إعداد: فاتن جباري قسم العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية
مراجعة الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية
منذ إعلانها دولة الاحتلال الإسرائيلي، عملت الحركة الصهيونية وقادة الكيان على تبني عدة استراتيجيات لترسيخ وتثبيت نفوذهم في أرض فلسطين العربية من إستراتيجية سياسية وعسكرية واقتصادية لتحقق أمنها الداخلي والخارجي كقوة مزعزعة في المنطقة وهي الحليف الأول للولايات المتحدة الأمريكية.
لقد قامت الاستراتيجية السياسية على تعزيز التحالف مع القوى الفاعلة في النظام الدولي من المشرق الى المغرب، وكذا السعي لإعتراف أكبر قدر من الدول بما فيها الدول العربية والإسلامية من خلال ما أسمته إسرائيل الاتفاقيات الإبراهيمية الواقع إبرامها مع دول عربية عدة على غرار دول الخليج العربي، ومصر والمغرب …
وأما من الناحية العسكرية فلقد سعت دولة الكيان الصهيوني، الى خلق تفوق عسكري من خلال تلميح لم يشهد مثيل، حيث تشير التقارير الصادرة عن وزارة الدفاع الإسرائيلية التي تملك قرابة 90 رأسا نوويا، علاوة على نظام القبة الحديدة وحيازتها لللأسلحة الجرثومية المحظورة دوليا، كما تبلغ الميزانية العسكرية الإسرائيلية المعلنة نحو 19 مليار دولار، وهي من أكبر الميزانيات مقارنة بعدد السكان، ويفسر ذلك بتخطيط بالألية المعتمدة صهيونيا في التصدي لأي محاولة الاعتداء عليها من قبل دول الطوق في ضل التهديد النووي الإيراني أو حرب النفوذ في منطقة البحر الاحمر.
وأما بخصوص الإستراتيجية الإقتصادية فالغاية الأساسية من وراءها هي التحرر الكامل من تبعية الدول العربية، وكذلك مسايرة الاقتصادي اللبرالي وربط عجلة اقتصادها بالاقتصاد الرأسمالي الأمريكي وذلك من خلال مشروع شيد منذ العام 1950 وهو قناة بن غريون “الممر الهندي الأوروبي”… ، ويهدف كيان الإحتلال الصهيوني ومن خلفه من وراء القناة المزعومة السيطرة المطلقة على خطوط التجارة العالمية، وقطع الطريق على مشروع الحزام والطريق الصيني، وتهميش قناة السويس حيث أن الهدف الرئيس من وراء شق هذه القناة هو بسط السيطرة الاقتصادية على المنطقة، سواء بنشر الفتن أم بالاتفاقيات أو بالتطبيع لتمرير هذا الهدف الرئيس.
من هنا بدأنا نفهم وأن قيام دولة الكيان كانت على أساس استراتيجية إسرائيل في البحر الأحمر القائمة على نظرية الأمن من جهة والحدود الآمنة من جهة أخرى .
أولا – ما بعد الطوفان الأقصى وحسابات إسرائيل من وراء الهدنة
يخطئ من يظن أن تداعيات طوفان الأقصى وما تلاها من اعتداءات إسرائيلية بحق المدنيين، تحت عنوان القضاء على المقاومة في غزة وتحرير الأسرى، بالإضافة إلى مشروع إفراغ القطاع من ساكنيه، ستبقى محصورة في إطار ما يتم الحديث عنه من هندسة سياسية ترسم إطاراً جديداً للسلطة في القطاع.
بكل بساطة، إن طموح إسرائيل أبعد من ذلك بكثير … ومن ورائها الولايات المتحدة الامريكية والدول الغربية الذين يعتقدون بأن دعم إسرائيل حارسهم الأمين في المنطقة سيحميهم من “الضغوطات الروسية” وسيهدم مشروع الصين “طريق الحرير”.
إن المنظومة الصهيونية، أكبر وأوسع من إسرائيل وحكوماتها، ولكنها تشملهم، كما تشمل امتدادات واسعة في كل العالم، وهي تمارس استراتيجيةً ضد الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية من أجل المشروع الإستعماري الأمريكي وقد قالها بايدن صراحة “لولم تكن إسرائيل موجودة في المنطقة لما أوجدناها” وهذا واضح وصريح ولا يستدعي الكثير من التأويلات.
فبعد نجاح المشروع الصهيوني في تأسيس أداته وهي إعلان دولة إسرائيل، وتكوين قوى الضغط الصهيوني في الدول الداعمة لإسرائيل، تواصل الدوائر الصهيونية العمل على تنفيذ مختلف عناصر المشروع وأركانه وذلك من خلال إحلال صهينة الأرض الفلسطينية والتأسيس لغزة تربط الأرض بالبحر.
تقول احدى الدراسات الصادرة في المجلة العبرية “بديعوت أحرنوت” أن من أهم عناصر المشروع الصهيوني طويل المدى، “قانون قومية الدولة اليهودية” ويحمل هذا القانون الرقم 13 في دستور الدولة منذ العام 2018 وبدأت إسرائيل تعمل على تجذير بنوده، ووضعه موضع التنفيذ العملي في مناخ سياسي ملائم في المنطقة.
