اعداد صبرين العجرودي: قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية
مراجعة واشراف : الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية
لم تتميّز العلاقات الصّينية الاوروبية بالثّبات طيلة العقود السّابقة، ففي مراحلها الاولى منذ بداية انطلاقها في عام 1975 وصولا الى عام 2003 لم تتجاوز حدود تبادل الزيارات الشعبية والبرلمانية، ولم تكن هناك اتفاقيات أو شراكات استراتيجية في المجال الاقتصادي.
لكن في عام 2003 شهدت العلاقة طفرة نوعية وأصبحت الصين تشكّل ثاني أكبر شريك تجاري لأوروبا من خلال التّوصل الى مرحلة الشراكة الاستراتيجية الشّاملة، وبناءً على ذلك تمكّنت الصّين من ضمّ كلّ من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكيا وإسبانيا وهولندا الى مبادرة الحزام والطريق، في مقابل تحصيل هذه الدّول الاستفادة من المزايا الاقتصادية التي يمكن أن يوفرها الشريك الصيني في إطار المشاريع المشتركة في هذه المبادرة.
ورغم ذلك فإنّ العلاقة لم تخلو من تعثّرات ساهمت في بروزها الاحداث الدولية وأدى الى تفاقمها الفاعلين الدّوليين، على غرار الحرب في اوكرانيا، إذ ساهمت الاخيرة في إعادة صياغة العلاقات الدولية بشكل اخر، لكن ظلّت المصالح التي بُنيت على اساسها هذه الروابط متأرجحة بين التراجع وبين تجاوز ضغوطات الظروف للحفاظ على مبدأ تحقيق المصالح المشتركة للطرفين.
علاقات اقتصادية عميقة بين الصين واوروبا
من بين العناصر التّي تمثّل مؤشرات هامّة على امكانية زعزعة العلاقة تمام بين الجانب الصيني والاوروبي مستقبلا، هي مساعي الولايات المتحدة الامريكية لوضع أساس ثابت للعلاقات مع الاتحاد الاوروبي وتصحيحها بما يتوافق مع تحقيق المكاسب للطرفين خاصّة في ظلّ الحرب الاوكرانية.
ذلك الى جانب العقوبات التّي فرضتها اوروبا على الصين في عام 2021 فيما يتعلّق بانتهاك الصين لحقوق الأقلية المسلمة (الايغور) في منطقة شينجيانغ ورفض البرلمان الاوروبي تفعيل الاتفاقية الشاملة المتعلّقة بالاستثمار مع الصّين، وقد أعلنت اوروبا بصريح العبارة في شهر ماي الفارط أنّها ستقلّص اعتمادها على صادرات الصّين وهذا كان بضغط امريكي مباشر.
ترتكز العلاقات الدّولية على اربعة عناصر أساسية، وهي القوّة، المصلحة القومية، وتوازن القوى والمعايير الاخلاقية. وتصيغ الدّول سياساتها الخارجية بناءً على مبدأي تحقيق القوّة والمصلحة القومية، سواءً كانت هذه الدّول متقدّمة أو نامية.
تتشكّل القوّة من كل العناصر المادية والغير مادية التّي تملكها الدّولة سواءً قدرات عسكرية أو اقتصادية أو سياسية، أمّا المصالح القومية فتشمل مصلحة البقاء واستمرارية هياكل الدولة واسسها، مصلحة تعزيز القوة العسكرية التّي تعد حجر الاساس في الدفاع عن كيان الدّولة ومواردها من أي تهديد خارجي أو داخلي قد يعترضها، مصلحة زيادة إمكانات وموارد القوّة السّياسية وهي أساس المصالح السابقة وضرورة قصوى لضمان تحقيقها، وعلى ضوء ذلك تهتم هذه الدّول بالجانبين الاقتصادي والتجاري في علاقتها الدّولية حتى تتمكّن من تعزيز هذه القوّة السياسية.
وعلى الرغم من التغيرات التّي من شأنها أن تطرأ بصفة مستمرة على الايديولوجية السياسية والقيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتغير القيادات السياسية الاّ أنّ الحفاظ على الامن القومي للدولة تعدّ الغاية الاسمى المحدّدة للسّياسيات الخارجية للدولة.
