السبت. نوفمبر 23rd, 2024

إعداد : الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية

تشهد الإنتخابات في الدول العربية وفي العالم نقلة نوعية من حيث الشكل والمضمون، فالذين كانوا يصورون أنفسهم بأنهم “الماكينة” الإنتخابية المتمرسة االتي تمتلك الخبرة الميدانية للتأثير على الرأي العام الشعبي، قد أصيبوا بنكسة كبيرة وأدركوا أن آلتهم الإنتخابية وقواعدهم أصبحوا من الماضي ولا يمكنهم التأثير أو تحويل الوجهة.
لقد تغير الواقع وزاد من مستوى التعقيد لدى مسؤولي الحملات الإنتخابية في كيفية التعامل مع الواقع الجديد وتمرير إعلاناتهم السياسية عبر تطبيقات شبكات التواصل الإجتماعي، مع تغير هذه الشبكات من فضاء للتعارف والعلاقات الإنسانية إلى فضاء أكثر تعقيدا ليصبح أداة بارزة تُحدث صدى واسعًا على الساحة السياسية على اختلاف فاعليها، ومنبرا للخطابات السياسية والنقاشات الحادة والإتهامات المتبادلة وحتى للتكتيك السياسي وكتابات قد تحمل رسائل مضللة، مما يجعل الإعلانات السياسية على مواقع التواصل الإجتماعي محل جدل ونقاش كبير بسبب تكلفتها ومحتواها والطريقة المثلى للرد عليها، مما دفع الشركات -وتحديدًا فيسبوك وغوغل- إلى تطوير السياسات المتعلقة بالإعلانات السياسية المدفوعة.

الإعلان السياسي على غوغل والفيسبوك
نعتمد في هذا التقرير على دراسة بعنوان “المتحكمون فيما يراه المصوتون: كفاح شركات الفيسبوك وغوغل مع تطبيق السياسات والعمليات الخاصة بالإعلان السياسي” للباحثيْن دانيال كرايس،وهو أستاذ مشارك بقسم الصحافة والإعلام بجامعة شمال كارولينا، و شانون سي ماكيغرغور، الأستاذ المساعد بقسم الصحافة بجامعة يوتا، وهذه الورقة البحثية المنشورة بدورية “الإتصال السياسي” تتطرق بالأساس إلى الطريقة التي تدار بها الإعلانات السياسية المدفوعة التي تعرضها غوغل وفيسبوك.
انطلق الباحثان في هذه الدراسة بالأسئلة التالية :

