السبت. نوفمبر 23rd, 2024

إعداد الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية

يقول آلان دونو” أفضل تجسيد لنظام التفاهة هي صورة ذلك “الخبير” وهو ممثل “السلطة”، المستعد لبيع عقله لها، في مقابل “المثقف”، الذي يحمل الإلتزام تجاه قيم ومثل.


منذ العشرية الأخيرة ونحن نتابع الحياة السياسية ومن يسمون أنفسهم “رجال سياسية” في تونس وفي العالم وخاصة في العالم العربي ودول “الثورات العربية”، وتوصلنا إلى يقين أن من يحكم عالمنا اليوم هم التافهون بما تحمله الكلمة من معنى، وفي هذا نؤكد على كلام الفيلسوف والكاتب الكندي “ألآن دينولت” الذي تحدث سنة 2015 عن نظرية سياسية اسمها حكم التافهين للعالم في كتابه ” الميديوقراطية” أو سلطة التفاهة، La Médiocratie.


في سنة 2016 صدر كتاب آخر لنفس المؤلف بعنوان “سياسات المركزية المتطرفة” وفيه استكمل ما بدأ ويفصّل دكتاتورية التافهين ويشرح وبصورة دقيقة وكأنه معنا في تونس وفي عالمنا العربي، كيفية تصرف هؤلاء التافهين على نحو متطرف وبأي سلوك ونظام يمارسون السياسة.


كلمة ميديوقراطية Médiocratie تتكون من كلمة “Mediocris” اللاتينية التي تعني “التافه، وفي تعبير آخر “محدود الذكاء”، أما الجزء الثاني من الكلمة فهو “kratos” وهي كلمة يونانية وتعني الحكم والسلطة والهيمنة، إذن هي حرفياً “حكم التافهين أو سلطة التفاهة”.


ونحن في هذه العشرية السوداء نعيش سنوات خادعات مع رجال السياسة، مرحلة كثر فيها الكذب والخداع والنفاق والإنتهازية، ويعتلي الأماكن العليا في السلطة الخائن، ويخوّن فيها النزيه والصادق، ويتكلم وبكل وقاحة قليلُ الحياء، ويسكت النزيه، بل وأكثر من ذلك يظهر على كل المنابر الرجل التافه السطحي الغبي يتكلم في شؤون البلاد ويفتي ويصدر تشريعاته الغبية التافهة وهو أغبى الأغبياء.


فبسقوط كل المرجعيات الإجتماعية والدينية والتاريخية وبطمس الهوية بإيدولوجيا الكذب والفسوق مثل ظهور “تنظيم الإخوان المسلمين” الذي ضرب عرض الحائط كل المرجعيات وبها انهارت الأخلاق، فأصبحت من المفارقات الغريبة أن يؤتمن الخائن ويُخوّن الأمين ويُكذب الصادق، ويُصدق الكاذب، ثم يظهر هذا السفيه ليتكلم في أمور الوطن وجماعته تسميه “الزعيم” وهو أجبن من الجبن نفسه وأجهل من الجهل.


ومن مفارقات هذا الزمن العجيب أنهم يريدون إقناعك بأن السياسة ليست للأذكياء، فيعرفون السياسة هي “النافرة للأذكياء والجاذبة للأغبياء”.. فالسلطة اليوم في بلداننا تعطَى إلى صغار العقول والحمقى لأن من يريد التحكم في مفاصل البلاد ومن يريد الهيمنة عليها لا يريد الذكي والفطن ولا الوطني فهو سيعطّل مشروعه، فيتبنى ذلك التافه لمشروعه ويمجده، والأخر من كثرة غبائه يصدق الكذبة ويبدأ في تكريس مبدأ الفساد والسلطة والدكتاتورية الغبية.


كذلك لا ننكر أن مجتمعاتنا يكثر فيها محدودو ومتوسطو العقول، ومع الإنهيارات الحاصلة تصبح السلطة إغراءً لهم لتعويض النقص والغباء، فيغطي نقصه ببدلته الفاخرة وربطة عنقه، وينظر إلى مرآته ويقول بأعلى صوته “البقاء للأغبياء وليس للأذكياء” ومنها ينطلق في فساده وشذوذه وحقده ونقصه الدفين.


