فاتن جباري: باحثة بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمني والعسكرية بتونس
تقديم :
يقول العلامة عبد الرحمان ابن خلدون أن ”العدل أساس العمران و الظلم اذن بالخراب ”، اذ من غيرالممكن النهوض بالمجتمعات و الشعوب و تحقيق الأمن والتنمية دون وجود مرفق قضائي يحمي المواطن ويضمن أمنه و عرضه وماله و يصوب أخطاءه ويعيده انسانا سويا في المجتمع حتى وإن زلت به قدمه إلى الرذيلة في يوم ما وهذا بالاعتماد على منظومة سجنية دأبها الإصلاح واعادة التأهيل واحترام كرامة الذوات البشرية .
تعجز المقاربة الأمنية وحدها عن الحدّ من الجريمة في تونس، على الرغم من مجهوداتها اليومية في ملاحقة المجرمين الفارين و تقفي اثار الجريمة و أستباق مخاطرها و تقديمهم إلى العدالة وهي الحلقة الأخطر حيث تعيش المحاكم التونسية على وقع انهيار كارثي لهرم عدلي لم يتطور ووضعية مزرية لشتى الاطراف المتداخلة في هذا المرفق بدءا من المواطن البسيط وصولا الى أعلى سلم قضائي امام الحجم المهول لعدد قضايا الحق العام دون وجود بنية تحتية مرقمنة أو مسار اصلاحي في جوهر السياسة الجزائية التي ورغم ترسانة القوانين و التنقيحاتإلا وانها وصفت بالعقيمة مقارنة بتجارب دولية متقدمة و رائدة ارتقت الى الصفر جريمة ومنها الإسكندنافية و بعض دول الخليج العربي كمثال يحتذى به .
يفوق عدد السجناء في تونس 25 ألفا، موزعين على 27 سجنا و6 مراكز إصلاح في عموم البلاد وفق إحصائيات رسمية منذ 2021 [1]، يكشف ذلك عن منظومة سجنية بقيت بعيدة كل البعد عن أبسط ظروف عيش الانسان فوراء القضبان هناك واقع صادم حول الظروف الصحية ،الجسدية والنفسية الصعبة في السجون التونسيةحيث وصلت نسبةالاكتظاظ داخل السجون إلى أكثر من 170 بالمائة وهو مايفوقاضعاف الاضعاف من الطاقة الاستيعابية للوحدات السجنية من حيث النزلاء و الادارة السجنية و الاعوان المكلفين بالمراقبة بما ينذر بانفجار المؤسسة السجنية هذا وفقا لاخر تقرير صادر عن منظمة الامم المتحدة [2]
مقاربةً شاملة يتداخل فيها واقع المنظومة الجزائية والسجنية التونسية بالمعطى الثقافي و التربوي والاجتماعي والسياسي في ضلوضعية هشّة تعيشها مؤسسات الدولة منذ اكثر من عشر سنوات .
المجتمع و خطورة التطبيع مع الجريمة
يندرج الواقع التونسي اليوم ضمن أسوء مؤشرات الجريمة حيث تكشف الأرقام والإحصائيات التي تنشرها بعض الهياكل والمؤسسات الرسمية عن تنامي ظاهرة العنف و القتل والتي بدأت في الفترات الأخيرة تأخذ منحى مخيفا جدا اذ تستفيق البلاد يوما بعد يوم على حوادث اجرامية متنوعة ومتوزعة على كل اقطار البلاد ،فأكثر من 1899 حالة اشعار تلقته وزارة الأسرة والمرأة و الطفولة و كبار السن بخصوص حالات العنف التي تستهدف هذه الفئات الضعيفة من المجتمع ، خصوصا حالات العنف الزوجي التي تتراوح بين 80 و85 %..[3]
كما شكّل منسوب الجريمة المنظمة إرتفاعا ملحوظا تجاوز عتبته الـ52 بالمائة من حوادث الجريمة التي تنوعت بين ” البراكاجات ” والسرقة الموصوفة وجرائمالقتل.