  • ما المنطق الذي تطبقه شركتا فيسبوك وغوغل لتنظيم المحتوى السياسي المقدم على منصاتهما؟
  • وما هي القدرة التي تمتلكها المنظمات والشركات لتغيير قرارات شركتي فيسبوك وغوغل فيما يخص تنظيم المحتوى المعروض؟.
    اعتمد الباحثان على منهجية بحثية دقيقة وموضوعية وذلك بتوضيح الطريقة التي تمت بها صياغة البيانات والمعلومات التي مُنحت لهما من قبل المسئولين السياسيين، وقد اعتمدا على تقنية البحث السوسيولوجي ضمن المنهجية الكيفية فتم الإستناد إلى مقابلات مع أحد عشر مسئولًا سياسيًّا لهم علاقة بالحملات الإنتخابية والإستشارات السياسية بالولايات المتحدة، كما تم الإتصال بسبعة موظفين بشركتي غوغل وفيسبوك متخصصين في الأعمال المتعلقة بالإنتخابات.
    وضمن المنهجية التحليلية للوثائق اعتمد الباحثان على تحليل رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة بين مسئولي الحملات الإنتخابية الأمريكية في 2016 و2017 وكذلك الرسائل عبر الفيسبوك بموافقة وتصريح من أحد العاملين بالشركة وأصحاب رسائل البريد الإلكتروني، لذا يمكن اعتماد هذا البحث كمرجع علمي لفهم الظاهرة الإنتخابية عبر وسائل التواصل الإجتماعي.
    كما تناولت الورقة البحثية موضوعا مهما جدا يتعلق بالأموال المدفوعة لشركات التواصل الإجتماعي وعلاقتها بالحملات الإنتخابية، وتوضح الدراسة أن غوغل أكثر شفافية من فيسبوك في السياسات الخاصة بالإعلانات المدفوعة. والملاحظ أن هذه الشركات ترفض أن تكون مسيطرة على توجه الناخبين، إلا أنها تقبل مقابلًا ماديًّا نظير بث محتويات سياسية مختلفة وهذا معقول جدا مع شركتين ربحيتين إذ تسيطر كل من فيسبوك وغوغل على نحو 58% من إجمالي 111 مليار دولار تُخصص للدعاية السياسية الإلكترونية، حيث يدفع السياسيون مليارات الدولارات لبث محتويات سياسية بعينها.
    طبعا هذه الإعلانات السياسية عبر غوغل وفيسبوك لها آلياتها الموضعية.. فغوغل أكثر تنظيمًا و حرصا في الإدارة وكذلك أكثر علانية وانضباطًا من حيث المحتوى الإعلاني، لذلك فهي تمتلك خصوصية في سياسات التصنيع الخبر الإعلاني السياسي. ومع ظهور شركة فيسبوك ارتأت غوغل إعادة تنظيم القوانين المتعلقة بالإعلانات السياسية المقدمة على منصاتها والتي تتماشى مع المعايير الوطنية المُقرّة من قبل المؤسسات المختصة بالولايات المتحدة.
    وتدعم غوغل استهداف الفئات المشاركة في الإعلانات الإنتخابات السياسية بناء على السن، والجنس، ومحل الإقامة، والمصالح، وسلوك المستخدم من حيث البحث عن مواقع بعينها، وكذا المستخدمين الذين تفاعلوا مع الإعلان من قبل.
    أما الفيسبوك فليس لديها نفس المعايير التي يعتمدها غوغل، فهو يمتلك سياسات إعلانية عامة، بالإضافة إلى سياسات تتعلق بالمحتوى السياسي المقدم، ويتم تحديد الشرائح المستهدفة بناء على الجنس، والعمر، والحالة التعليمية والإجتماعية والمناطق الجغرافية، وحالة العمل، والدخل، وصلات القرابة على الفيسبوك، واللغات المحلية، والأجيال، وأخيرًا تمت إضافة الأيديولوجيا السياسية التي تُقاس بمقياس يأخذ درجات بين المحافظة والليبرالية.
    كما تبين الدراسة أن الشركتين تسمحان بتمكين الحملات السياسية من استخدام البيانات المتاحة لديهما من أجل “الجماهير المعينة” في حال الفيسبوك، و”العملاء المطابقين” في حالة غوغل، وتحدد الإعلانات المسموحة طبقًا لمجموعة من المعطيات الشخصية، فهي لا تسمح بإعلانات تروج لمعاملات غير آمنة أو منتجات زائفة، أو تروج للعنف والكراهية، والتمييز العنصري، ومع أن الترهيب أو التمييز ليسا واضحين، إلا أن غوغل تطور إرشاداتها بناء على تقييمات المستخدمين.
    وتضع فيسبوك محددات إرشادية بخصوص الإعلانات السياسية المنشورة والتي يجب أن تتماشى مع “معايير مجتمعية” حسب تقديراتها، فمثلا تحاول أن تراعي المساواة والأمان، وتلك المعايير تُمكّن الشركات من فرز الإعلانات التي يُراد بثها عبر منصاتها.
    وبالنسبة لشركة غوغل تستخدم طريقة خوارزمية حسابية لتصنيف الإعلانات، والتي بها يتم الإستبعاد غير الملائم مع القوانين العامة التي سبقت الإشارة إليها، وما تبقى يتم فرزه وتقييمه عبر فريق بشري مسؤول عن الإعلانات ليقبلها أو يرفضها ويرسل ملاحظاته إلى الجهات المسؤولة، إلا أن هناك بعض الإعلانات التي تتخالف مع ذلك نتيجة سيولة كلمة التمييز أو الكراهية.
    ويشير الباحثان إلى أمر مهم يتعلق بالقرارات المأخوذة داخل تلك الشركات لا تقابل التوافق بين جميع أعضاء الشركة، فالأمر غاية في التعقيد، وعادة ما تتطلب الموافقة على عرض بعض الإعلانات في شركة غوغل ما يقرب من 72 ساعة، وهي فترة طويلة، خصوصًا بالنسبة للإعلانات السياسية، ويتم مراعاة النزاهة التامة عند قبول أو رفض الإعلانات. في المقابل وبالنسبة لشركة فيسبوك تتم مراجعة الإعلانات خلال 24 ساعة، ولا يتم تقديم أسباب واضحة عن الرفض، وقد يتم إعادة صياغة الإعلان حتى يتلاءم مع سياسات الفيسبوك. ولكن يشير ممارسو السياسة إلى أنه في أثناء الحملات الإنتخابية الكبرى كالرئاسية يتم الضغط والتدخل في قرارات الشركات، وإجراء مفاوضات مع شركة فيسبوك تستمر لفترة طويلة، وهو ما يؤكد أن عملية الموافقة على الإعلانات غاية في التعقيد.

