الأحد. نوفمبر 24th, 2024

اعداد: صبرين  عجرودي قسم البحوث والدراسات والعلوم السياسية والعلاقات الدولية

مراجعة : الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية

يشهد العالم تحولات كبرى وسريعة من أهمها الحروب الجديدة التي أصبحت تتخذ أشكالا متجددة ومختلفة، فلم تعد تقتصر على الحرب التقليدية والمواجهات العسكرية، بل أصبحت توظيف عناصر جديدة، حيث تلجأ بعض الدول  الى استخدام حروب الجيل الرابع والخامس لتحقيق أهدافها، بأقل خسائر بشارية وكذلك بأقل تكلفة مادية من الحروب التقليدية، وعدم التورط أمام المجتمع الدولي بالإضافة إلى تفكيك مفاصل الدولة بكامل عناصرها.

ان أساليب حروب الجيل الرابع والخامس تتمثل في إنتاج الإرهاب وشن حرب نفسية والإشاعات، واستعمال مرتزقة الإعلام وذلك من أجل هدم الانجازات وتحويلها الى نقاط ضعف ونشر الفوضى الإدارية بالدولة ونشر الفساد.

من بين الأساليب استغلال الانقسامات العرقية والتفرقة بين القوميات كذلك استغلال التفرقة الدينية وإظهار ضعف الدولة على إدارة البلاد واستغلال قضايا الانحراف وغيرها من القضايا وبث الفوضى وعدم الثقة والعداوة بين أفراد المجتمع والتفرقة…

نطرح في هذا التقرير الاشكال الجديدة للحروب التي تسمى الناعمة، خاصة وقد زادا الترابط بين المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لذلك فقد أصبح من السهل استبدال السلاح التقليدي بأسلحة أكثر دمارا، كما اصبحنا نتحدّث عن حروب تمهيدية أو كما يريد البعض تسميتها بالحروب الثانوية، او حروب الجيل الرابع والخامس للدعاية السوداء وإعلام المرتزقة أو ما يمكن أن نطلق عليه بكل وضوح الحرب بالوكالة.

ما هي الدعاية السوداء؟

وكيف لها ان توظّف المرتزق الاعلامي ؟

وكيف تندرج الدعاية السوداء والارتزاق الاعلامي كشكل من أشكال الحرب بالوكالة ؟

الدعايةالسوداء

تُعرّفُ الدعاية بأنها رسالة موجّهة ومخطّط لها بشكل سابق والهدف منها التأثير على أفكار المتقبّل وافعاله وسلوكه من أجل تحقيق غاية ما. يمكن أن يكون مضمون الدعاية (الرسالة) إما صحيحا أو خاطئا أو كذبا، لكن المهم ان يقع توجيه المعلومة بطريقة مكثّفة الى المتلقي المستهدف، أي عرضها بطريقة غير موضوعية سواءَ بالمقارنة مع غيرها من المعلومات أو بقية المتلقين، التركيز على توجيه معلومة دون اخرى الى جمهور معيّن.

حسب استاذ علم النفس “ليونارد دوب” (Leonard William Doob)الدعاية هي:

محاولة تأثير في الشخصيات للسيطرة على سلوك الافراد، في مجتمع ما وفي وقت معين، لتحقق أهداف تعتبر غير علمية أو مشكوك في قيمتها“.

أما عالم الاجتماع الامريكي “هارلودلاسويل (Harold Lasswell)”فقد عرّفها بأنّها : التعبير المدروس عن الآراء وافعال أفراد أو جماعات أخرى، وذلك من أجل أهداف محددة مسبقا ومن خلال تحكم نفسي”.

وفي نفس السياق أشار “لاسويل” : “ليست القنابل أو الخبز هي الوسائل النموذجية للدعاية، وإنما الكلمات والصور والاغاني والاستعراضات والحيل الاخرى المتعددة، فالدعاية هي الاحتيال عن طريق الرموز”.

والمقصود بهذه المقولة، ان الصراعات والحروب أخذت شكلا آخر مغايرا تماما للأشكال التقليدية للحروب، بحيث أصبحت الوسائل والادوات ناعمة تمارس تأثيرا كبير دون تكاليف باهضة او هجوم مباشر.