وفق ما أورده تقريرللمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعيةالمتعلق ب “الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف ” ومثّلت النساء والقصر أحد أكثر الفئات تضررا من العنف الجنسي الذي تجاوزت نسبة 18.5 بالمائة من المجموع العام للعنف المرصود .[4]
في ظل ما يصفه إخصائي علم الاجتماع بتحول الشارع التونسي الى مستنقع اجرامي تكمن اسبابه في حالة الوهن والارتباك السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، التي تعيشها تونس منذ عام 2011 بما ساهمفي هشاشة البنية العامة للمجتمع و ولمؤسسات الدولة و الإعلام ومختلف وسائل التواصل الأمر الذي أدى الى تفكّيك النسيج المجتمعي وبخسّت قيمة الحياة وأفقدتها معناها فأدت الى ما يسمى بخطورة “التطبيع” مع الجريمة.
الإشكاليات الهيكلية للمنظومة القضائية:
تعيش المنظومة القضائية منذ فترة طويلة صعوبات كبرى ازدادت تفاقما بعد قيام الثورة وأصبح الوضع داخل مختلف المحاكم يتسم بالتعقيد إذ أدى تراكم جملة من العوامل إلى هذا الوضع ومن بينها محدودية الموارد البشرية مقابل تضخم عدد القضايا ومحدودية الإمكانيات المادية للمنظومة القضائية ممّا أدّى بصورة إجمالية إلى تأخير البت في القضايا مع ما يشمل ذلك من تبعات اقتصادية سلبية
من جهة اخرى شكلت محدودية الموارد البشرية عائقا مقابل تضخم عدد القضايا فتسيير المنظومة القضائية يقتضي تدخل عديد الأسلاك على غرار سلك القضاة والكتبة إضافة إلى سلك مساعدي العدالة المتكون عدول التنفيذ والإشهاد والمحامين، فعدد القضاة اقل بكثير من حجم القضايا المطروحة حيث يبلغ عدد الملفات الغير المفصولة بعد 450 قضية لكل قاض شهريا. بما يعكس وضعية المنظومة القضائية التي لطالما اتسمت بالهشاشة بالنظر إلى نقص عدد القضاة داخل المحاكم وكثرة تعقيد الإجراءات المتبعة في فصل النزاعات .
وبالرغم من محاولات تقويم المسار الاصلاحي الجزائي إلا أنه لا يزال يشكو من عديد الصعوبات لعل اهمها محدودية الإمكانيات المادية للمنظومة القضائيةعلى غرار الإشكاليات البشرية للمنظومة القضائية، تأخذ الإشكاليات المادية وخصوصا منها عدد المحاكم مقارنة بمعدلات الكثافة السكانية والاختصاص الترابي بحسب الولايات و عدد القضايا المنشورة بما يعطي حيزا هاما من العراقيل التي تواجهها هذه المنظومة المحدودة من حيث التجهيزات التي أصبحت مهترئة و ضعف الإمكانيات المادية المتاحة و الخزينة و الارشيف وقاعات الجلسات و المكاتب … إضافة إلى ذلك فإن تأخير البت في القضايا ذات الصبغة التجارية او المتعلقة بأنشطة البنوك و غيرها من النزاعات العقارية لها تداعياتهاالإقتصاديةوفي مجال الاستثمار خاصة فعمل القضاة يؤثر على الدورة الاقتصادية بشكل مباشر اذ ان طول الإجراءات وإصدار الحكم المناسب يتطلب من القاضي وقتا طويلا للفصل في الملفات .