وبناءً على هذه المواصفات فإن شعار “الميديوقراطية” هو تمكين “الأقل كفاءة” في مراكز الحكم ومواقع المسؤولية واتخاذ القرارات ورسم الخطط والإستراتيجيات وخاصة ترأس اللجان والهيئات العليا للوصول إلى الرئاسة الجمهورية ورئاسة الأركان أو رئاسة الحكومة، فكله مباح لمن يمسك بيده خيوط الدمية واللعبة.


وحسب الفيلسوف الكندي صاحب نظرية “حكم التافهين” هؤلاء لهم قدرة عجيبة وغريبة على التسلل إالى السلطة وكذلك لهم القدرة على استعمال الوسائل الحديثة للوصول كوسائل الإتصال وسياسة التزلف والتقرب وعدم إعطاء موقف ليكون جبنهم سيد الموقف ويزيفون الحقائق ليتحدثوا بكل وقاحة عن الحياد لأن أسيادهم وأعرافهم يطلبون منهم هذا، فهم لا يفقهون شيئا.


نشاط رجل السياسة التافه أصبح بارزا خاصة في تحديد شروط المحيطين به، فهو يريد خلق أشخاص وأفعال على نفس مستواه التافه باعتباره عبقري الآلة الإقتصادية السياسية العملاقة التي تهيمن على الحياة المعاصرة.. فالتافه لا يتحمل الذكي معه بل يعتبره عدوا.

كتاب “الميديوقراطية” للباحث والفيلسوف السياسي الكندي “آلان دونو” يمثل صورة واضحة لبنية رجل السياسة التافه لعالمنا المعاصر، فقد كشف في كتابه أبعاده المؤثرة، كما يرى الكاتب أن “التفاهة” صارت تقنية من تقنيات الأنظمة السياسية والمظهر الحالي للسياسة العالمية، ونحن نتفق معه في هذه الرؤية لأننا نعيشها في بلدنا، والغريب أن هؤلاء ينطوون تحت أقطاب ويحملون منظومات وأفكاراً وخططاً قابلة للتطبيق حسب الكاتب. فرجال السياسة البلهاء التافهون حتى النخاع تعطيهم السلطة نظاماً خاصاً لإضفاء الجدية والمشروعية على أفعالهم.


فالسلطة بمفهومها الحديث تستبعد الكفاءات والأذكياء وتستقطب البلهاء، بل تعطيهم الشرعية والقدرة الصارمة والفاعلة على المستوى الجمعي، يعني فرضهم على الجميع، وبذلك فهي لا تخدع الناس فقط وإنما هي توجههم نحو العيش والتعمق في الخداع.


فالسلطة بمعناها المعاصر هي الحاضنة التي توفر شروطاً لنمو الطحالب التافهة حسب تعبير الكاتب.
ويضيف الكاتب أن السلطة قد تفرز ما يخادع جمهورها العريض، إلاَّ أن التافه في السلطة يتعامل معها عضوياً وسياسياً بشكل متواطئ، وهنا يأتي مفهوم الكتلة البلهاء من التفاهة المهيمنة والآخذة في الإنتشار، والمسيطرة على المشهد وتجعلك تشك في نفسك من فرط وقاحتهم. فالحاكم التافه، حسب الفيلسوف “لدونو”، يتعامل مع السياسة بمنطق الكتلة لدرجة أنَّ نظامه السياسي يسير وفقاً لفيزياء خاصةٍ به وبمجموعته التي تشبهه.