حروب الدعاية السوداء(Black propaganda)

إذا ما قمنا بتسليط الاضواء على مفهوم “الاسلوب الدّعائي” فإننا سنتمكّن من التمييز بين كل أسلوب واخر وفقا لمتطلّبات كل منها، والمقصود هنا هو النتائج المراد تحقيقها من كل اسلوب دعائي يتمّ اعتماده.

ما هي الدعاية السوداء؟

  • تُعتبرُ هذه الدعاية “سوداء” لأنّها: “خفية تقترب من الاشاعات المجهولة المصدر هذه الدعاية تقوم بها أجهزة المخابرات والعملاء السريون، وهذه الدعاية تنمو وتتوالد بطرق خفية، وهي تتداخل مع حرب الإشاعات والحرب النفسية التي تنشط من خلال الحروب، وتسمى هذه الدعاية ب “الدعاية المستورة” (covertpropaganda) أو “الدعاية غير المباشرة” (indirect propaganda)”، والمقصود هنا أنّه لا يمكن مطلقا معرفة المصدر الاول للخبر، لأنه ينتشر على مجال واسعو إذا ما حاول المتقبّل خلال محاولته التثبت من صحته فإنه يعجز عن حصر أصوله، ولأنها سريعة الانتشار يصعب عدم تصديقها أو عدم التأثر خاصّة إذا ما تمّ تداولها بين عدد كبير من الجمهور المستهدف، بطريقة لا تدع أي مجال للتّشكيك فيها، لكن بمجرّد حدوث ذلك تسقط الفائدة منها وبذلك يعتبر المخطط الدّعائي فاشل وغير ناجع.

وعموما من اهداف الدعاية السوداء إثارة البلبلة، التحريض، بث الفتنة، قيام الفوضى … ضد “المُستَهدَف”، أي تسليط الاضواء على جهة أو طرف معين سواءَ كانت فردَ أو مؤسسة أو حزب . بالطريقة التي تشوّهه وتحرّض الرأي العام ضدّه، والمقصود هنا هو نشر الاكاذيب والاشاعات، التلاعب بالعقول وغسيلها …

تُصنّف الدعاية السوداء من بين الحروب الناعمة، ذلك لأنّها لا تعتمد على السلاح والمعارك المباشرة، بل إنها ترتكز على ممارسة الضغط النفسي على العدو والتشويش عليه بإطلاق حزمة من الاشاعات والأخبار الزائفة، وتعمل على تحقيق تأثير بعيد الامد، بحيث يستبطن المتلقي الدعاية ويقتنع بها لتؤثر فيما مبعد على سلوكه وتمثّلاته اتجاه ضحيّة الدّعاية.

يتكوّن “الاسلوب الدعائي” بصفة عامّة من مجموعة عناصر تتفاعل فيما بينها حتى تتمكّن من توليد ردة فعل معيّنة ويسمى ذلك بـ”المخطط الدعائي”، بحيث يقوم الطرف المستفيد من الدعاية السوداء بدراسة وتحليل العناصر الملائمة التي يمكن توظيفها لتحقيق النتائج المرجوّة، والمهم في هذا المخطط هو تكريس الوسائل الملائمة التي يمكن التخفي من ورائها للقيام بالدعاية، يمكن مثلا استخدام وسائل الاعلام، وسائل التواصل الاجتماعي من خلال استغلال خاصية الحسابات المزوّرة وغيرها من المنصات والوسائل الاخرى التي تستهدف اكبر عدد من الجمهور، إذ ليس هناك دعاية دون جمهور، لأنّ الاولى تهدف أساسا الى توجيه الرأي العام، وهذه العملية تتطلب وسيلة إعلام جماهيرية حتى يتمّ النجاح بعملية التأثير وكسب التأييد.

