اعداد صبرين العجرودي: باحثة في علم الاجتماع
التمدد الاستراتيجي للقواعد العسكرية الفرنسية
تشكّل القواعد العسكرية البحرية والمتمركزة في القارة الأفريقية وشبه الجزيرة العربية اهمية قصوى في اظهار قدرات الانتشار خارج الحدود الفرنسيةومظاهر القوة العسكرية. فعلى الرغم من اهمية القوات المتركّزة في التجمعات الحضرية والبرية والجوية، الاّ أنّ فرنسا تعتمد اساسا على ثلاثة مناطق رئيسية تستعرض من خلالها قدرتها على نشر قواتها المسلّحة على راسها القارة الافريقية.
ومن هنا تتنوّع القواعد العسكرية الفرنسية وفقا لعديد الخصائص التي تساهم بطريقة او اخرى في دعم أي عملية عسكرية قد تقوم بها فرنسا في أي مجال كان. ومثال على ذلك، تعتبر قاعدة تولونالواقعة في ميناء تولون العسكري المركز البحري الرئيسي على ساحل البحر الابيض المتوسط الفرسي، من اهم القواعد التي تمثل نقطة مركزية تنطلق منها جل العمليات العسكرية الفرنسية خاصة منها البحرية والجوية فبالاعتماد على حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول التي تتموقع في ميناء تولون تمّ إطلاق العديد من العمليات الجوية أو التخطيط لإطلاقها وذلك ما حصل في كل من ليبيا وسوريا والعراق.
كما يعتبر ميناء داكار في العاصمة السينيغالية غرب افريقيا أحد اهم أوجه التدخل الفرنسي في القارة الافريقية، اذ ان لفرنسا القدرة على نقل قواتها وكل المواد الضرورية الى هذا الميناء، خاصّة وأنّه يشكّل ميناءً تجاريا شديد الاهمية لضخامة مساحة التخزين فيه، لذلك لا تتوانى فرنسا في استغلال الميناء في تدخلها في منطقة الغرب الافريقي.
وقد تركّزت الاستراتيجية الفرنسية القديمة للوجود العسكري والوحدات المشاركة فيه خلال العقود الماضية على تغطية مساحة جغرافية هامّة من منطقة الصحراء والساحل الافريقي استهدفت كل من ساحل المحيط الاطلسي والغرب الافريقي وافريقيا الوسطى.
من جانبه لم تمتد السيطرة الفرنسية العسكرية الى البحر الاحمر نتيجة حادثة فاشودة في عام 1898 التي انتهت بهزيمة فرنسا في مقابل انتصار المملكة المتحدة خلال حربهما على النفوذ في السودان الواقعة في شرق افريقيا، الا أنّ النفوذ العسكري الفرنسي يمتد من جهة اخرى على طرف المحيط الهندي في الجهة المقابلة مباشرة للطريق المؤدي الى البحر الاحمر عبر جيبوتي هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى المنفذ المؤدي الى الخليج العربي عبر ابوظبي. وبالتالي يمكن اعتبار أنّ الوجود العسكري الفرنسي مكثّف في هذه البلدان وبأشكال متنوّعة تمكّنه من الحصول على دعم العديد من المجموعات العسكرية الاخرى بإمكانات بسيطة.
خصائص الاستعمار الفرنسي للقارة الافريقية
القرن التاسع عشر، يعتبر هذا التاريخ بداية انطلاق الامبراطورية الفرنسية الاستعمارية الاكثر قوة في العالم بعد بريطانيا في القارة الافريقية. امتد الاستعمار الفرنسي الى اغلب دول شمال افريقيا على غرار تونس والجزائر والمغرب، وقد حقّقت هذه الدول استقلالها بعد حروب دامية.
كما تمكّنت فرنسا من بناء وزنها في افريقيا جنوب الصحراء، التي تعد موقعا استراتيجيا هامّا على مختلف الاصعدة، فكانت وجهتها الرئيسية منطقة غرب افريقيا وافريقيا الوسطى التي تمكّن كل بلدانها تقريبا من الاستقلال في عام 1960.
