الأثنين. مايو 13th, 2024

اعداد فاتن جباري قسم العلاقات الدولية و الشؤون الاستراتيجية

مراجعة الدكتورة بدرة قعلول

تقديم :

حدث إستثنائي أعلن عنه رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد خلال اجتماعه بمجلس وزاري  تمثل في إصدار الأمر عدد 589 المؤرخ في 21 سبتمبر 2023 والمتعلق بتحديد تراب أقاليم الجمهورية التونسية والولايات الراجعة بالنظر لكل إقليم في الحادي والعشرين من سبتمبر 2023، بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.

حيث تم الإعلان عن انتهاء العمل الميداني بنسبة 100 بالمئة المتعلّق بتحديد المناطق الترابية وإنجاز الخارطة الإدارية للبلاد التونسية، إذ شملت جولات الفرق الميدانية المُكلّفة برسم وضبط الحدود الترابية للعمادات تمهيدا لانتخابات أعضاء المجالس المحلّية كلّ معتمديات البلاد.

في إحصائيات رسمية صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء تُعاني تونس راهناً من تفاوت جهوي كبير وفق كل المؤشرات. ففي العام 2013 نالت 18 بلدية وهي تونس العاصمة وضواحيها المرسى وحلق الوادي وسيدي بوسعيد وقرطاج 51 في المئة من ميزانية الدولة للبلديات، فيما لم تنل الـ246 بلدية المتبقية سوى 49 في المئة وقد وجدت دراسة لمنظمة العمل الدولية أن ثمة مركزية خانقة  في مختلف المناطقحين تجري المقارنة بالإستناد إلى معدلات الفقر، والقدرة الشرائية، ونوعية ومدى قرب الخدمات العامة وفي آخر ميزانية لنظام  الرئيس السابق قُبيل سقوطهتم تكريس قرابة ال 82 في المئة من مخصّصات الدولة للمناطق الساحلية، فيما لم يحصل الداخل سوى على 18 في المئة !

منظومة تركت منوالا تنمويا كارثي واقتصاد منهار وزادته منظومة العشرية السوداء إنهيار بل وتفاقم الفساد ليبلغ ذروته ويشرف على إنهيار الدولة التي يمكن تسميتها “الدولة الهشّة” رغم ما تنعم به البلاد التونسية من كل خصائص  ومقدرات الثروة الطبيعية والبشرية.

في تتويج لإحدى منبثقات 25 جويلية 2022  تم اصدار أمر من أولى اولياته القطع مع ما كان سائدا في تجربة السابقة، والذي نص على التحديد الترابي لجميع عمادات الجمهورية وفق منوال تنموي جديد.

اذ يتكوّن تراب الجمهورية التونسية من خمسة أقاليم وتُضبط حدودها على النحو الذي يضمّ فيه:الإقليم الأول ولايات بنزرت وباجة وجندوبة والكاف،

ثم الإقليم الثاني ويضمّ ولايات تونس وأريانة وبن عروس وزغوان ومنّوبة ونابل

ثم الإقليم الثالث ويضم ّولايات سليانة وسوسة والقصرين والقيروان والمنستير والمهدية

ثم الإقليم الرابع ويضمّ ولايات توزر وسيدي بوزيد وصفاقس وقفصة

–         والإقليم الخامس ويضمّ ولايات تطاوين وقابس وقبلي ومدنين.

هل يمكن لهذا المجلس أن يساهم في تنمية الجهات الداخلية؟

بعد أن كان البرلمان المنحل  في تونس صاحب السلطة قبل ال 25 من جويلية 2022 تقلصت صلاحياته  في مشروع الدستور الجديد وأضيفت إليه غرفة ثانية وهي “المجلس الوطني للجهات والأقاليم”.

سيعاضد وظيفة البرلمان ويفعّل مبدأ اللامركزية ويساعد في تحقيق التنمية الجهوية المعطلة منذ أكثر من 10 سنوات  في مجالات خدماتية متنوعة و أكثر قربا بين المواطن و الإدارة  “الفلاحة، الصحة، الصناعة، التعليم، الأمن”.

ستُؤدي اللامركزية، إذا ما طُبقت على نحو سليم  وفق نسيج تنموي شامل وعادل يقطع مع المركزية الخانقة والتهميش ويؤسس لتوازن الميزان التنموي في كل قطر من اقطار البلاد و في كل عمادة من الخريطة الجغرافية  للبلاد التونسية :إلى تعزيز الأطراف المحلية في كل اقليم من  الجمهورية وتمكينها من اتخاذ القرارات المتعلّقة بالبلديات والجهات، مايُوفّر تغييراً حقيقياً لصالح قواعدها الشعبية.لأن المعضلة الرئيسية التي واجهها التونسيون في ما مضى هو هيمنة النظام المركزي الذي انعكس سلباً على البلدياتالتي تحوّلت إلى  بؤر حزبية  متغولة وتنهب من مال الشعب وتابعة ومجرّدة من الصلاحيات بل خلقت بيروقراطية مُكلفة ومعطلة لكل استثمار ذي منفعة وشوّهت صورة البلدياتالتي كان من المفترض أن تقوم بدورها والعشرية السوداء هي من أفسد المهام الحقيقية للبلديات وحتى “نظام بن علي” لم يقم بضرب البلاديات بل جعلها في جزء منها تتنافس من أجل تحقيق متطلبات الشعب.