وإذا ما تطرّقنا الى مدى أهمية الدّعاية، فقد تمكّنت الاخيرة من تغيير أنظمة سياسية بأكملها، وساهمت في صعود أشخاص الى الحكم مقابل الاطاحة بآخرين … ولذلك فإن ما يدور من أحداث في عالمنا العصري ليس بمعزل عن الدعاية، لأنها تعتبر من ضمن العناصر الفاعلة في إحداث تغييرات على مختلف المجالات… وتستهدف الدعاية عقول الأفراد، تمثلاتهم، قراراتهم، آرائهم، وسلوكياتهم، قيمهم ومعتقداتهم وكلّ العناصر المكونّة لشخصيتهم وخاصة لانتماءاتهم… لذلك فهي ترتكز على وسائل نفسية لرمي الفرد في تيار فكري معيّن فيما يتعلّق بهدف الدعاية وهو التضليل، التعتيم، المغالطة والتشويه … وتعتبر هذه الدعاية”سوداء” من حيث وظيفتها  لأنها تحرّف الوقائع وتنشر الاكاذيب  وتسعى لتغيير الحقائق لغاية معيّنة، ونجاحها مرتبط مباشرة  بسيكولوجية الجماهير (La psychologie de la foule)، بحيث يقع اختيار الاسلوب الدعائي المناسب وفقا للنتيجة المرجوّة هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى تعكس طبيعة الجمهور الاسلوب الدعائي، بحيث يقع اختياره بناءَ على عدد من المتغيرات الثابته والمستقلة، كالانتماء والعقيدة والقيم والجنس والمستوى الدراسي … حتى يتمّ الوصول لغاية الدعاية.

في الدعاية السوداء يتم التركيز على:

  • استخدام القوالب النمطية: في هذا الاسلوب يتم تقسيم الجمهور الى وحدات، والعمل فقط على الوحدة الاقوى التي يمكن لها أن تؤثر على بقية الوحدات وتحقق الهدف المأمول من الدعاية.
  • مضامين الدعاية السوداء: حتى يضمن الاسلوب الدعائي تحقيق غايته بالتأثير وتغيير التمثلات الذهنية، تتطلّب العملية استخدام الاشارات والرموز والكلمات المناسبة التي تضمن تحقيق الحد الاقصى من النتائج، فمثلا تقوم بعض القنوات الاعلامية من خلال برامجها تكرار نفس الكلمة عديد المرات لان لها غاية من وراء ذلك.
  • انتقاء الأدوات التواصلية: الى جانب الحرص على التحديد الدّقيق لمضمون الدعاية السوداء (كلمات، رموز، حركات، الصورة…) تعتبر أدوات نشر الدعاية أمر في غاية الاهمية بالنسبة لصانعها لأن هناك فرق واضح بين برنامج وآخر وبين قناة واخرى وبين كل المنصات الافتراضية، كل منها لديه قدرة معيّنة على تحقيق التأثير المرجو او الوصول الى جمهور المستهدف، فمثلا هناك قنوات تلفزيه تشاهدها فئة معيّنة في وقت معيّن خلال عرض برنامج ما، بالتالي ينتقي صانع الدعاية الوقت الذي يستطيع من خلاله توجيه الدعاية مباشرة الى الجمهور المستهدف (l’audience ciblée)، كما يختار مثلا شخصية مؤثرة أو لها انتماء معيّن حتى تُحدث تغييرا جذريا في أفكار المتلقي وآرائه، وعموما يتمّ التركيز على الاشخاص الذين لهم شعبيّة حتى يقوموا ببثّ المضمون الدّعائي وتحقيق أهدافها.
  • طريقة إعادة المعلومة: المقصود في هذا الجانب هو عدد المرات وطرق تكرار مضمون الدعاية حتى ينجح صانع الدعاية من اختراق قاعدة أفكار المتلقي وقناعاته.

فاعلية الدعاية السوداء:

تربط فاعلية الدعاية بعدّة عناصر:

  • عدم استقلالية وسائل الاعلام: كلّما كانت الوسائل الاعلامية غير موضوعية ونزيهة ومنحازة، تمكّن صانعو الدعاية السوداء من تحقيق غاياتهم دون التعرض لأي صعوبات أو عراقيل.
  • كلما زادا إدراك ومعرفة صانع الدعاية لسمات الجمهور المستهدف وخصائصه تمكّن أكثر من التخطيط لدعاية أكثر نجاعة في بلوغ الهدف.
  • المحاصرة: الاعتماد على وسائل وأدوات دعائية مختلفة لتصل الى أكبر عدد من الجمهور المستهدف.
  • لا تعتمد الدعاية على العنف والاساليب اللاأخلاقية المباشرة، فبمجرّد ظهور أي سمة من هاذين العنصرين لا ينجح صانع الدعاية في الوصول الى هدفه، لأنه يسعى الى الاقناع وغسل العقول دون اكراه.