ويمكن القول أنّ فرنسا قد اعتمدت في استراتيجيتها الاستعمارية بعد استقلال هذه البلدان على جانبين رئيسين، وهما الجانب الاقتصادي التي من خلاله جعلت مستعمراتها في افريقيا تكثّف اعتمادها عليها بحيث تعجز عن التخلي عنها كمعين وشريك اقتصادي هام داخل القارة، والجانب الثقافيايضا معتمدة في ذلك على نشر لغتها وطقوسها الثقافية خاصة في دول شمال افريقيا وغربها. كما تركّز فرنسا على جانب مكافحة التنظيمات الارهابية في القارة، اضافة الى تطويع جيوشها الى الاضطلاع حتى بأدوار سياسية وادارية ممّا ساهم في تعميق هوّة الاعتماد على المستعمر الفرنسي وتهميش الاستقلال الذاتي او أي سلطة محلية.
وقد اعتمدت فرنسا في هيمنتها الاقتصادية على استغلال ثروات القارة مستغلة الفقر المدقع التي تعيشه البلدان الافريقية وضعف الحكومات المركزية وسوء تصرّفها، وهو ما يبرّر ايضا الامتيازات المهولة التي نالها الاستعمار الفرنسي من احتكار ومعاملات ضريبية خاصّة مع الارباح والاستثمارات التي حصل عليه من تدخله في القارة السمراء.
وقد جرى التدخل العسكري الفرنسي في اطار اتفاقيات ثنائية بين دول القارة الافريقية وفرنسا، منح الاخيرة حرية واسعة في نشر قواتها والتخطيط لأهدافها العسكرية بكل اريحية.
ويمكن تحديد خصائص الانتشار العسكري الفرنسي منذ بدايته في عام 1964 في خمسة عناصر اساسية وهي: اعتماد القوة الخفيفة، الموازنة بين عدد القوات والمساحة الجغرافية (مسرح المواجهات) وقدرات المقاومة لدى الخصم، التركيز على الجانب اللوجيستي بشدة سواءً نحو الهدف او من خلال الربط بين القوات المنتشرة في مناطق مختلفة مع مسرح النزاع، تعزيز امكانات الربط بين القوات المنتشرة من خلال توفير المعدات الضرورية كالطائرات والمروحيات، سرعة الرد بالتحركات العسكرية اذا ما استوجب الامر ذلك.
كما تتميّز الاستراتيجية الفرنسية في نشر قواتها على التغيير الدائم وفقا للظروف التي قد تمر بها داخل المجتمع الدولي او داخل القارة الافريقية بعينها، الا أنّ ذلك لا يعني ديناميكية مطلقة في الاسقاط الفرنسي لقواته، اذ أنّ هناك مناطق على غرار السينغال والغابون لازالت القواعد الفرنسية داخلها ثابته وفي وضعية اشتغال مثلما هي عليه منذ البداية. لكن بعد الفشل الذريع الذي شهدته القواعد العسكرية في مالي خصوصا في السنتين الاخيرتين، لم يقتصر الرئيس الفرنسي على تغيير استراتيجية تمركز قوّات بلاده في منطقة الساحل الافريقي فقط، بل انه خيّر اعادة ضبط هذا الوجود بالطريقة التي تجعله اكثر سرية واقل عددا في القارة الافريقية، اذ لا يخفى على المجتمع الدولي السخط الكبير اتجاه القوات العسكرية الفرنسية في مالي، ذلك الى جانب الخسائر الفادحة التي لحقت بفرنسا.
وبناءً على ذلك وخاصة مع الحرب الدامية في اوروبا رأى ماكرون حاجة ملحة لإعادة تنظيم ميزانية جيوش بلاده لسنة 2023-2024 وضبط كامل الاحتياجات باعتماد قانون جديد للبرمجة العسكرية يكون ملائما وواضعا في الاعتبار امكانية كبيرة لتطور المواجهات والحروب الحاصلة مشيرا الى انّ النص القانوني يفترض انه سيكون جاهزا في نهاية العام الجاري ويجري مناقشته في البرلمان الفرنسي بداية العام المقبل. ومن بين الاستراتيجيات التي أكّد عليها الرئيس الفرنسي هو تعزيز التعاون مع الجيوش الافريقية على مستوى التدريب، بحيث تكون اكثر اعتمادً على نفسها في العمليات الدفاعية، في حين تعمل الجيوش الفرنسية في ظروف تكون فيها اقل ظهورا واقل عرضة للخطر، ويبيّن ذلك ديناميكية فرنسا وسرعتها في تغيير استراتيجيتها العسكرية كلمااستوجبت الظروف ذلك.