إن انتهاج سبيل إصلاح المنظومة القضائية يمر حتما عبر أراء وقرارات أهل الاختصاص فهم على بينة من الإشكاليات والصعوبات التي أثر تواترها على حسن سير الجهاز القضائي لذلك فإن الحلول المقترحة تعبر عن مواقف كل الفاعلين سواء القضاة وغيرهم من المتدخلين في المنظومة القضائية. ولئن شكل الدستور التونسي منعطفا في تاريخ القضاء التونسي لتكريس مبدأ استقلالية السلطة القضائية من خلال الإصلاح الهيكلي والوظيفي لمرفق العدالة الذي يعد إرسائه من أهم الاستحقاقات وتطلعات الشعب التونسي ، فإن إصلاح القضاء وضمان استقلاله يعتبران شرطين أساسيين لضمان الممارسة الديمقراطية في دولة تحترم سيادة القانون. لذلك لا بدّ من اقتراح الأسس الكفيلة بهذا الإصلاح المتكاملوالتي يمكن أن تتجسد ضمناستكمال البناء التشريعي لجهاز القضاء وعلى رأسه المحكمة الدستورية بما يفترض اعتماد خارطة قضائية للاختصاص المكاني تتناسب مع التوسع العمراني والكثافة السكانية والتقسيم الإداري مع ضرورة اعتماد معايير واضحة تنهل من التجارب الدولية الرائدة كالإدارة الذكية و رقمنة المعاملات و المحاكمة عن بعد و تسهيل وصول المواطن الى المعلومة من خلا منظومة إرشاد رقمية توفر الزمن و التكلفة و التنقل و تخفف العبء عن المحاكم .ويكون ذلك من خلال بناء مؤسسات متكاملة و جديدة تكون ملائمة للعصر وتحدياته الراهنة تعوض منظومة تعود لسيتينيات القرن الماضي، وهو ما من شانه حماية الأطراف المتداخلة من أية إنزلاقات في اتجاهات سياسية أو اجتماعية خاطئة، علاوة على التسريع في استكمال البناء المادي للجهاز القضائي الإداري وتوفير الأجهزة التي تساعد القضاة في ممارسة مهامهم. [5]
منظومة سجنية أصبحت متعفنة
رغم مساعي الدولة الى ادراج مؤسسة العقوبة البديلة ضمن قانونها ، كالعمل لفائدة المصلحة العامة و اعتماد السوار الإلكتروني و التعويض الجزائي الا وان الواقع العملي يبقى عكس ذلك في اشارة لعزوف المؤسسات الى استقبال المحكوم عليهم بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة حيث مازالت نظرة المجتمع تتسم بمدى رفض أصحاب السوابق العدلية كشكل من اشكال الاقصاء و التهميش التام …كما ان الثقافة الجزائية في تونس لم تستوعب بعد ألية اعتماد السوار الالكتروني عوض الحكم بالسجن
فلقد باتت البنية التحتية لغالبية السجون مهترئة وهي في الأصل بنايات تراثية أو فلاحية أو ثكنات غير مؤهلة لاستقبال سجناء بما جعل الغرف ضيقة وتفتقر للتهوية والإضاءة وشروط النظافة بالإضافة إلى الاكتظاظ ووضع غرف الاستحمام ودورات المياه التي تساهم في انتشار العدوى بعدد من الأمراض الخطيرة وكلّها عوامل تؤثر سلباً على الوضع الصحي و النفسي للنزلاء. ذلك ان ضعف الإمكانيات والبنية التحتية والاكتظاظ في السجون صعّبت تدخل إدارة السجون التي باتت غير قادرة على إجراء التدخل الطبي اللازم بسبب ضعف مواردها المالية البشريةبحسب ما يؤكد القائمون على السجون التونسية.
