الاعداد: الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية
وفقاً لباحثين من جامعة “فودان الصينية”، فإن الإختلاف الأساسي بين الصين والدول الغربية هو أنّ الأولى تعتمد على المصلحة الجماعية للشعب بأكمله ورفض التشتت، بدلاً من عكس مصالح الفئات الاجتماعية المتباينة في أنشطة العديد ومختلفة من الأحزاب المتنافسة وبالتالي خلق صراعات اجتماعية كبرى تشتت المجهود الجمعي للمجتمع على حساب المصلحة العليا للوطن.
وهذا يعني أن المركزية هي شرط ضروري للتقدّم، وإلا فإنّ الإمكانات السياسية ستهدر على صراعات داخلية لا معنى له، وبالتالي اهدار الطاقات البشرية والاجتماعية في صراعات ومهاترات لا معنى لها بدعوى أكبر كذبة خلقتها البشرية “الديمقراطية” و”حقوق الانسان” التي أصبحت القوى المعادية تستعملها لضرب استقرار الدول والهيمنة عليها.
على مدى السنوات العشرين الماضية على الأقل، كان اهتمام المنظّرين والممارسين في مجال العلاقات الدولية ينصبّ على ما يمكن وصفه بـ “النمو السلمي” للصين. ويحاول باحثون من مختلف البلدان إحتساب الإمكانات الحقيقية والكشف عن النوايا الموجودة لدى القيادة الصينية لجهة إستبدال الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة على العالم والتي فشلت في أغلب مناطق العالم بل أنها اصبحت متهمة في نزاهتها والكل يتهمها بعدم المصدقية حتى أنه هناك أصوات في العالم قد تعالت وتتهم الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية ب”صناعتها للارهاب”.
وحتى وقت قريب، كان يُعتقد في التقاليد الغربية أن بكين ليست لديها طموحات للمشاركة في إدارة العالم، وأنها تركّز فقط على الحد من تصرّفات واشنطن في الأماكن المهمة استراتيجياً بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ ولكن اليوم بيكين أصبحت من أهم القوى الدولية التي تدير شؤون العالم برؤية جلبت لها الكثير من المؤييدين فبيكين في تصرفاتها وخطابات قياداتها تبحث عن عالم يسوده السلام والاحترام وخاصة مبدأ “الرابح-رابح”.
في الوقت نفسه واليوم أصبحت تصريجات القيادة الصينية تجبر العالم على إعادة التفكير في دور ووزن بكين في كل من العملية السياسية العالمية ونظام الاقتصاد العالمي. وخاصة في الأمن والاستقرار والتوازن العالمي
الصين تقود العالم نحو التوازن والاصلاح
وفقاً للمُنظِّر الصيني “يان زويتونغ”، “فإنّ عصر الهيمنة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة حمل طابعا مؤقتا لحين تشكيل نموذج جديد للقطبية الثنائية، حيث ستؤدي الصين دور “القوة العظمى الصغرى”. وهذا فعلا ما بدأ يظهر على سطح العلاقات الدولية وبدأ يتشكل العالم بمنظور جديد لا يستضعف أحد بل يعمل على العمل بمبدأ الاحترام المتبادل ومبدأ الشراكات الند للند.
اليوم وبعد قمة البريكس الأخيرة 2023 في جوهنسبورغ فلقد قدّم الرئيس الصيني استراتيجية عالمية متماسكة لتشكيل النظام العالمي، وهذا ما جعل واشنطن تتحرك في الإتجاه المعاكس لإستعادة موقعها الريادي المحكوم عليه بالفشل بحسب الكثير من الخبراء والمراقبين الدوليين، فالطريق العسكري التي كانت تعتمد عليه واشنطن مغلق بسبب نظام الردع النووي العالمي، ولم يعد الأميركيون قادرين على تقديم برنامج سلمي يحظى بجاذبية، العالم والشعوب العالمية، وبدأ منسوب الثقة في أمريكا ينهار تدريجيا والكل يتهمها بالغطرسة و”الدمار” العالمي، فهي متهمة بأنها دولة “تهدم الحضارات، ولا تبني” فهي المتسببة في مآسي الشعوب ومعها طبعا حلفائها الغربيون.
ونتيجة لذلك، ظهرت فرص جديدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بديلة عن النموذج الغربي، فضلاً عن طرق أخرى لضمان الأمن العسكري والسياسي من دون المشاركة في التكتلات التي تتمحور حول أميركا.
لقد فضّل عدد كبير من الدول النامية الحدّ بشكل مستقل من تطوير المؤسسات الديمقراطية، لصالح بناء قوة راسخة وكافية لتعزيز الأمن القومي والنمو الاقتصادي المستقر بعيدا عن الشعارات الزائفة التي تريد أمريكا من خلالها السيطرة على هذه الدول ومعاقبتها من خلال جمعية الأمم المتحدة التي أصبحت تكيل بمكيالين وكذللك تمّ فضح تآمرها على شعوب العالم.
