الجمعة. مارس 29th, 2024

اعداد صبرين العجرودي قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية

مراجعة: الدكتورة بدرة قعلول رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية

تونس: 14-09-2021

في فترة الحرب الباردة، لم يكن النفوذ الروسي كبيرا في منطقة شمال افريقيا، لكنّه أيضا لم يكن ضعيفا، إلاّ أن العلاقات كانت وطيدة مع دول مقابل ضعفها وهشاشتها مع دول اخرى. كانت العلاقات خاضعة لمبدأ الانتماء الايديولوجي والتحالفات الى جانب أطراف الصراع، ناهيك عن فرنسا والولايات المتحدة الامريكية اللتان كان نفوذهما في المنطقة يؤثر على هذه العلاقات ويمثل وسيلة ضغط كبيرة على الاتحاد السوفياتي، وقد تغيرت الموازين مع سقوط الاخير، إذ لم يعد هناك أساس واضح لتشكّل العلاقات.

وفي وقت لاحق مع بداية حكم الرئيس بوتين بدأت روسيا في رسم شبكة علاقات جديدة مع دول شمال افريقيا كانت مبنية بالأساس على التعاملات الاقتصادية، وقد أتاحت الثورات العربية الفرصة حتى تتمكّن روسيا من الدخول بقوّة من الجانب الاقتصادي  والتركيز على وجه الخصوص على قطاع الطاقة، والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية والتعاون العسكري.

ما هي الاستراتيجية الروسية في بناء علاقاتها الدولية وتحقيق مصالحها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؟ وكيف هي العلاقة بين روسيا والجزائر وما هي المجالات التي تميّز العلاقة بين هاذين البلدين ؟

1- من الاستراتيجية التقليدية الى الاستراتيجية البراغماتية  

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبحت روسيا تنظر الى الشأن المتعلّق بمصالحها  وعلاقاتها الدولية  من زاوية اخرى مختلفة تماما عن السابقة، فلطالما كان المنطق الايديولوجي مهمينا تماما على سياستها الخارجية، إلى أنّ تبيّنت أن هذا النّهج لم يحقّق المصالح المرجوّة، بل وقد ساهم في وضعها في زاوية ضيّقة حالت بينها وبين تطلّعاتها وأهدافها المستقبلية الاستراتيجية.

لذلك ومع انطلاق فترة حكم أول رئيس للاتحاد الروسي “بوريس نيكولايفييتش يلتسن ” (Boris Nikolaevič Elʹcin) في عام 1991  انتهجت روسيا سياسة نفعيّة  (Pragmatic policy) مبنية على تحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية، وقد تعالت أصوات الشيوعيين في تلك الفترة لاسترجاع الاتحاد السوفياتي والعودة الى سياسته السابقة، إلاّ أنّ “يلتسن”  أدان وبشدّة هذه الدّعوات معتبرا أنّ عودة الاتحاد السوفياتي الى المشهد جدير بان يعكّر صفو العلاقات التي بنتها روسيا الاتحادية الجديدة وأنّ ذلك متعارض مع المسار الذي تسير نحوه البلاد.

وبناء على ذلك، سعت الحكومة الروسية الى ترويج السياسة الجديدة على مرأى من كل الاطراف وإبراز الانفتاح الذي أصبحت عليه روسيا الجديدة بعد الظلام الذي كان يخيّم عليها فترة الحرب الباردة، واستهلّت ذلك بالحد من نشاط الحزب الشيوعي وردم كلّ خصائص هذه الحرب، بما في ذلك الفكر الماركسي – اللينيني الذي يمثّل أحد أهمّ ركائز الاتحاد السوفياتي.

لم يُحدِث الرئيس “فلاديمير بوتين”  قطيعة مع السياسة البراغماتية المعتمدة في عهد “يلتسن” رغم تعبيره في العديد من المناسبات عن استيائه من تفكّك الاتحاد السوفياتي، إلاّ أنّ الاستراتيجيات الروسية الجديدة متوافقة تماما مع المصالح والاهداف التي تسعى إليها، لذلك فقد شجّع على تعزيز هذه العلاقات البراغماتية لضمان المصالح المشتركة  داعيا الى الخوض في الاتفاقيات والمبادرات الدولية والتخلص من الطابع الايديولوجي الضيق.