تفوّقت الصين على الولايات المتحدة الامريكية في احتلال مكانة الشريك الاول للاتحاد الاوروبي مع بداية عام 2021، حيث ناهزت قيمة التبادل التجاري بين الطرفين في عام 2020 517 مليار دولارمتجاوزا حجم التجارة بين اوروبا والولايات المتحدة الامريكية، البالغ 501 مليار دولار خلال نفس الفترة، كما بلغ حجم رصيد الاستثمارات الاوروبية في الصين ما يقارب 150 مليار يورو، في حين بلغت حجم الاستثمارات الصينية في الاتحاد الاوروبي 113 مليار يورو، ويجعل ذلك من اوروبا تحتل المرتبة الثالثة عالميا بين المناطق المقصودة للاستثمار بالنسبة للصين، اذ بلغت قيمة استثمارات الشركات الاوروبية في العشرة سنوات الماضية بمعدّل تجاوز 8 مليارات يورو سنويا، في حين أنّ الصين بلغ معدّل استثماراتها خلال نفس الفترة 7.5 مليار يورو.
وتحظى الدّول الكبرى في الاتحاد الاوروبي (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكيا، هولندا، إسبانيا) بالقدر الاكبر من قيمة التجارة الخارجية بين الاتحاد الاوروبي والصين، إذ بلغت صادرات الاخيرة لكل من هذه البلدان الاوروبية 277 مليار دولار في عام 2019 وهو ما يمثّل نسبة 88.5% من مجمل الصادرات البالغ قيمتها 300 مليار دولار في نفس العام.
كما ارتفعت الصادرات الصينية لبلدان اوروبا بنسبة 5.6 % في عام 2020 مقارنة بعام 2021، وشهدت واردتها من الاتحاد الاوروبي ارتفاعا بنسبة 2.2% في نفس الفترة، في مقابل تراجع المبادلات التجارية مع الولايات المتحدة الامريكية، حيث انخفضت الصادرات الاوروبية بما يقارب 8.2% ونفس الشئ بالنسبة للواردات التي شهدت تراجعا بنسبة 13.2%. ألمانيا: كأبرز شريك للصين في الاتحاد الاوروبي.
أدّت الحرب في اوكرانيا الى إعادة جدولة العلاقات الدولية، إذ ساهمت في جانب كبير منها بظهور عديد المخاطر الاقتصادية والسّياسية التي أثرت على الدول التي تربطها مصالح بأطراف الصراع، فإلى جانب توتر العلاقة بين ألمانيا وروسيا والتّأثير الكبير على مجال الغاز، إلاّ أنّ العلاقة بين ألمانيا والصين تأثرت أيضا بسبب الحرب في اوكرانيا ـ نتيجة موقف بكين الغير واضح من الحرب وعدم اصطفافها الى جانب الغرب في وصف الخطوة الروسية في اوكرانيا بالغزوـ وذلك سيؤثر حتما على الوضعية الاقتصادية لألمانيا خاصّة وأنّها في تبعية اقتصادية عميقة مع الصّين، ذلك ما عبّر عنه وزير المالية الألماني “كريستيان ليندنر” داعيا الى ضرورة تنويع المانيا علاقاتها التجارية، إذبلغت قيمة التبادل التجاري بين الطرفين في عام 2021 ما يقارب 270 مليار دولار أمريكي.
تمثّل ألمانيا البلد الاوروبي الابرز الذي تربطه علاقات استراتيجية بالصين، وهو الحبل الذي يصل بين الصين وبين بقية دول الاتحاد الاوروبي، كما تمثّل ايضا أكبر حلقات سلاسل التوريد بين الشرق والغرب، وقد ساهمت الحرب في اوكرانيا في تعطيل هذه السّلاسل التوريد بإغلاق خطوط السكك الحديدية، ممّا أدّى الى تضاعف أسعار الشّحن بين الاتحاد الاوروبي والصين الى اربع مرات.
وتحتل ألمانيا أيضا المرتبة الخامسة عالميا بين الدول التي تمثّل الشريك التجاري الاكبر للصين إذ بلغ حجم صادراتها الى الصين في عام 2021 ما يقارب 123.7 مليار دولار أمريكي، أمّا الصادرات الصينية الى ألمانيا فقد ارتفعت في شهر فيفري 2022 الى ما يقارب 24.5% مسجّلة 122 مليار دولار أمريكي.