ويستشهد الباحثان بالحملة الإنتخابية المتعلقة بانتخابات حكام الولايات بأمريكا في سنة 2017، حيث اشتكت إحدى الحملات من إعلان الحملة المتنافسة المدفوعة الثمن حيث تم تغيير عنوان مقالة صحيفة “الواشنطن بوست”، وقد جاء حينها رد موظف الفيسبوك على مسؤول الحملة في النقاط التالية:
1- التعليق بخطإ ذلك العنوان المنشور من قبل المرشح نفسه أو من أحد أفراد حملته.
2- نشر الخبر الحقيقي على الصفحة الخاصة بالمرشح، وذكر ذلك في تعليق على منشور الحملة المنافسة.
3- تدخل كاتب المقالة الحقيقي، وإعلانه عن التضليل الموجود بالإعلان.
4- يمكن عمل إعلان ترويجي من قبل الحملة لتصحيح عنوان المقالة.
5- عمل صفحة جديدة لتصحح ما تروجه الحملة المنافسة.
وهنا يبين الكاتبان أن سياسة الفيسبوك فيها نوع من المماطلة فهي تُلقي بحِمل تصحيح الخبر على الحملة المنافسة وهذا غير معقول من دون أدنى تدخل من شركة فيسبوك لإعادة تحرير العنوان المضلل، في الوقت الذي تنتهك فيه الحملة الأخرى سياسات فيسبوك المعلنة، إلا أن إثبات ذلك سيُضيع الجهود هباء وسيحتاج وقتًا كبيرًا.