وما يمكن استنتاجه في هذا السياق، أنّ كل من الرئيسين  يلتسن و بوتين حرصين تماما على مبدأ التقدم في هذه السياسة وضمان سير العلاقات حسب منطق المصلحة دون غيره، وقد استوجبت الاستراتيجية الجديدة جملة من الاصلاحات العميقة في مختلف المجالات  حيث لم تعد المنافسة ايديولوجية بل اصبحت منافسة على الاسواق، و باسم الانفتاح المالي والاقتصادي انتهجت روسيا سياسة إرسال الاسلحة الى كلّ الدول القادرة على دفع ثمنها، خلافا لسياسة الاتحاد السوفياتي التي كانت تتعامل فقط مع حلفائها  .

 من جهة اخرى، لم تؤثر هزيمة الاتحاد السوفياتي فيما بعد على قوّة روسيا الاتحادية واستراتيجياتها، اذ لم يتمّ الخروج من الحرب الباردة بشروط وضوابط تقيّدها  لذلك لم تجد أمامها حاجزا يحول بينها وبين مصالحها أو يمنعها من الركض وراء أهدافها،  وحاليا ترفض روسيا وبشدّة النظام العالمي الجديد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الامريكية.

قد تتسم الاستراتيجية الروسية في هذه النقطة بنوع من التعقيد، فمن ناحية لم تعد روسيا تنتقي حلفائها على أساس الايديولوجيا ـ ويُعدّ ذلك بالنسبة للمنافس الامريكي والغربي بالتوازي مع هزيمة الاتحاد السوفياتي تنازلا وتقبّلا لهذا الواقع، ومن ناحية اخرى ترفض روسيا قطعا سياسة الهيمنة  والسيطرة التي تنتهجها القوة العالمية الكبرى وتتصيّد الفرص المناسبة حتى تضع حدا لها، ففي حين تسعى الولايات المتحّدة لحماية المناطق التي تحت نفوذها بمفردها بهدف تأمين مصالحها، تشجّع روسيا على التكاتف بين جلّ الاطراف لإيجاد الحلول والابتعاد عن القرارات المنفردة، ويعكس ذلك ضمنيا إدراكها الجيّد بضعف قدراتها أمام الولايات المتحدة الامريكية لذلك فإنها تقوم بحثّ كل الاطراف على انتهاج سياسات تكون أقرب لمصالحها تحت غطاء رفضها لأعمال القوّة الصادرة بقرار دولة أو مجموعة دول خارج الامم المتحدة  وفي هذا السياق قال “يفكيني ماكسيموفتش بريماكوف ” (Ievgueni Primakov) رئيس الوزراء الروسي في تلك الفترة ” إننا ندرك مكانة الولايات المتحدة الولايات المتحدة الامريكية في العالم، ولكن هذا لا يعني بأن على روسيا تنفيذ دور التابع لها “.

2– العلاقات التاريخية بين روسيا والجزائر

في فترة الحرب الباردة، مثّلت القوى الاستعمارية الغربية حاجزا بالنسبة الى روسيا في الوصول الى أهدافها الاستراتيجية في المنطقة العربية، وقد اعتمدت فيما بعد سياسة التحريض حتى تتمكن من الوصول الى أطماعها من الاراضي العربية  مستغلّة بذلك رغبة دولها في الاستقلال عن المستعمر الغربي، لذلك فقد تميّزت تلك الفترة بتشكيل تحالفات بين الطرفين ذات طابع ثوري تحرري ضد العدو المشترك ( المستعمر الغربي) وقد كانت الجزائر من ضمن هذه الدول الساعية للاستقلال والمنحازة للاتحاد السوفياتي، لكن ومع الهزيمة التي شهدها وسقوط الاساس الايديولوجي التي تركّزت عليه العلاقات، انهارت التحالفات ولم تعد بنفس التماسك التي كانت عليه.