فالحاكم التافه يحرص على ترويج الإنحطاط والبلاهة عن طريق شبكة كبيرة من الموالين والأنصار والحلفاء وأصحاب المصالح وخاصة الإنتهازيين، طبعا شرط أن يكونوا كلهم لهم نفس مستوى التفاهة بل ويتسابقون مَن أكثرهم بلاهة وفسادا وترذيلا للحياة السياسية ليقتنع الشعب بأنه لا يريد تتبع ما يفعلونه ومنها تكثر “النكتة” والنقد وتتفيه كل شيء في الدولة، وتصبح آخر اهتمامهم مصلحة الدولة العليا.. ونحن في تونس خير مثال على ذلك.
كما يشير الكاتب إلى واقع تعيشه أغلب البلدان في العالم، ونحن نلمسه داخل بلداننا، حيث بواسطة العلاقات التي تنشأ بين التافهين تتكون شبكة التفاهة التي تلتهم النظام السياسي للحفاظ علي مصالحها، ولا تفتأ تواصل وجودها كلما أتيحت لها الفرصة.


ويضيف الكاتب في توصيفه لرجال السياسة التافهين أن مواقفهم تتصلب لجانب ممثليهم إن اعترضهم أدنى مشكلة، لتصبح قوية ويستغلون خاصة الدين هذا الأفيون الذي يهري الشعوب والأفكار البائسة السائدة عند العامة بشعبوية مقيتة وبذلك تتم تحريك الدفّة لما يريدون، فالتصورات والأنماط السائدة هي المخزون الإستراتيجي للتفاهة.


وفي توصيف الحكام التافهين يقول الكاتب إنهم “الميديوقراط” يتكالبون على السلطة كما يتهافت الذباب على الجيف، ويعلمون كونهم في عداد المهملين دون هذه المساحة أو تلك، لذلك هم عادةً كائنات لزجة، سمجة، تتعلق بأية أهداب للحكم ولو كانت بسيطة، ويمارسون إفراطاً في العنف كأنه شيء طبيعي كجزءٍ من وجودهم السياسي، بل لا يستطيعون انفصالاً عن حالات التشنج السلطوي باسم وبدون اسم.. فعلا هؤلاء هم ساستنا.


والغريب في التافهين أنهم يتصيدون الفرص ليتصدروا الأماكن العامة ويلتفوا على بعضهم البعض ويساندوا بعضهم باستماتة وشراسة فتقع السلطة بين أيديهم ويتوسع نفوذهم وبذلك يصبح الغباء العملة الدارجة وكلمة العبور للسلطة لأنّ هذا الغباء يتحصّن بالسّلطة، فيحتكر التافه بذلك الحقيقة والمعنى ويجبرك على الإعتراف به ليصبح أكبر خطرا على الدولة ويفعل ما لا يقدر العدو فعله في الدولة.


وللتافه خطاب ولغة خاصّة به لا يتقنها غيره، خاصة أولئك الذين يجدون أنفسهم وسطًا في معركة إبداء الرأي، وهنا تصبح السّلبيّة قيمةً، ولهذا النظام مناصرون لذا يحتاج إلى خطاب إغواء أو حشد، أما الأداة الثانية المعتمدة في خطاب التفاهة فهي اللغة الخشبية، وتتمثّل في النطق بتحصيل الحاصل الذي يقوم على الحشو أو مجرد التكرار بألفاظ مختلفة.
وينصح “آلان دونو” الأذكياء قائلا:”اضرب بكتبك المعقّدة عرض الحائط..خفّف من شَغفِك، لأنه مُخيف. وقبل كل شيء، لا تُقدّم لنا فكرة جيّدة من فضلك، ثم لا تنسى هذه النّظرة الثّاقبة في عينيك، إنها مُقلقِة، وعندما تَتَحدّث عن نفسك، اقتل إحساسكَ بذاتك إلى شيء لا معنى له كي نكون قادرين على تصنيفك.. لقد تغيّر الزمان.. لم تتعرّض الأرض إلى هجوم خارجي من الفضاء، ولا حتى إلى هجوم نووي، ومع ذلك فالتافهون حسموا المعركة لصالحهم، وباتوا يمسكون الآن بمواقع مهمة في العالم.. عليك أن تكون قابلا للتعليب، لقد تغير الزمن، فالتافهون أمسكوا بالسلطة”.