فهي تسعى الى تحقيق الاستجابة التامة من الافراد (الاقناع) والتصديق النابع من أعماقهم ومن ثمّ يتحقّق هدفها الرئيسي منها (التشويه)، كما لا تلعب الدعاية على الجانب العاطفي فقط بل تركّز كذلك على الجانب العقلاني المنطقي للأفراد لتؤثر عليهم قدر المكان.

سمات الدعاية السوداء:

في الدعاية السوداء، لا يدرك الجمهور المستهدف ان هناك جهة ما تسعى الى مغالطتهم أو التأثير على انطباعهم وسلوكهم ويعود ذلك الى مدى حرفية المخطط الدعائي في غسل عقل المتقبّل.

كما تتسم الدعاية السوداء بغموض مصدرها الحقيقي، وحتى أنه من المستحيل معرفة الطريقة التي تنتشر بها بسرعة، فمثلا عندما يقوم شخص عادي في موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” بنشر خبر مزيّف، لا يلقى المضمون الكثيرمن التفاعل ولا يُنشر بقدر كبير، بينما في الدعاية السوداء ينتشر المضمون بسرعة على نطاق واسع من الجماهير المُستهدفة، لأن صانع الدعاية لا يقوم بالعملية بمفرده، بل هناك شبكة كاملة تساعده في تنفيذ مخطّطه ويقتسم أفرادها الادوار فيما بينهم.

لا يمكن معرفة المصدر الاول للدعاية السوداء لما يمكن أن تخلفه من ردود فعل مضادة من المُستهدف، ذلك لأنها بالأساس تروّج لأكاذيب واخبار زائفة، فمثلا خلال الانتخابات الحزبية، يتصادم المترشّحون فيما بينهم بتوظيف صفحات ممولة وحسابات مزوّرة دون الافصاح عن هوياتهم تجنّبا لأي نتائج سلبية فيما بعد.

قديما  كانت الدعاية تعتمد على الوسائل والادوات التقليدية كالإذاعات والمناشير، الصور… وقد اعتقد كثيرون انه في عصر العولمة والتكنولوجيا لم يعد هناك مجال للدعاية السوداء خاصّة مع تدفّق الكثير من المعلومات الى المتقبّل الذي من المفترض انه اصبح أكثر وعيا في التفاعل مع الاخبار والمعلومات، لكن التطور الكبير الذي شهده  العالم انعكس تماما على الخطط الدعائية لتصبح مدروسة بدقّة، وناجعة في تحقيق غاياتها، إذ ليس هناك حاجز بين الوسائل التقليدية والمعاصرة التي توظّفها الدعاية، فقد تمّ تعزيز قدرة الاولى بالأخيرة لتصبح الدعاية أكثر صلابة وواقعية، والمقصود في هذا الاطار أن صانع الدعاية وجد أمامه اساليب ووسائل متنوعة لنشر دعايته، فإذ كان الجمهور المستهدف لا يشاهد على سبيل المثال التلفاز، فإن هناك احتمال كبير انه يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي أصبحت هناك فرصة لأن تنتشر الدعاية في وسائل مختلفة ولأكبر عدد من الجمهور وتكون قابلة للتصديق أكثر من قبل، ذلك لأنه قديما لم تكن وسائل بث الدعاية متاحة لعدد كبير منهم، وبالتالي فإن النجاح ليس مضمون.

وقد أصبحت الدعاية تنطلق في البداية من مواقع التواصل الاجتماعي دون توثيق أي مصدر واضح لها، وتنتشر بسرعة وتحدث بلبلة في المواقع الافتراضية من ثمّ تتبناها الوسائل الاعلامية تحت مسمى طرح الموضوع ومناقشته، ويبيّن ذلك تملّص الاعلام المنحاز والغير موضوعي من مسؤولية بث الدعاية السوداء (لأن من سماتها عدم التصريح بالمصدر الاول) وما قد ينجرّ عنها من عقوبات قضائية.