إقليميا، تنحدر نظرة الصهاينة الى إعلان أرض إسرائيل “الوطن التاريخي للشعب اليهودي”، وأن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي مثلما ينصّ عليه القانون العدواني. ان ذلك بمثابة خطاب صهيوني إلى يهود العالم كافة لتقرير مصيرهم في العودة إلى ما يسمى- أرض إسرائيل- ولن تتم تلك الإستجابة الاّ بتجذير الوطن التاريخي ودولة إسرائيل، في وجدان وضمائر أبناء الشعب اليهودي المتصهين أينما كانوا، وحتى تبقى هذه الدعوة قائمة ومستمرّة، فأن إسرائيل اعتمدت بشكل عملي ودون إعلان، اعتمدت نظرية الاحتلال الدائم والهدم من أجل إعادة البناء ولكن الوضع قد تغير وسيتغير من بعد تاريخ 7 أكتوبر الذي أسقط الكثير من المخطاطات وخاصة تصوير أن إسرائيل آمنة ويمكن العيش فيها فعملية الإقناع ليهود العالم ليجتمعوا في “أرض الميعاد” قد ضربها عملية طوفان الأقصى .
أما على الصعيد الدولي، فقد كان للمشروع الأميركي لمرحلة ما بعد الأحادية القطبية يفترض ضرورة ترتيب نفوذه في المناطق التي يَعُدّها حيوية لبقائه في دائرة التفوق العالمي في منطقة الشرق الأوسط.
وإذا انطلقنا من مشروع الربط الاقتصادي، والذي أعلنه الرئيس الأميركي جون بايدن في قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي، من حيث أهميته لمواجهة التمدد الصيني ومشروع الحزام والطريق ستظهر أهمية القضاء على المقاومة في غزة، بحيث إنها تشكل تهديداً حيوياً لهذا المشروع الذي يرتكز على ميناء حيفا كحلقة وصل أساسية بين الشرق والغرب.
وبحيث إن جبهة التطبيع ستشكل إلى جانب الكيان الإسرائيلي أهم حلقات هذا المشروع، وبالنظر إلى انخراطها أمنياً في إطار الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، سيظهر واضحاً سبب صمتها، إن لم نقل تواطؤها، عمّا يحدث في القطاع بل أن التسليح العسكري الذي فاق كل التوقعات هو مساهمة أمريكية في هدم غزة وإعادة أعمار دولة الكيان بما هي مسالك ومرافئ وقنوات بحرية تربط الشرق بالغرب وفعلا ومن تحت الطاولة فبايدن قد أعطى لنتنياهو الإشارة الخضراء لإبادة الشعب الفلسطيني ومسح قطاع غزّة بالكامل .
ثانيا – ما بعد الطوفان هل قلب الموازين ؟
بالقدر الذي كانت لعملية طوفان الأقصى، كعمليةٌ إيديولوجية عسكرية جريئة شنَّتها حركة حماس وفصائل المقاومة في7 أكتوبر 2023 ضد جيش الاحتلال في غزة ردًّا على الانتهاكات الإسرائيلية في المَسْجِدِ الأقصى، وبهدف تبييض السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيين.
كان عنوانها الأساسي الرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى ومحاولة تكريس قواعد اشتباك جديدة يُذعن الكيان الإسرائيلي من خلالها للقوة التي راكمتها المقاومة في القطاع، من دون أن نهمل سعي المقاومة الحثيث لإفراغ السجون الإسرائيلية من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، بحيث تخطى عددهم 8 ألاف معتقل، فإن الكيان الإسرائيلي، ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية وبعض القوى الإقليمية المطبعة، وجدت في طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي الهستيري فرصة في محاولة تمرير مخطط يستهدف “ترتيب واقع قطاع غزة جديد”، على نحو يخدم مخططات تتقاطع فيها مصالح الولايات المتحدة، في سعيها للمحافظة على مكتسباتها كقطب أوحد، مع مصالح دول جبهة التطبيع، مع الكيان لناحية إنهاء الحالة الفلسطينية المقاومة كمدخل لمشروع شرق أوسطي تتكامل من خلاله رؤى هذه الجهات، السياسية والأمنية والاقتصادية.
يوماً بعد يوم، تتكشف حقائق جديدة عن مدى تردّي وضع الجيش الإسرائيلي، بقادته وجنوده، في القتال الميداني والبري، وهو الذي كان يُوصف في سبعينيات القرن الماضي، بأنه الجيش الذي لا يُقهر.