وقد مرّت العلاقة بين الاتحاد الاوروبي والصّين رغم عمق العلاقات التجارية بعديد الاضطرابات في الكثير من المواقف السياسية، على غرار تحذير الصين لدول اوروبا من عقد أي اتفاق بتايوان في عام 2021.
وبفرض الاتحاد الاوروبي وأمريكا أيضا عقوبات على روسيا، توترت العلاقة بين الصين وألمانيا أكثر، نظرا في أنّ العقوبات الموجّهة تسبّبت في الاضرار بالمصالح الصينية مع روسيا.
لذلك تنوي ألمانيا تقليص اعتمادها الاقتصادي على الصين، إذ أنّ ما يقارب نصف شركات هذه الدّولة الاوروبية تعتمد على المواد الاولية الصينية، خصوصا شركات السيارات.
معضلة النظام الاقتصادي الرأسمالي
في الحقيقة تنمّ الازمة بين الاتحاد الاوروبي والصين على مشكلة تعدّ أكبر بكثير من كون تبعية اقتصاد الدول بالاقتصاد الصيني سوف تسبّب لها عجزا على مستوى اقتصادها، ففي فترة الثمانينات من القرن الماضي واجه النظام الرأسمالي العالمي مشكلة تمثّلت في ارتفاع اسعار السلع الاولية والوسيطة التي كانت قيمتها أقل بكثير في الانظمة الاخرى، ذلك الى جانب قيود الانتاج شديدة التعقيد، ممّا أثّر على جودة منتجاتها مقارنة بمنتجات الدّول في الانظمة الاخرى.
فحاولت هذه الدول ايجاد حلّ لهذه الازمة بالتوجه الى المناطق التي بها تكلفة السلع واليد العاملة منخفضة، فكانت وجهتها الذّهاب شرقا نحو الصين ومنطقة جنوب شرقي آسيا، وبذلك لقت المنتجات الغربية تفوّقا كبيرا واصبحت بجودة المنتجات اليابانية والصينية متصدّرة الاسواق العالمية بفضل مزايا سوق الانتاج الصيني.
خلاصة :
لا يعتبر اعتماد الاقتصادات الغربية على الاقتصاد الصيني أمرا من ضمن مصالحها، فهي بذلك جعلت نفسها في تبعية مطلقة للصين مقابل تحقيق تفوّقها الاقتصادي، وعدم الانصياع لسياسات بكين من شأنه أن يلحق الضرر بهذه الدّول..
فقد أصبحت أكبر الشركات الالمانية تتمتّع بدعم كبير من الحكومة الصينية ممّا جعلها تبرز كأكبر منافس لأكبر الشركات العالمية، ممّا جعل الصين تفرض سيطرتها على هذه الشّركات، ومثال على ذلك الشركة الالمانية لصناعة القطارات CREC التي تساهم الصين بقدر كبير فيها، وكذلك تعتمد بعض شركات السيارات مثل “مرسيدس” و “بي إم دبليو” على المواد الأولية الصينية، كما يعد السّوق الصيني الوجهة الرئيسية لسوق السيارات الالمانية، إذ أنّ مبيعات بعض الشركات الالمانية للصين سنويا تعادل مبيعاتها للسوق العالمية.
في هذا الاطار قال الخبير الاقتصادي الدكتور “محمود خالد المسافر”: لم تتوقف الصين عند فتح أسواقها للصناعات الغربية وتقديم تسهيلات كبيرة للشركات الكبرى، بل قامت بالمرحلة الأخرى بشراء عدد من كبريات الشركات العالمية.
ولم تقتصر على صناعة معينة أو قطاع بحد ذاته أو منتج محدد، بل وصل الأمر لشراء شركات طيران ومعامل سلاح ومصانع سيارات وكبريات شركات الفندقة والشركات المالية، وأندية كرة القدم وصالات القمار الكبرى.
هل يمكن أن تستغني بلدان الاتحاد الاوروبي عن الشراكة مع الصين مقابل جعل وضعها الاقتصاد وضعيّة حرجة للغاية؟ خاصّة وأنّ الاستغناء على السوق الصينية سيؤدي الى وفرة كبيرة في السلع الغربية التي لا يمكن منطقيا أن تستوعبها الاسواق الاخرى، هل لأوروبا القدرة على أن تجد شركاء بنفس تأثر الصين على اقتصادها في العقود السّابقة أم انّها ستظلّ تحت ظلال بكين مقابل تقديم تنازلات سياسية كبيرة ؟