حروب مرتزقة الإعلام والوكالة الإعلامية

تؤثر وسائل الإعلام بشكل كبير على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية… وبالتالي فإن عملية الإعلام و الاتصال لا تتم دون مجتمع تٌوجه له الأخبار والمعلومات عن طريق هذه الوسائل المتاحة للجماهير وتعود هذه التأثيرات على جملة القرارات المتخذة و التي بدورها تؤثر في البناء الاجتماعي وتساهم بشكل كبير في التغيرات الاجتماعية وخاصة تعمل على ضرب الهوية والانتماء الوطني .

ولذلك مثّل الإعلام والاتصال مجالا تهاتفت عليه الدراسات والبحوث من مختلف الزوايا باعتباره وسيلة من الوسائل التي تمهد للتفاعل بين أفراد الذين بدورهم يؤثرون بقراراتهم في مختلف البنى الاجتماعية، وبالتالي فإن فهم هذه البنى يرتبط في جزء هام منها بالارتباط القائم بين الإعلام والجمهور.

تعتمد الدعاية بشكل كبير على وسائل الاعلام، لقدرة الاخيرة في التأثير على الجمهور المستهدف، لذلك فقد تمّ الاهتمام كثيرا بمدى مصداقية الاخبار ومساهمتها في تحريف الحقائق وبثّ الفتن، لكن المشكلة الكبرى هي استخدام الاعلام كوسيلة حرب ناعمة عن طريق “مرتزقة الاعلام”.

لا يهتم المرتزق الاعلامي سوى بالمال، حيث يمارس الكذب والتشويه وتزييف الحقائق بمقابل مالي مستغلا مهنته للعمل لصالح أصحاب المصالح، وذلك ما يبيّن وجود الكثير من القنوات الاعلامية التي تُظهر من خلال تعاطيها وتفاعلها مع المواد الاخبارية انتمائها السياسي، فلا تقوم بتحليل المواد الاخبارية بطريقة موضوعية ونزيهة، وقد ساهمت التكنولوجيا في مزيد تغوّل المرتزق الاعلامي ومزيد التغطية عليه، لأنه قد يعتمد في دعايته على مصادر غير واضحة من مواقع التواصل الاجتماعي متجنّبا بذلك المسؤولية محمّلا إياها لمصادر اخرى، لكنّه في الحقيقة يعمل على التأثير من خلالها دون اثارة الانتباه.

الإعلام الجماهيري

 مع ظهور أول آلة طباعة و انتشار المعلومات والأخبار بصفة سريعة بدأ الحديث عن التأثير السيكولوجي لوسائل الإعلام الجماهيري وقد تم النظر إليه من زاويتين و هما “السبب” و”النتيجة ” من ناحية العلاقة بينهما وبالتالي تكون المعلومات الصادرة من مختلف وسائل الإعلام السبب، أما النتيجة فهي ما تتركه من أثر على المتقبل أو الجماهير.

و يمثل مفهوم ” الحشد ” ( la foule )منطلقا أساسيا لعلماء الاجتماع والنفس لدراسة اثار وتأثيرات  الجمهور  وهو ما يندرج في كتاب “غوستاف لو بون” (Gustave Le Bon) سيكولوجية الجماهير la psychologie de la foule .

و يكون الحشد مركبا يختلف في خصائصه عن الخصائص التي يمكن أن تسم الافراد الذين يكونونه أي أن التصرفات الفردية تختلف عن تصرفات الحشد وما يجمع الأفراد داخله هو نموذج سلوكي  يكون نتيجة استجابتهم  للمؤثرات الجماعية  دون ترتيب مسبق وبطريقة غير متوقعة، أي أن ما يجمع الأفراد داخل الحشد هو تفاعلاتهم مع المؤثرات الخارجية.

و تستهدف دراسات التأثير الإعلامي عن طريق الدعاية النقاط التالية:

إقناع الجمهور، تأثير انتقاء الأخبار على تصور الجمهور، استغلال وسائل الإعلام الجماهيري لصالح الاحتياجات الفردية، تكوين الإدراك تحت تأثير وسائل الإعلام الجماهيري.