فبعد 7 أكتوبر قد يعتقد البعض بأن عنصر المفاجأة والمباغتة أربك جنود وضباط جيش الاحتلال وربما يظن البعض أن ما شهدناه خلال الأيام الماضية، من عمليات نوعية للمقاومة الفلسطينية من مسافات صفرية، هو أمر طبيعي بحكم طبيعة المعركة وتكتيكاتها “حرب مدن وحرب عصابات ثورية” إلا أن ما جرى كشفه خلال الساعات الماضية، يؤكد بما لا يمكن الشك فيه، أن مقاومي القطاع من كل الفصائل، سيحققون إنجازاً في العملية البرية قد يفوق الذي حصل خلال عملية طوفان الأقصى بأشواط وذلك للأسباب تحقق معايير الانتقال من مركز المقاومة من طرف في العملية الى الى المحور المركزي المسير للعملية :
- تزايد ورود أنباء الفرار من صفوف جيش الاحتلال، قبل أيام تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن فرار أكثر من 2000 عنصر احتياط من الخدمة فيما كشفت صحيفة يديعوت أحرنوت مؤخراً عن إقالة قائد سرية إسرائيلية ونائبه، بعد فرار سريتهما أثناء القتال في قطاع غزة.
- أكدت يديعوت أحرنوت أيضاً بأن الجيش الإسرائيلي لا يزال يواجه تحديات صعبة، فهناك مراكز قوة مهمة للقسّام داخل غزة لم يسيطر عليها بعد، مثل حي الشجاعية الذي اشتهر بالقتال العنيف خلال عملية “الجرف الصامد” عام 2014، أو مخيم جباليا أحد أهم معاقل الكتائب، وحي الدرج والذي يعتبر من المعاقل المهمة لحماس شرق مدينة غزة وهذا ما دفعها الى تكذيب كبار المسؤولين الأمنيين في الكيان الذين ادعوا قبل الهدنة بأن حماس “فقدت السيطرة” في شمال قطاع غزة، فيما الواقع يقول بأنها لا تزال تتمتع بوجود عسكري في المنطقة.
- تأكيد العديد من خبراء ومحللي الكيان العسكريين والسياسيين، بأن زمام المبادرة في ملف المفاوضات هو بيد قيادة حماس، وليس بيد مسؤولي الكيان.
- رضوخ الكيان وقبول مسؤوليه السياسيين لهدنة تم التمديد فيها، بسبب صفقة تبادل الأسرى التي عُرضت عليهم منذ الأيام الأولى للمعركة والتي كانوا يرفضون الحديث حولها من أساسه.
- مسارعة قادة الاحتلال الى القبول بخيار تمديد الهدنة، ورمي كرة تجديدها في ملعب المقاومة لمعرفتهم بأنها هي صاحبة أوراق القوة في هذا الموضوع.
ثالثا – الإنجازات التي حققتها المقاومة: إسرائيل في سيل الطوفان
في هذا الإطار، لا يغيب عن عقل محور المقاومة أن الإنجازات التي حققتها قوى المقاومة انطلاقاً من تأسيس العمل المقاوم وفق رؤية تنظيمية متماسكة ووفق فعالية حوّلت المقاومة من مجرد مجموعة متناثرة لا تمتلك في كنهها ما يمكن أن يشكل خطراً وجودياً على الكيان إلى جبهة متماسكة قادرة على أن تفرض معادلات إقليمية مؤثرة على رغم أنها في أكثرها كيانات “غير دولتية” ستترك أثراً مقلقاً يتخطى في حدوده الكيان الإسرائيلي، وبالتالي يفترض المحور أن تداعيات التحرك لإفشال أهداف العدوان على قطاع غزة ستطال مشروع الولايات المتحدة الاستراتيجي في المنطقة.
خلاصة
إذا إستندنا إلى ظروف المعركة البرية أولاً، وظروف الهدنة الأخيرة ثانياً، ونجاح المقاومة في فرض إيقاعها على شروطها ومسارات التبادل وإدخال المساعدات إلى القطاع، مع ما يعنيه الأمر من إذعان إسرائيلي وأميركي لظروف الميدان، فإن ذلك لا يعبّر إلا عن نجاح المقاومة في إفشال أهداف العدوان على غزة فالتسليم بعدم القدرة على تخطي حركة المقاومة الفلسطينية، وعدم إمكان تحرير الأسرى إلا من خلال التفاوض معها، مع ما يعنيه الأمر من فشل على مستوى هندسة القطاع سياسياً سيترك تأثيره في واقع المنطقة بحيث تظهر المقاومة كمن استطاع أن يفرض رؤيته.
بات يتأكد لدينا اكثر من أي وقت مضى أن “المقاومة ” قد أعدت عدتها وحسمت مخططها ليس ظفرا بإنجاح الطوفان بل أن هذا الطوفان أبعد مما تتخيل إسرائيل لأنه سيشمل مشروعا متكاملا ولعبة متقونة اينما اتقان في الإطاحة بكواليس حرب الشرق الأوسط والبحر الأحمر ومشروع التطبيع العربي ومشروع بن غريون الطريق الرابط بين كيان اسرائيل المؤقت حيث تكون غزة بوابة بحرية عالمية لكن هيهات فحلم إسرائيل سيجرفه سيل الطوفان ولا تزال الحرب في المنطقة والعالم لم تبدأ بعد فالمشروع كبير والأطراف الرئيسية للعلب لم يتدخلوا بعد… وكل المؤشرات تقول بان الحرب ستمتد من الشرق الأوسط الى تايوان الى بحر الصين الى البحر الأبيض المتوسط وستكون اللعبة للكبار….