قد يُنتج هذا طبقة سياسية جديدة خارج إطار الأحزاب السياسية التي لطالما هيمنت على تونس، كما قد يوفّر المزيد من الفرص أمام النساء والشباب لطرق أبواب العمل السياسي.

أن تحسّن اللامركزية كذلك إيصال الخدمات على الصعيد المحلي، حيث أسفر الأداء البائس منذ ثورة 2011 وخلال العشرية السوداء  عن تبخّر الثقة بين المواطنين وبين الدولة، وأيضاً إلى انخفاض عائدات الضرائب.

تتطلّب هذه المرحلة بالذات إرادة سياسية قوية من قِبَل المسؤولين في الحكومة المركزيةالذين يتعيّن عليهم أن يتخلّوا طوعاً عن بعض سلطاتهم وأن يؤكدوا التزامهم بالحوكمة التشاركية على المستوى المحليوتوفير الفرص لانخراط المواطنين ومنع إعادة إنتاج المؤسسات غير الفعّالة بتغيير القواعد الشعبية التي قد تزال محسوبة على احزاب و تيارات لها تجارب مأساوية ولكنها اصبحت هجينة أي غير معلومة.

و بالتالي فأن كل المشاريع المتعلقة بميزانية الدولة، ومخططات التنمية الجهوية، والإقليمية، والوطنيةتُعرض وجوباً على المجلس الوطني للجهات والأقاليم  بما يضمن التوازن بين الجهات والأقاليمولا يمكن المصادقة على قانون المالية ومخططات التنمية إلا بالأغلبية المطلقة لكل من المجلسين كما يمارس هذا المجلس صلاحيات الرقابة والمساءلة في مختلف المسائل المتعلقة بتنفيذ الميزانية ومخططات التنمية.

كيف تم ضبط صلاحيات المجلس ؟

يضم المجلس القائم نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم بما يضمن معرفتهم الشاملة بنقائص جهاتهم والمشاريع التي يمكن احداثها بها في اطار النهوض التنموي ومن ذلك الأقاليم الحدودية او الساحلية او التي ترتفع فيها الكثافة السكانية او التي يرتكز فيها النشاط التنموي على الفلاحة او الصناعة او قطاعات اخرى كالمناجم …

تجربة ذات تقنية مزدوجة وقع استعاضها من  التجربة الإنجليزية في انقلترا عندما ظهر “مجلس العموم” إلى جانب “مجلس اللوردات”، لتنتقل التجربة بعد ذلك إلى دول عدة في العالم  كما ينتشر الازدواج البرلماني في نحو ثلاثة أرباع دول العالم اذ اثبت هذا النظام على حد تعبير خبراء كثيرين مدى جدواه في الحد من نقائص النظام المركزي بالعاصمة على حساب الجهات الداخلية الأخرى بما يخلق تكاملا بين الولايات والجهات الأكثر تطوراً وديناميكية اقتصاديةواجتماعية مع الأخرى الأقل حظاً والأكثر تهميشاً، ضمن كيان إقليمي موحد.

هل سيتعارض دور المجلس مع مجلس نواب الشعب؟

يعتبر مجلس نواب الشعب مرفقا تشريعيا بامتياز وكان من نقائص المجالس المنقضية علاوة على ما خلفته من ركود وقصر نظر لما يحصل على مستوى المنظومة التنموية الشاملة بالبلاد وهو ماخلف عقدة جماهيرية لدى التونسيين عنوانها التهميش واللاعدالة، ستحرص هذه التجربة النموذجية  على رسم سياسة تقطع مع اخطاء الماضي حيث سيكون هناك تكامل هام بين المجلسين على كافة المستويات وخاصة على مستوى تقديم التصورات ودراسة مشاريع القوانين الهادفة الى تكريس حقوق المواطنة من خدمات النقل، البنية التحتية، المنظومة الفلاحية،  بناء السدود، شبكة الطرقات، التشغيل، بناء المستشفيات، دور الرياضة والشباب…

الخلاصة:

 من بين اكبر التحديات اللوجستية التي ستقف عائقا اما هذه التجربة هي أن قانون السلطات المحليةالمعروف في تونس بـ”مجلة الجماعات المحلية” والذي يتحكّم بالعملية اللوجستية كلها  والذي يرى مختصون  ضرورة تغييره بشكل جذري نظرا لمدى تعقده وصعوبة تجسيده على ارض الواقع بما لا يتناسب و خصائص الرسم البنيوي لهيكلة المنظومة المحلية والجغرافية للبلاد التونسية.

  واذ لا يخفى وان التخلص من المركزية هي عملية مديدة زمنياًبما  يمنع القدرة على تفعيل وتجسيدها في مجال السياسة العامة في وقت تتالى فيه المطالب الشعبية بسرعة تغيير الوضع الذي اصبح لا يحتمل الا أن الإرادة السياسية لدى الحكومة الوطنية هي أكثر العوامل حسماً لتحقيق النجاح.

By admin