في الفترة الموالية حاولت روسيا استدراك الاوضاع وإعادة بناء العلاقات في المنطقة، فبدأت بحلفائها القدم في الحرب الباردة التي كانت الجزائر من أبرزهم، وأصبحت روسيا تتحدّث عن مصالح سياسية واقتصادية مشتركة  في المنطقة العربية وتنافس الوجود الامريكي والاوروبي المكثّف هناك، وقد تركّز اهتمامها على وجه الخصوص في قطاع الطاقة والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية والتعاون العسكري، والتبادل التجاري.

وتعتبر الجزائر من بين الحلفاء الثابتين لروسيا قبل وبعد الحرب الباردة  فقد حصلت على استقلالها في 5 جويلية من عام 1962  وكان الاتحاد السوفياتي أول دولة في العالم تعترف بالجزائر كدولة مستقلة،  وعلى ضوء ذلك فقط تطورت العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين وتعدّدت المشاريع  والاتفاقيات المبرمة فيما بينهم التي من أبرزها ” الشراكة الاستراتيجية “، حيث تمّ التوقيع عليها خلال زيارة الرئيس الجزائري ” عبد العزيز بوتفليقة ” روسيا الاتحاد 3 أبريل عام 2001  وعمل بعدها البلدين على تعزيز العلاقات التي تجّلت في اتفاقيات وصفقات اقتناء السلاح والمعدات العسكرية ومجالات النقل البحري و التقييس … وقد تعدّدت الزيارات المتبادلة بين رؤساء و وزراء البلدين لتعزيز العلاقات و تطويرها.

3- مجالات التعاون بين روسيا والجزائر

تعتبر منطقة شمال افريقيا من ضمن الاطماع الاساسية لروسيا والتي تنافس فيها وبشدة كلّ من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوروبي، لذلك فهي تسعى الى تركيز الاهتمام على مصالحها في المنطقة  وتحييد موقفها من القضايا والازمات التي تعيشها هذه المناطق مقابل التركيز على تلك التي من شأنها أن تؤثر على تواجدها أو نفوذها وهي السياسة البراغماتية التي تميّز روسيا بعد الحرب الباردة، فإنّ الجزائر تعتبر من أهم بلدان الشمال الافريقي التي تبيّن سياسة روسيا، فالأخيرة لم تكف عن السعي لتعزيز علاقتها بها منذ الخمسينات من القرن الماضي وأبرز سمة للعلاقة بين الطرفين هو التعاون العسكري  والتعاون مجال الطاقة وابرام صفقات الاسلحة ومكافحة الارهاب والتهديدات الخارجية .

التعاون العسكري

    تقتني الجزائر 60% من أسلحتها من روسيا وبذلك تصنّف كثاني مستورد للسلاح الروسي في العالم في عام 2013،  ويعود التعاون في مجال الاسلحة منذ فترة الحرب الباردة متى انطلقت العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين في عام 1962 وقد تميّزت تلك الفترة بعمليّة تعاون كبرى، حيث قام الخبراء السوفيات بنزع ألغام من الاراضي الجزائرية تحديدا في عام 1963 قُدّر عددها بـ 1.5 مليون لغم، كما تمّ تدمير 600 كلم من الحواجز والموانع التي خلفتها حرب التحرر في الجزائر. وتعدُّ  الاتفاقية الاستراتيجية  هي الاهم في تاريخ العلاقة بين البلدين  وتنص على التعاون في مختلف المجالات،  وتمّ إثرها تبادل الزيارات وعقد العديد من الاتفاقيات لاقتناء المعدات العسكرية، إذ تمتلك الجزائر غواصات روسية الصنع، وقد اقتنت نظام الدفاع الجوي الصاروخي ” س400″ ، بالإضافة الى دبابات وطائرات ومروحيات هجومية وأنظمة رادارات روسية تشكّل اهمية كبرى بالنسبة للقوات المسلحة الجزائرية. ويجمع الخبراء على أنّ اسباب اعتماد الجيش الجزائري على المعدات الروسية يعود بشكل رئيسي الى امتناع أمريكا عن تزويدهم به، ففي عام 2010 تنازلت الجزائر عن 50% من طلباتها للأسلحة من الولايات المتحدة الامريكية.