وما يمكن أن نلاحظه في عالم التافهين الذي يغزو كل الفضاءات هي ثقافة تيوقراطية، ميزوجينية تسوّق للإنغلاق والتشدّد ورفض النقاش أو الحجاج، إنها ثقافة تستند إلى تسميات مؤثرة وهالات لامعة ترتكز على الإبتذال والبهرجة لا غير، فقد ربح التافهون الحرب وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه.


وفق “آلان دونو” عالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام قد سيطر عليه التافهون، وفلقد ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر حسب قوله..يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم واستبدلوا السياسة بمفهوم “الحوكمة”، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم “المقبولية المجتمعية”، والمواطن بمقولة “الشريك”. في النهاية صار الشأن العام تقنية “إدارة”، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا، وصارت الدولة مجرد شركة خاصة..صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد، وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة “زمرته”، وقاعدة النجاح فيها أن “تلعب اللعبة” وتنخرط فيها.


ففي نظام التفاهة يُنَحَّى الأشخاص الطموحون ذوو المعايير العالية والأخلاق والقيم والمثل لحساب أشخاصٍ منحدرين وأقلّ منهم مرتبةً، يبحثون عن النجاح السهل، ومع الأسف عناصر الفئة الثانية هم مَن يديرون اللعبة، لأنّ أفرادها أقرب إلى ما تتطلّبه الطبيعة اليومية للحياة من التبسيط، ونبذ المجهود، فعجز هؤلاء عن الإرتفاع إلى المرتبة الأولى يجعلهم لا يَأْلُونَ جهدًا في أن ينحدر أصحاب الفئة الأولى إليهم، وهم يعملون كل جهدهم لجلب صاحب القيم لمربعهم الدنيء والتافه، وكما يقول جمال الدين الأفغاني فـ”التسفّل أيسر من الترفّع”.


كما يوجد سبب آخر لانخراط الناس في اللُّعبة، يكمُنُ في التبسيط، فالسّلوك السياسي مثلاً يسعى باستمرار إلى تبسيط الأوضاع الفرديّة المُعقدة إلى أقصى حدود التبسيط أو بما يسمى الشعبوية.


ويجيب الكاتب على سؤال كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا؟
يقول إن الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين وجعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات وأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية وتوكيلا من السماء. وحسب تعبيره بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها فإنها قد استسلمت لهؤلاء التافهين.
وأضاف:”إنه خطر ثورة تخديرية جديدة”، غرضها تركيز حكم التفاهة.
ويلخّص المطلوب في عدة نقاط أهمّها:

  • أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق.
  • ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا.
  • يجب العودة إلى المفاهيم الكبرى.
  • أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب،الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام.
  • أن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل، فلا فصل بينهما.
    والملاحظ في النهاية أن الهدف من كل ما يحدث هو إطفاء وتعميم التفاهة على كل شيء.. ويتساءل “آلان دونو” في أخر كتابه :
    هل نقفُ مكتوفي الأيدي والعالم يُدار بلعْبة؟ بمعنى آخر: ما الذي يجب أن نفعله؟.. يجيب الكاتب عن سؤاله: “أن هذه الصيغة المختزلة لوضعنا، هي المُحصلة التي أوصلنا إليها هذا النظام”. “ومع هذا فالسؤال هو نقطة الصّفر التي ننطلقُ منها، وترفع من وعينا السياسي والإجتماعي، فالأجدر أوّلاً أن نقوم بقطيعة مع هذه الأشكال الرهيبة وتوليد أشكال جديدة أخرى، وثانيًا التوقُّفُ عن السُّخْط ثمّ العمل بلا هوادة، وأن نعيد التلازم بين أن نفكّر وأن نعمل، فلا فصل بينهما. فالأساس أن نقاومَ ونقاوم ما سعوا إلى تشييئه وتسليعه”.

By Zouhour Mechergui

Journaliste