ومما يؤكد تعقد المسألة في داخل شركة فيسبوك مع الحمالات الإنتخابية السياسية، تبادل المراسلات الإلكترونية بعد عدة شهور، إذ قامت الشركة بحذف المنشور الخاص بالحملة المنافسة دون إبداء أسباب لحذفه، وأرسلت إلى الحملة الأساسية بأنها على استعداد لمواجهة أي أخبار خاطئة، و تم تغيير سياسة فيسبوك الخاصة بالنشر لتسمح للمؤسسات الصحفية بمراجعة عناوين الموضوعات المتعلقة بها في منتصف حملة 2017، ولم تظهر تلك السياسة فجأة، ولكنها أخذت وقتًا طويلًا من النقاشات الداخلية ليتم إقرارها، وهذا ما يثبت ارتباكها وسيطرة بعض القوى السياسية على تقديراتها.
وفي اعتمادهما على تحليل رسائل البريد الإلكتروني يتواصل يصف الباحثان شركة فيسبوك بعدم رغبتها في أن تكون “حاكم الحقيقة”، ولكنها “حاكم الإنتباه”، فهو يستقبل إعلانات مدفوعة بمبالغ كبيرة، ولا يدقق في صحة الأخبار، وما يعطيه من تبريرات ونصائح لتتبعه الحملة المنافسة حتى تكشف فبركة أخبار الحملة الأخرى ، وهذا يؤكد على الصبغة الربحية المتوحشة لشركة فيسبوك وأن هدفها الأساسي هو اكتساب مزيد من الدولارات، دون أدنى محاولة للتدخل فيما يتم بثه للناخبين على عكس كافة وسائل الإعلام الأخرى التي تسيطر على هذا الأمر مثل التليفزيون والراديو.
كما تبين الورقة البحثية نقطة هامة هي أن حذف المنشورات يرتبط بدرجة أكبر بالأخبار أوالمقالات وليس بالفيديوهات التي قد تحتوي على نفس المعلومات المضللة، لذا يجب على شركة فيسبوك إعادة النظر في سياسات النشر الخاصة بها وتطويرها لمساعدة الناخبين على تلقي الحقيقة، وهو ما رد عليه الموظف التابع لشركة فيسبوك مستشهدًا بحديث “مارك زوكربيرغ” من أن هدف فيسبوك إظهار المحتويات الأكثر فائدة وليس الأكثر دقة، لذا فالأمر بعيد عن مسؤئولياتهم.
وتوضح الورقة أنه نظرًا لتوجه اهتمام فيسبوك الأكبر نحو تحقيق الأرباح، فهو أكثر ميلًا إلى أن يكون راعي الإهتمام وليس راعي الحقيقة، كما أن دوره في إثارة الإنتباه والإهتمام يجعله يستمر لمدة أطول في الأسواق ويحقق نموًّا سريعًا، إلا أن الضغط العام يدفعه إلى الإستجابة لضرورة تحوله لرعاية الحقيقة، وهو ما دفع الباحثان إلى التساؤل عن ماهية الحقيقة السياسية، فالأمر رخو إلى درجة كبيرة، فضلًا عن أن الشركة بأفرادها يفتقدون إلى الخبرة الديمقراطية التي تجعلهم يدققون في الأخبار بصورة احترافية، إضافة إلى عدم قدرتهم على مواجهة صراعات الخطاب السياسي المنتشر بالأساس خارج ساحات مواقع التواصل.
حلول مطروحة في الورقة البحثية:
تشير الورقة إلى أن الحل الوحيد لما جاء ذكره يتمثل فيما ذكره موظف الفيسبوك من زيادة الإعلان السياسي المدفوع المناهض للأخبار المضللة، ففي الواقع سيزيد ذلك من أرباح الفيسبوك، ولكنه في المقابل قد يزيد من قدرات الساسة على التلاعب بالأخبار، وهنا سيظهر دور فيسبوك في تقديم إعلانات مدعومة أو مخفضة أو مجانية لكشف الحقيقة في حال ثبوت خطإ الإعلانات الخاصة بالحملات المضادة، ومنح حق الرد للجهات الأخرى، وسيكون على فيسبوك النظر في تداول أية أخبار ومدى ما قد تسببه من مشكلات وليس النظر في صحتها، لأن هذا أمر لا يمكن الجزم به في السياسة، فضلًا عن ضرورة التعامل بطريقة أكثر شفافية مع الإعلانات السياسية وتمويلها والخطاب الذي تضمه والجمهور المستهدف، وهذا ما سيدعم الدور الديمقراطي الذي تقوم به تلك الشركات، مع ملاحظة أن هذه الشركات المتوحشة في الربح تطبق الديموقراطية التي تصلح بها وبما توفر لها الربح الأقصى.
كما يمكن تمكين جهات خارجية أكثر دراية بصحة المحتوى مثل الصحفيين للتدقيق فيما يتم بثه من إعلانات سياسية مدفوعة، وكل هذا سيحدث مزيدًا من الشفافية للممولين وأصحاب الحملات السياسية وكذا الجمهور المستهدف، حيث سيظهر دور الجمهور في القضايا العامة المحورية التي تُحدث صدى واسعًا في الضغط على مؤسسات الشركات مثل غوغل وفيسبوك لجعل سياسات النشر بها أكثر شفافية، والتدقيق فيما يتم نشره من أخبار.
ختامًا، تشير الورقة إلى أنه إذا لم تكن السياسة هي الهدف الأول الذي رغبت شركات التواصل الإجتماعي في الدخول فيه، فإن التواجد القوي والدور الفاعل لتلك المؤسسات حاليًّا في مسار العملية الديمقراطية يضعها أمام مسؤولية أكبر تتطلب مزيدًا من المؤسسية والضوابط داخل تلك الشركات حتى يمكن توفير خطاب سياسي ملائم للمحتوى العام يحيد إلى أقصى درجة عن الأكاذيب.


By Zouhour Mechergui

Journaliste