على هذا الأساس، فإنّ التراجع الملحوظ في تأثير الدول الغربية وجاذبية الأفكار الليبرالية، لم يكن بأي حال من الأحوال نتيجة لتطبيق الحكومة الصينية نوعاً من “المفاهيم السرية”، على الرغم من أن بكين، بالطبع، لديها الخطة “باء” الخاصة بها.
لا تتعارض إجراءات الصين الملموسة على الساحة الدولية مع مبادئ احترام وحدة الأراضي وسيادة الدولة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. في الوقت ذاته، لا يمكن حل المشكلات العالمية كتغيّر المناخ، ومكافحة الأمراض الخطيرة، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية غير المتكافئة، وعدم إنتشار أسلحة الدمار الشامل من دون مشاركة الصين.
وفي ردّة فعل للمحللون الغربيون على التصريحات “الجريئة” للقيادة الصينية على أنها تعبير عن نيتهم في تصدير نموذج “الاستبداد التعددي” إلى الخارج و”صيننة” النظام العالمي ويعتبرون أن هذا النموذج يعتبر خطرا على التقدم الديمقراطي الذي عملت عليه الدول الغربية ومنهم من اتهم الصين من أنها تريد التراجع بالعالم وضرب مكاسب الديمقراطية في محاولة تشويهية ولكن كل الشعارات التي يطلقها العالم الغربي اليوم وعلى رأسهم أمريكا أصبحت فاشلة.
وفي واشنطن، انخفض بسرعة عدد مؤيدي مشاركة الصين في الاقتصاد العالمي وإنشاء نموذج توافقي للحكم المشترك بصيغة “الثنائي الكبير” التي تحدث عنها “زبيغنيو بريجينسكي.”
وبدأت في الأوساط السياسية الأميركية فكرة الاحتواء الصارم متعدد الأبعاد للصين ومنع الأخيرة من نشر نموذجها الخاص للبناء السياسي والاقتصادي على نطاق عالمي. ولكن وكما سبق وأشرنا الصين تكتسح العالم اليوم واصبحت ذات مصداقية كبيرة لدى الشعوب المشتضعفة وحتى في بعض الأوساط الغربية والأمريكية الذين يفكرون بموضوعية.
إن السياسة الأميركية الحالية تجاه الصين هي حملة أيديولوجية مفتوحة ضد نوع من الحضارة المعادية التي يسيطر عليها نظام استبدادي بحسب تقديرات “صقور البيت الأبيض”.
ومع ذلك، لم يجب الخبراء الغربيون على السؤال:
هل الرؤية الصينية والنموذج الصيني لمستقبل النظام العالمي يتعارض مع القيم الديمقراطية والأفكار الليبرالية التي ينادي بها الغرب؟.
بالنسبة للصين، تعتبر المبادئ الجماعية ذات أهمية كبيرة، الإنسانية بالنسبة لها ليست مجرد مجموعة من الأفراد، بل هي مجتمع ضخم، لحقوقه ومصالحه أسبقية على الحقوق والمصالح الشخصية. لهذا السبب، ترى بكين أن النظام المركزي هو أكثر إنسانية وتقدميّة من الديمقراطية المشتتة على النمط الغربي.
وفقاً لباحثين من جامعة “فودان الصينية”، فإن الاختلاف الأساسي بين الصين والدول الغربية هو أن الأولى تعتمد على المصلحة الجماعية للشعب بأكمله بدلاً من عكس مصالح الفئات الاجتماعية المتباينة في أنشطة العديد من الأحزاب المتنافسة. وهذا يعني أن المركزية شرط ضروري للتقدّم، وإلا فإن الإمكانات السياسية ستهدر على صراع داخلي لا معنى له.
يقدّم المحللون الصينيون نظام الحكم العالمي على أنه توزيع للسلطة بين الدول أكثر من كونه هيمنة.
وتبيّن أن الولايات المتحدة والدول الغربية هي من صنع النظام العالمي الحالي الذي يعتمد على الرأسمالية المتوحشة بل وترجع بالانسانية الى عهد العبودية بشكل جديد، حيث استغلت انهيار الاتحاد السوفياتي وضعف الصين، مما جعل من الممكن مواصلة الاستغلال لجزء كبير من بلدان العالم، من دون خوف من العواقب، بل بالعكس فهي التي تعاقب وتسلط العوقبات على الشعوب لتزيد من عبوديتها والهيمنة عليها بدعوى معاقبة الحكام الذين يخرجون عن سيطرتها وأقرب مثال على ذلك تسليط عقوبات قيصر على الشعب السوري الذي تريد تجويعه واستعباده بطريقة مهينة جدا، كذلك العقوبات التي تسلطها على جمهورية روسيا الاتحادية وغيرها الكثير من النماذج الحيّة.
مع نمو قوتها في شتى المجالات، تأمل الصين في تغيير هذا الوضع، وبالدرجة الأولى من خلال حماية وتحقيق مصالح الدول النامية، وهو ما يتوافق تماماً مع رؤيتها الاشتراكية.
