا على تأمين قدرات دفاعية أكثر قوة في البحر الأسود. وهنا سيكون حلف الناتو في مأزق كبير جدا بين الحرب البرية والأعانات العسكرية لكييف وبين تعزيز قدراته في البحر الأسود وكذلك لا ننسى تركيزه الكبير على بحر جنوب الصين التي تقتنص الصين فيه الفرصة من أجل السيطرة وسيطرد الناتو من هناك في حرب ستكون الأقوى في تاريخ البشرية.

حصار روسيا للناتو من البحر الأسود وحصار الصين للناتو من بحر جنوب الصين

لضرب الناتو في المقتل وخاصة في نقطة ضعفها البحرية كان من خلال البحر الأسود وهو تكتيك وتخطيط روسي عالي المستوى وفي قلب جهود روسيا لتوسيع نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي عبر التاريخ، إذ سهلت الموانئ على طول المياه الدافئة التجارة على مدار السنة. وقد وفر هذا الموقع وهو مفترق طرق جيوسياسي لروسيا مكاناً لإبراز قوتها السياسية في أوروبا والشرق الأوسط وما وراءهما.

فالسيطرة على البحر الأسود هو هدف حرب واضح لروسيا وأحد الأسباب التي دفعتها في عام 2014 إلى ضم شبه جزيرة القرم، وهي شبه جزيرة كبيرة على الساحل الشمالي للبحر، عندما أطيح برئيس أوكرانيا الموالي لروسيا في تمرد قادته الولايات المتحدة الأمريكية ووضعت “البهلوان” زيلنسكي.

وبالتالي أصبحت منطقة البحر الأسود خط صدع مركزي في المنافسة الاستراتيجية بين روسيا والغرب المنشق اليوم وشبه المنهزم في مواجهته البحرية مع الدب الروسي الأقوى في أسطوله البحري وفي غواصاته النووية.

 كما أنها مفترق طرق لمساحة أمنية تشمل جنوب القوقاز وشرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وغرب البلقان وعقدة عبور مهمة بين أوروبا وآسيا. وفي حين ضمنت بعض الدول الساحلية عضوية حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فإن جميعها عالقة بدرجات متفاوتة في وسط المنافسة الاستراتيجية التي تتكشف بين روسيا والغرب الأوروبي الأطلسي.

وفي هذه الحالة فإن وشنطن لم يبقى لها حل سوى التضحية بأسطورة F16 والثمن سيكون أكبر وهو تأمين حماية من طائرات F16 لهذه المسيّرات وبالتالي ارتفاع خطر الاحتكاك المباشر مع المقاتلات الروسية، لأن واشنطن ترفض الأمر الواقع والهزيمة وستواصل طلعات طائرات الاستطلاع فوق البحر الأسود نظراً لأهمية المعلومات التي يمكن الحصول عليها عن تحركات الجيش الروسي والأسطول البحري في شبه جزيرة القرم وقربها، ونقل هذه المعلومات للجانب الأوكراني لمساعدته على صد أي هجوم روسي محتمل أو تقديم دعم لهجوم أوكراني على منطقة محددة… ولكن لن ترضى موسكو بهذه الخطة الأمريكية الغربية وربما سيحدث ما لا يتوقعه الغرب من الهجومات الروسية فمنطق بوتن ليس الدفاع وإنما الهجوم المباغت والقاتل.

الخلاصة:

ما أظهرته الحرب في سوريا وفي أكرانيا ان كل من موسكو والناتو تحترم قواعد الإشتباك، وهناك صلاحيات محدودة لدى القاد الفنيين والعسكريين من أجل تجنب أي تصعيد او انزلاق في الحرب لايخدم جميع الأطراف.

 ولكن الوضع الميداني ومجلس حكام العالم أو كما يحلو للبعض تسميتهم “الضلال” ربما يتغيرون وموازين القوى تصبح هي العامل في تحديد مناطق النفوذ والسيطرة. والكثير من المؤشرات تدلّ على ذلك منها أن هناك رغبة من حلف شمال الأطلسي المعلنة في تجنب المواجهة المباشرة مع روسيا، وفي نفس الوقت يقول الناتو مخاطر وقوع حادث غير مقصود يخرج عن نطاق السيطرة يتزايد منذ بعض الوقت وهذا ما يدل أنّ مجلس حكّام العالم اليوم يتغيّرون وما ينادي به الرئيس الروسي والصيني وكل قوى العالم التي تريد “الإنعتاق” من نظام عالمي متوحش بدأت تدرك معالم الفوز والهزيمة والخريطة الجيوسياسية والجيونفودية بدأت تتشكّل.

كما أن كل المؤشرات تدلّ على منطق جديد وهو أنّ رقعة الحرب خارج الحدود الأوكرانية قد إتسعت، خاصة وأن البحر الأسود نقطة مرور مهمة للسفن المدنية التجارية، وهذا التوتر ينعكس على حركة هذه السفن وربما يجعلها هدفاً في مرمى النيران الروسية أو الأوكرانية بالخطأ أو بفعل فاعل فالإحتمالين واردين، هذا ما يرجح فتح جبهات صراع جديدة بين أطراف أخرى.

كان حلف الناتو يعتبر البحر الأسود من تحصيل الحاصل وتمّ إغفاله بالرغم منأهميته ومن ثم عدم اهتمامه بتعزيز وجوده العسكري أو زيادة عدد دوريات السفن في هذه المنطقة، يكشف عن خطأ كبير في استراتيجية حلف الأطلسي رغم إدراكه الجيد لحجم نفوذ الأسطول الروسي وأهمية هذا البحر الاستراتيجية لموسكو، لذا ستشهد المرحلة المقبلة مزيداً من التحركات من قبل الولايات المتحدة وحلفائها بالناتو لتعزيز قوة رومانيا وبلغاريا وجعلهما بوابة الحلف لتأمين وجوده في البحر الأسود، بجانب وجود تركيا الذي يمثل نقطة توازن بين الطرفين الروسي والغربي رغم أنها جزء من الناتو.

وجود الناتو في البحر الأسود سيدفع إلى احتدام سباق التسلح التقليدي عالمياً، في ظل بحث كل الدول المطلة على هذه المنطقة لتعزيز وجودها العسكري وحماية مصالحها الاقتصادية والتجارية هناك وفي المقابل يتمدد التنين الصيني في بحر جنوب الصين وفي إفريقيا وبالتالي تشتيت كل الجهود العسكرية الأمريكية وحلف الناتو المهدد بالتشضي.

التوتر الراهن في البحر الأسود يتعلق بإمكانية عودة روسيا لاتفاقية الحبوب، ويتوقف هذا الأمر على درجة التجاوب مع طلبات روسيا في هذه الاتفاقية، لذا من المرجح أن يستمر هذا التوتر لمدة طويلة لتمسك موسكو بشروطها من ناحية وهي كذلك تراهن على تعنت الأطراف الأخرى في الاستجابة لها.

By Zouhour Mechergui

Journaliste