ويُذكر في هذا الاطار، أنّ منطقة الساحل والصحراء تشكلّ نقطة مركزية هامّة ضمن الاستراتيجية الفرنسية داخل القارة الافريقية، اذ تعد من اكثر المناطق التي تركّز عليها فرنسا باعتبارها تعزّز خاصية الترابط بين القوات الفرنسية في الجهات الغربية والاطلسية والشرقية والهندية لتنتشر في مجالات اخرى واسعة على غرار مداخل الخليج الغربي.
وبالتالي يمكن الاستنتاج في هذا السياق، أنّ فرنسا تعتمد في اسقاط قواتها على القواعد الثابتة مسبقا، وقواعد اخرى ديناميكية قابلة للتغيير والترابط بأشكال مختلفة وفقا لما تقتضيه الاستراتيجية، الا أنّ القواعد الثابتة أيضا يمكن ان تتغيّر وتندمج مع القواعد الثانية اذا وُجدت الحاجة الى ذلك.
بالنسبة للقواعد المدرجة بشكل ثابت فتُصّنف كالاتي:
- قطبا تشغيليا (قاعدة لوجيستية) يتركّز في داكار ويضم 350 عسكريا.
- قاعدة عملية متقدّمة في لبرفيل تتضمّن 900 عسكريا وتتركّز تحديدا في مركز تعزيز القوى ما وراء البحار، تحظى بدعم حقل ديغول وقاعدة “جوي بيدو” الجوية.
- قاعدة عملية في جيبوتي تضم 1900 عسكريا.
أمّا بالنسبة الى القواعد الغير ثابته والخاصة بالعمليات المؤقتة (يمكن أن تتحوّل الى قواعد دائمة وثابته) فنذكر منها:
- قاعدة ليكورن، تتضمّن 450 عسكريا، انطلقت من كوت ديفوار في عام 2011، ثمّ اصبحت في عام 2013 قطبا يقوم بتوفير الوحدات القتالية وتوفير الدعم اللوجيستي اللازم لنشر الاسقاط الفرنسي العسكري خارج حدود فرنسا.
- عملية ايبرفيي، تتموقع في تشاد وانطلقت منذ عام 1986 ، وقد تغيّرت لاحقا الى قوة دائمة متضمّنة ل 950 عنصرا يتركّزون في قاعدة ادجي كوسر، اما البعض الاخر فقد اضطلع بدور النقطة اللوجيستية لدعم فايا-لارجو، الى جانب 100 عسكري في أبشي. وعن مهامها الرئيسة فهي تتمحور حول ضمان المصالح الفرنسية داخل تشاد، المراقبة الجوية، عمليات استطلاع ارضية، دعم لوجيستي للانتشار خارج تشاد.
- عملية سنغاريس، انطلقت منذ عام 2013 في جمهورية افريقيا الوسطى وقد تمحور وجودها حول مواجهة الحركات الانقلابية ووضع حد للميليشيات بدعم من الامم المتحدة، وقد ناهز عدد القوات العسكرية في اقصاه عام 2014 ما يقارب 2000 عسكريا.
- عملية برخان، تعد مثالا هامّا وتوضيحيا على ديناميكية الاستراتيجية الفرنسية وفشلها في الان نفسه في مالي، حيث نشأت في عام 2014، تبرّر وجودها تحت مسمى مواجهة الجماعات الارهابية والانفصاليين الا انها حققت فشلا ذريعا دفع فرنسا لتغيير استراتيجيتها نحو النيجر.
بالتالي تنقسم القواعد الفرنسية، الى قواعد بحرية تضطلع بالدور اللوجيستي وتضم داكار، ابيدجان ودوالا، وقواعد اخرى برية دائمة على غرار غاو وانجمينا ونيامي وقواعد اخرى دائمة في تساليتواغاديسومادما.