أشار “غوستاف لو بون” إلى أنّ:

  • مفهوم الحشد يختلف عن مفهوم التجمعات العفوية في مختلف الوضعيات الاجتماعية، و ذلك يندرج من خلال وحدة التركيبة الذهنية للأفراد المكونين للحشد.
  • الأفراد يتحركون بشكل واعي بينما الجمهور تحركاتهم غير واعية.
  • الجماهيرعلى اختلافاتها الاجتماعية والثقافية … هي بحاجة لأن تخضع لقيادة محرك (leaders d’opinion). وهو لا يقنعها بمبرّرات منطقية، و إنما يفرض نفسه عليها بالقوة.

ويندرج ذلك في مدى حرفية الدعاية السوداء، بحيث يجد المتقبّل نفسه منساقا وراء الاكاذيب ومساهما في نشرها مقتنعا بمصداقيتها.

أما عالم الاجتماع الامريكي “لاسوال” فقد تحدّث عن التأثير المباشر والقوي لوسائل الاعلام الجماهيري مبيّنا:

  • قدرتها المطلقة في التأثير على قرارات الافراد وخياراتهم وأفكارهم وبحيث يكون مضمون المعلومة  يستجيب لما يريد أن يمارسه المرسل من تأثير على الجمهور وهو ما يندرج في نظرية الحقنة (seringue hypodermique) بحيث اعتبر أن المعلومة الصادرة هي عبارة عن حقنة لها تأثير مباشر على أفكارالمتقبل و يندرج ذلك من خلال تحليله لمضمون الدعاية السياسية في الحرب العالمية الثانية  في كتابه (Propaganda techniques in the world war).

ساهم تطور تكنولوجيا الإعلام و اتساع دائرة الاتصالات في العالم في تعميق دور الإعلام من مجرد نقل للأخبار إلى الدور المتمثل في الانسان المراد عولمته من خلال التفسير والتحليل والتعليق من خلال إبداء الرأي في مختلف مجالات الحياة.

و بالتالي فإن المفهوم القديم للإعلام قد تغير ليجعل منه متعدد الأدوار وليس مقتصرا على نقل المعطيات فقط، وما يُقصدُ به من خلال الإنسان المراد عولمته أهمية دوره في ممارسة التأثير على المتقبل و جعله يجتاز الحدود الوطنية من خلال تفاعله مع مختلف القضايا الخارجية.

يمكن أن يكون التأثير على وسائل الإعلام أيضا مخالفا لقيم ومبادئ النظام الاجتماعي، كما انّ كل بنية سياسية  تقف وراءها جملة من البنى الخفية يمكن أن تكون وسائل الإعلام من بينها، و ذلك من خلال التغطية الإعلامية لبعض الأحداث السياسية التي تكون انتقائية أو منقوصة لصالح طرف أو بعض الأطراف و هذا ما يبرر الجرائم الانتخابية  وجرائم الرشوة، بالتالي فإن أصحاب النفوذ يستغلون أهمية وظائف الإعلام فتقوم هذه الأخيرة بالتعريف  بأطراف سياسية على حساب أطراف أخرى أو بتشويههم لصالح الأطراف الأخرى، ويستغل بعض الإعلاميين نفوذهم  في هذا الإطار للحصول على المال (يندرج ذلك في إطار الدعاية السوداء) .

في هذا الشأن لا يمكن فقط لأطراف السلطة والسياسة أن تستغل وسائل الإعلام فقد تمثل هذه المجالات مثالا هاما في استغلال الإعلام لصالحها، أيضا تتعدد المجالات الاخرى التي يمكن أن تستغل وسائل الإعلام مثلا في المجال الثقافي يمكن أن تصنع وسائل الإعلام من بعض الأطراف أو المواد وزنا ثقافيا هاما دون أن تكون لهم علاقة بالثقافة من الأساس و ينجر عن ذلك:

تشويه الذوق العام، التأثير السلبي على التصور الثقافي، طمس الإبداع الفني والمبدعين، التأثير على المنظومة الأخلاقية للمجتمع والأجيال، قتل الوعي الجماعي، المساهمة في خلق ظواهر اجتماعية جديدة … وذلك يتلخص في الارتزاق الاعلامي المسؤول عن الكثير من الحروب الحالية.