بالرغم من الإصلاحات والتحسينات التي تسعى اليها وزارة العدل بالتنسيق مه الهيئة العامة للسجون والاصلاح فإنّ ظروف السجون التونسية ما زالت دون المعايير الدولية المطلوبة ،[6] ففي تقرير صادر عن الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب يشير الى تجاوزات عدة كمستوى الحيز المكاني المخصص لكلّ سجين (الحد الأدنى 4 أمتار مربعة) إلى جانب عدم توفر المطاعم الخاصة بالسجناء بالإضافة إلى وضع دورات المياه والحمامات السيئ. اضافة الى أنّ الهيئة تتلقى إشعارات متواصلة من قبل محامي السجناء وعائلاتهمتتعلق بسوء الرعاية الصحيةما دفع البعض منهمخصوصاً سجناء الحق العام، إلى الدخول في إضرابات عن الطعامكما قد تترتب عن أعمال عنف ضد او زيادة في استهلاك المخدرات و مواجهات العنف والشغب بما قد يحول السجن الى وكر لتعلم الانحراف و اساليب الجريمة للمبتدأين و الأطفال الجانحين و حتى الموقوفين على ذمة التحقيق الذين لم تصدر في شانهم احكام نهائية تقضي بالإدانة بعد . هذا ويبلغ عدد المساجين الموزعين على الوحدات السجنية 20504 سجين بين 10689 موقوف و.. محكوما وفق اخر تحيين للهيئة العامة للسجون والإصلاح [7] .
حتى اليوم ليس هناك من استراتيجية وطنية راسخة تعكس ارادة اصلاح السجون التونسية وفقا لما تفتضيه المعايير الدولية والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء وفقا لاتفاقية جونيف لسنة 1955 و تشملالمؤسسات المسؤولة عن انفاذ القانون و تنفيذ الأحكام وإعادة التأهيل و سلطات السجون والإصلاحياتو مراكز الاحتجاز كما تشمل مقاربة الإصلاح تحسين وضعية الإداريين وحراس السجن ودوائر الخدمات الاجتماعية والطبية والصحة العقلية التابعة لها إذ ينص المبدأ الدستوري على إعتبار وأن”لكل سجين الحق في معاملة إنسانية تحفظ كرامته وأن الدولة تراعي في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية مصلحة الأسرة وتعمل على إعادة تأهيل السجين وإدماجه في المجتمع”.
المصادر المعتمدة :
– بيانات وزارة العدل التونسية
– الادارة العامة للسجون والإصلاح تحيين سنة 2021.
– معطيات الهيئة الوطنية للوقاية من العذيب
– التحيين الشهري حول الإحصائيّات والمؤشرات المتعلقة بإشعارات العنف ضدّ المرأة ماي (2023) تحت عنوان “الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف “.
– تقرير صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
– تقرير صادر عن منظمة الامم المتحدة بخصوص السجون التونسية بين المعايير الدولية و الواقع
[1]– قائمة السجون بالجمهورية التونسية : 1- المرناقية، برج العامري، مرناق، الرابطة، منوبة، صواف، برج الرومي، الناظور، بنزرت، باجة ، الكاف، جندوبة، الدير، السرس، سليانة، سوسة ، المنستير، المهدية، القيروان، الهوارب، سيدي بوزيد، القصرين، قفصة
2 – مراكز الاصلاح: المغيرة ، قمرت، المروج، مجاز الباب، سيدي الهاني، سوق الجديد.
3- وحدات الإيقاف: المرناقية، برج العامري، مرناق، منوبة، بنزرت، باجة، الكاف، جندوبة، سليانة، سوسة بالمسعدين، المنستير، القيروان، سيدي بوزيد، القصرين، قفصة، صفاقس، قابس، حربوب، قبلي.
4- وحدات تنفيذ العقوبة: الرابطة، صواف، برج الرومي، الناظور، الدير، السرس، المهدية، الهوارب.
[2]– تقرير صادر عن منظمة الامم المتحدة بخصوص السجون التونسية بين المعايير الدولية و الواقع
[3]– التحيين الشهري حول الإحصائيّات والمؤشرات المتعلقة بإشعارات العنف ضدّ المرأة ماي (2023) تحت عنوان “الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف “
[4]– تقرير صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
[5]– بيانات وزارة العدل التونسية
[6]– معطيات الهيئة الوطنية للوقاية من العذيب
[7]– الادارة العامة للسجون والإصلاح تحيين سنة 2021.