مجال الطاقة

لروسيا دور كبير في تعزيز وتطوير مجال الطاقة في الجزائر، حيث عملت على استخراج المعادن والثروة المائية وخامات الحديد والزنك والرصاص بإرسال خبرائها، كما تمتلك استثمارات كبيرة في هذا القطاع بالجزائر تقودها شركات ” غاز بروم ” و ” لوك أويل” و ” زاروبيج ” .وتتخوف اوروبا من تأثير الشراكة الروسية الجزائرية على حصتها من الغاز النيجيري الذي يمر عبر الجزائر، حيث تسعى روسيا الى استغلال علاقتها بهذا البلد  للضغط على سوق الطاقة الاوروبي، لذلك هناك محاولات عدّة للحد من تنامي هذه العلاقات بين روسيا والجزائر ليس من اوروبا فقط، بل من عديد الدول الاخرى التي ستتأثر مصالحها بهذه العلاقة، على غرار الولايات المتحدة الامريكية  والصين .

مجال التجارة

بلغ التبادل التجاري بين روسيا والجزائر في عام 2001 ما يقارب 200 مليون دولار، وقد شهد قفزة كبيرة في عام 2006 ليصبح 643.8 مليون دولار، وفي عام 2007 تضاعف ليبلغ 1338.4 مليون دولار، أمّا في عام 2008  فقد ناهز 1342 مليون دولار، وقد بلغت قيمة  الصادرات الروسية الى الجزائر في نفس العام  1120.5 مليون دولار حيث مثلت الماكينات ووسائل النقل 63% من نسبة هذه الصادرات والمعادن غير الحديدة ومنتجاتها 8.5% .   وفي بداية عام 2009 شهد التصدير الروسي الى الجزائر انخفاضا كبيرا مقارنة بعام 2008 ليصل 25.97 مليون دولار فقط. أمّا في عام 2014 فقد بلغت التبادلات التجارية بين البلدين 885 مليون دولار وقد عادت للانخفاض في 2015 لتصل الى 171 مليون دولار .

4- العلاقة الاستراتيجية بين روسيا والجزائر تثير مخاوف القوى الدولية

أشارت مصادر أمريكية الى ضعف وتفكّك الدور الفرنسي في الجزائر منذ عام  2000 وخروج الاخيرة من قائمة البلدان التي تحت هيمنة فرنسا، وذلك مع انطلاق فترة حكم الرئيس الجزائري      “عبد العزيز بوتفليقة “، وقد أجمع الخبراء على أنّ روسيا هي العامل الرئيسي في إضعاف دور فرنسا في الجزائر، حيث ارتكزت سياستها من أجل الدخول على المجال العسكري بدرجة أولى ثمّ المجال الاقتصادي، ويبدو أنّ الدور الروسي في الجزائر يعتمد على استراتيجية تبادل المصالح وليس بسط النفوذ والهيمنة، وتهدف هذه العلاقات البرغماتية على هدف تدمير العدو، ليس بالسلاح لكن باستهداف مصالح الدول الاخرى في الجزائر مقابل إثبات مدى نفعية العلاقة للأخيرة.

لذلك تُشدد تقارير أمريكية على ضرورة تسليط انظار واشنطن على الجزائر لأنّها نقطة مركزية في سياسة روسيا للتمدد في افريقيا وضرب مصالح الولايات المتحدة الامريكية .

في المقابل أشارت مصادر جزائرية إلى أنّ الجزائر لن تكون في موقع الخضوع أمام فرنسا لكن لن يكون لديها مانع في بناء علاقات ذات مصالح مشتركة  وتأتي علاقاتها مع روسيا في إطار تنويع الشركاء وتحقيق المصالح المشتركة .

ومن جهة اخرى يشير المراقبون إلى أنّ الجزائر لازالت تحت النفوذ الفرنسي لكن بشكل أقل حيث قُدرت خسائرها الاقتصادية نتيجة السياسة التحررية الجزائرية ب 18 مليار دولار، لكنّ فرنسا لن تستسلم بسهولة إذ تشبّثت بالسوق الفرنسية باعتماد 400 شركة في الكثير من القطاعات .

ويبدو أنّ الجزائر لازالت تأمل تطوير العلاقات مع روسيا وتحقيق المصالح المشتركة، وهذا الرابط بين البلدين يستمد ثقله أساسا من العلاقة التاريخية ودعم الاتحاد السوفياتي للثورة الجزائرية .

By admin