كما تهدف العملية الانتقائية  في تقديم  الاخبار ومعلومات دون غيرها إلى تشويش تركيز المتقبل أو توجيه اهتمامه بأخبار معينة دون غيرها لتفادي إحداث ضجة و المقصود هنا التعتيم الإعلامي على بعض الممارسات المخالفة للسياسيين أو الأحداث الاجتماعية الأخرى التي من شأنها إثارة الرأي العام .

التضليل الإعلامي وجه من أوجه الدعاية السوداء

يعد التضليل الإعلامي تلك العملية المخطط لها من قبل أطراف معينة تهدف لتشكيل رأي ما منهم لدى المتقبل لتغيير المفاهيم والتأثير على عقل المشاهد و غسل الأدمغة اتجاه مواضيع وقضايا، وعموما التضليل الاعلامي لا يعني الكذب، بل يحقّق أهدافه لاعتماد جزء من الحقيقة داخل كم كبير من المعلومات التي يسعى لتسليط الضوء عليها على حساب الاخرى.

و تُقاس فعالية دور التضليل الإعلامي من خلال إخفاء دلائل وجوده، أي أنه لا بد من لا شعورية المضَللِين بما يُمارسُ عليهم من تضليل وأن المعلومات المُقدمة إليهم يتقبلونها على النحو العادي والطبيعي دون الشك في محتواها.

الدعاية ومرتزقة الاعلام وجه من أوجه الحروب بالوكالة

اتخذت الحروب في عصرنا الحالي شكلا جديدا ونسقا جديدا وجيوشا ليست كتلك الت اعتدنا عليها بل أصبحت هناك جيوشا لا تستخدم سوى الاسلحة، فمع التطور التكنولوجي الذي شهده العالم، أصبحنا نتحدّث عن جيوش الكترونية، وحروب تكنولوجية واعلامية متطوّرة، وبذلك فقط اصبحت مخطّطات الحروب وتكتيكاتها أكثر دقّة وفاعلية في محاربة العدو، وذلك ما يندرج بوضوح في الحرب القائمة بين القوى العالمية الكبرى، فالصراع لا يعدّ مباشر أو على الاقل يعتبر نصف مباشر، ذلك لأن المصالح هي التي تحكم هذا النوع من الصراع، إذ يمكن أن تكون مثلا هناك شراكة اقتصادية بين عدوين، لكن ذلك لا يلغي العداوة أو ينقص منها حدّتها، لكن في الاثناء قد يحتد الصراع بين أطراف اخرى موالية لهما (أطراف النزاع الحقيقي)، والمقصود في هذه الناحية هو انشقاق حرب ثانوية عن حرب رئيسية بتوظيف الوكلاء دون البروز مباشرة.

وقد يتخذ هؤلاء الوكلاء اشكالا عديدة،  كوسائل اعلام، دول، تنظيمات ارهابية، جمعيات، أحزاب …

ويمكن أن يضطر عنصر رئيسي في الحرب الى ارغام عناصر اخرى مستقلة على الدخول في الحرب التي يخوضها، ويكون ذلك بالضغط عليهم من خلال ضرب مصالحهم مع العدو، وذلك ما حصل من خلال قانون CAATSA (قانون مكافحة اعداء الولايات المتحدة الامريكية) عندما أقرت الولايات المتحدة الامريكية بأن أي بلد أو جهة يمكن أن تشتري السلاح من روسيا ستُفرض عليها عقوبات بموجب ذلك القانون، ومن خلال ذلك وجدت الكثير من البلدان نفسها مرغمة على مقاطعة روسيا.

من مزايا حرب الوكالة، أنها تعتمد على أدوات ناعمة لكنّها أكثر حدّة في الضغط على الهدف، والسبب في ذلك تحديدا هو تنوّع هذه الادوات مما سيؤدي الى ضرب عديد النقاط.

وتوجد علاقة وثيقة بين الدعاية السوداء ومرتزقة الاعلام والحروب بالوكالة، فعادة يتم توكيل صانع الدعاية من طرف العناصر الرئيسية للحرب للقيام بدعايته السوداء، وقد يعتمد صانع الدعاية على المرتزق الاعلامي في ذلك، وتندرج هذه السلسة في إطار الحرب بالوكالة، وهي حروب ناعمة لا توظّف السلاح.

المصادر:

By amine