«عدم اليقين» ربما كانت العبارة الأكثر تداولاً في الكتابات السياسية في المرحلة الراهنة من مراحل تطور البنى والأفكار السياسية. العبارة في حد ذاتها لا تعني الكثير. مثلاً لا تعني حال توقف أو شلل، وفي الوقت نفسه لا تعني بالضرورة حال سيولة. ولما كانت لا تعني الكثير لدى الكثيرين راح بعضهم في محاولة شرح ما يجري أو ما يرى ويراقب يستخدم عبارات أو كلمات مثل فوضى وعدم استقرار ومرحلة انتقالية أو ضبابية. المهم أيضاً أن العبارة كما نتداولها لا تشي باقتراب اليقين منا أو اقترابنا منه.
تدفعنا حالة عدم اليقين إلى تشغيل طاقتنا وربما عبقرياتنا أيضاً من أجل صنع هياكل جديدة إن صح التعبير للنظام الدولي في المستقبل. أعرف، كما يعرف كثير من زملائنا في هذه المهنة، أن اجتهاداتنا في هذا المجال لن تؤتي أكلها في وقت منظور، ليس لأن المعلومات تنقصنا أو لأن أقراننا في الدول العظمى على مستوى أكاديمي أو مهني أفضل، لكن لأن قوى نفوذ ومصالح مالية وسياسية جبارة تجتهد ومنذ مدة غير قصيرة من أجل أن تصب مختلف الاجتهادات الأكاديمية والاستخباراتية في هياكل وأفكار تخدم بالضرورة مصالحها. أقرأ باهتمام ما يكتبه أو يصرح به أو يغرده أشخاص مثل إيلون ماسك وبيل غيتس ووارين بافيت وعملاء لمخابرات غربية وروسية تقاعدوا شكلاً ويجتهدون عملاً. أقرأ أيضاً تسريبات حقيقية أو مزيفة وربما هي حقيقية ومزيفة في آن واحد، ومن كل ما قرأت وقرأه زملاء في بلادنا وبلاد أخرى في آسيا وإفريقيا يتأكد لنا أن اليقين الذي يسعون في أوروبا وأمريكا للاقتراب منه يتجاوز في تفاصيله وأغراضه كل ما يمكن أن تتوصل إليه خيالاتنا. يكفي أن نعرف أن حرباً في أوكرانيا نشبت ودمرت وقتلت عشرات الآلاف ولو استمرت لأفلست دولاً غنية، هذه الحرب كانت الطلقة الأولى في سعي أقطاب النظام الدولي نحو يقين طال انتظاره وآن استعجاله.
في ما يتعلق بنظامنا الإقليمي العربي لا أظن أن أحداً أو جهة أو مؤسسة انتهت إلى رسم خريطة فكرية واضحة عن الشكل المتوقع أو المأمول لهذا النظام في المستقبل. الأصعب من رسم خريطة لشكل النظام ومؤسساته هو صياغة قواعد عمله ومنظومة قيمه وتوزيع القوة في داخله، وبناء على هذا التوزيع يتعين إعادة ترتيب مكانات الدول الأعضاء ومواقعها ورسم جديد لحدود النظام من الداخل ومن الخارج.
نقرأ اجتهادات إعلامية بعضها يعكس في حقيقته رغبة في البكاء على ما ضاع وما هو على وشك الضياع، وبعض يعكس حال نشوة بما سيؤول إليه من مكانة مستحقة ومؤكدة، وبعض ثالث يعكس آمال هجرة من المكان تزداد مع الوقت وتتعمق. مخيف وخطِر ما يعكسه هذا البعض الأخير. فهمنا وتعلمنا أن الشعوب تهاجر إن ضاقت بها الحال وفشلت الدولة في توفير الأمن والرزق لها. أما أن تهاجر الدولة فمعناه أن النظام الإقليمي وقد تكون هذه الدولة من مؤسسيه صار عاجزاً عن حفظ أمنها أو أنه يقصر في تأمين وجودها.
لا يخفي عنا حال الدولة الساعية إلى الهجرة خشية اقتراب يقين يتهدد فيه أمنها ورزقها، هذه الحال صارت تعبّر عنها توجهات وسياسات أو أحياناً «لا سياسات» أكثر من دولة عربية. هذه الدول أصابها اليأس وهي في انتظار دعم يأتيها من نظامها الإقليمي العربي. إحداها أفلست خزائنها وأصاب العجز ميزانياتها، وأخرى تهدد أمنها وخرب الأجانب المسلحون بعض مدنها وأكثر زراعاتها ومصادر مياهها ونهبوا ثروتها المعدنية، وثالثة فقدت زهور شعبها عندما خرج شبابها إلى الخارج أملاً في وظيفة تدر قوت اليوم أو في خيمة تأويهم وأطفالهم، ورابعة هبط عليها الظالمون فاسودت في عيون مواطنيها الدنيا وساد الغم والهم ولم يجدوا من يمنعهم من النزول إلى البحر ففي انتظارهم قوارب الموت لتأخذهم إلى حيث لا يريدون ولا يريدهم أحد، وخامسة ضاعت من قادتها البوصلة فاختلفوا فيما بينهم وضاقت الصدور واحتدت الأنفس ولهم الآن في الشوارع أياماً وأسابيع، وسادسة وسابعة وثامنة هاجرت بالفعل وتبقى شعوبها في مكانها لم تغادر.
في الحالتين، حال النظام الدولي والنظام العربي، اليقين غير جاهز للتو. ليس خافياً أن الصين، وهي أحد اللاعبين الأساسيين الضروريين لتحقيق اليقين، غير مستعدة الآن لدفع ثمن باهظ من أجل مساهمة في استعجال أو استحضار هذا اليقين. تعتقد الصين اعتقاداً جازماً بأن الوقت يقف معها. اعتقاد ربما كان مصدره الأساس الأيديولوجي لثقافة أغلب قادة الحزب الشيوعي الصيني وربما كان مصدره حسابات دقيقة للقوة المتوفرة لدى الطرفين الأمريكي والصيني والاقتناع بأن الحلف الغربي يبقى دائماً مهدداً بالتفكك. أضف حقيقة أنه لم يعد من الأسرار التصاعد المتتالي في المشاعر الاستقلالية في صفوف الحلف الأوروبي، خاصة أن أخطاء واشنطن في قيادة الحلف تتزايد باستمرار.
وفي حال النظام العربي يظل اليقين غائباً وفي الظن أنه قد يغيب لمدة طويلة. فعلى الرغم من كل الجهود الدولية والإقليمية المبذولة من أجل تحقيق استقرار داخلي في عدد كبير من الدول العربية يظل نزيف الفقر والطائفية والحروب الأهلية مستمراً وحائلاً صلباً ضد نهاية سريعة لحالة عدم اليقين.