لا يوجد شيء معادٍ للدول الغربية في مثل هذه الرغبة، لكن المصالح القومية لبكين تتعارض تلقائياً مع أفكار “العالم الديمقراطي” حول الأمن والعدالة وقواعد معينة يقوم عليها النظام العالمي الحالي، الذي اثبت بالمكشوب فشله وتوحشه.
في عام 2016، لاحظ الباحثون في الأكاديمية الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة التغييرات الحاصلة في النظام العالمي وظهور ديناميكيات جديدة. وفقاً لهم، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على التعامل مع توزيع القوة، مما يساهم في ظهور مراكز قوة جديدة تتنافس وتتعاون مع بعضها البعض على أساس مصالحها وأولوياتها.
إن انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة بشأن إيران، وانسحابها من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، ومعاهدة الأجواء المفتوحة، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والانسحاب من اليونسكو، واتفاقية باريس بشأن تغيّر المناخ، ووقف المفاوضات في إطار الميثاق العالمي للهجرة المنظمة والآمنة… كلها أسباب ساهمت في اتساع رقعة الفراغ في نظام الحوكمة العالمية خاصة الكشف على الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية.
لم تترك أنانية وجنون واشنطن لبكين أي خيار سوى تحمّل المسؤولية العالمية عن حلّ القضايا العالمية، والانتقال إلى مركز النظام العالمي، وتوحيد كل من يشترك معها بالرؤية نفسها.
ويبدو كذلك أن الانعزالية التي تلازم سياسات البيت الأبيض والانقسام الواضح داخل أوروبا، كلها أمور عززت قناعة القيادة الصينية بالحاجة إلى موقف أقوى على المستوى العالمي.
في روسيا الاتحادية يتشارك جزء كبير من المجتمع الأكاديمي وغيره مع مبادرات الصين للمشاركة في الحوكمة العالمية، وهكذا، يلاحظ “ألكسي فسكريسينسكي” أن إحدى اللحظات البارزة كانت خطاب “شي جين بينغ” في منتدى دافوس في عام 2017، عندما أكد الزعيم الصيني أن نظام الحوكمة العالمي يمكن أن يوفّر ضمانات قوية لاستقرار وتنمية الاقتصاد العالمي فقط إذا تم تكييفه مع المتطلبات الجديدة للمنظومة الاقتصادية الدولية.
ويعتقد فسكريسينسكي أن قضايا تطوير المؤسسات الدولية وحمايتها قد لقيت دعماً واسعاً بين المجتمع الدولي، وهذا جعل من الممكن الاستيلاء على “مقود السيارة” من الولايات المتحدة، فهي لم تعد ترى الطريق جيدا وربما تتسب في “حادث مرور” فضيع يؤدي الى مقتل أغلب الركاب، ويجب استبداله بسائق حكيم رصين مثل الصين الشعبية فالرؤية لديها واضحة.
أما “أندريه كورتونوف”، فيرى أنّ بكين تتقدّم على التيار الدولي السائد، لأنها تؤمن بأن المرحلة الحالية من التفكّك لن تستمر طويلاً. وبحسب قوله، شكّلت الصين استثناءً ملحوظاً، حيث لم تقسّم العالم إلى “صواب” و”خطأ”، وليست في عجلة من أمرها لتضمين هذا الموقف في خطاب المواجهة.
لهذا السبب، سيكون مفهوم مجتمع المصير المشترك مطلوباً، حيث لا يزال يتعيّن على الإنسانية الاتفاق على قواعد مشتركة للعبة في حل المشكلات العالمية.
بدوره يقول “فلاديمير كاشين” إنّ المسعى الحالي للصين للمشاركة في أكبر عدد من المنظمات والأطر الدولية، وتأدية دور أكبر في صياغة برامج العمل لها، يمكن أن يجتذب مؤيدين جددا، وتتسع رقعة المؤييدين للفكرة وللنظرية الصينية للعالم الجديد.
الخلاصة:
هناك شيء واحد واضح تماما هو أنّ الموارد الاقتصادية والعلمية والتقنية والعسكرية والحضارية الهائلة التي تمتلكها الصين قادرة بالفعل على التغيير في الخارطة الجغرافية العالمية الجديدة التي بدأت ملامحها تظهر بل وأن رقعة اتساعها بدأت تمتد بشكل سريع وستكون فعلا البديل الانساني الذي سينقذ الانسانية من الهيمنة والوحشية الامريكية وخاصة وأن “مبدأ والحتمية الطبيعية” بدأت ترفض الهيمنة و”الفساد” الذي تقترفه أمريكا والغرب في حق الانسانية والكرة الأرضية.
ومن الواضح أن بكين تنوي اتباع مبدأ “القوة في الحقيقة، ومن لديه الحقيقة هو الأقوى”، الذي يتناسب مع التقاليد الكونفوشيوسية، ويشكّل حقيقته الخاصة حول بنية العالم البديل عن العالم الغربي.
يؤكد تقدّم محادثات “شي جين بينغ” مع قادة دول العالم بعد انتخابه رئيساً لجمهورية الصين الشعبية أن عدد مؤيدي الرؤية الصينية في ازدياد.