اعداد عادل الحبلاني : قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية
لا أحد يستطيع إنكار الترابطات والتشابكات الاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى المجتمعية منها بالدول الغربية وبخاصة دول الاتحاد الاوروبي والدولة التونسية ولا أحد يستطيع التغاضي عن الأرقام الدالة على حجم المبادلات التجارية، وإنه لمن التنكر للتاريخ أن ندعي أن الإرث الاستعماري قد زال بزوال الاستعمار المباشر وأنه لم يترك أثره إلى اليوم على السياسات العامة للدولة التونسية وتوجهاتها الاقتصادية التي حتمتها مجموعة من الاتفاقيات والشراكات التجارية، ناهيك عن جغرافيا الدولة التونسية التي تلعب وستظل تلعب دورا هاما في نحت معالم التي تفرضها الجغرافيا نفسها والتي يلعب فيها البحر الأبيض المتوسط دور الرابط الحتمي للعلاقات التونسية الأوروبية.
لكن طالما أن العلاقات الدولية هي في جوهرها علاقات متنوعة ولا تقوم على الأحادية والوجهة الواحدة، فإن للدولة التونسية من الارتباطات والعلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية ما يسمح بالوقوف على بعض هذه العلاقات التي تعبر عن انفتاح السياسة الخارجية التونسية على كل الدول، ومن هذا المنطلق يمكن الحديث عن العلاقات التونسية الروسية، التي يبدو وفق تاريخيتها علاقات جيدة تعددت فيها أشكال التعاون على جميع المستويات وقطعت فيها الديبلوماسية شوطا هاما أشر في فترات ما بمزيد تجذرها وفي فترات أخرى بضعفها…
تاريخ العلاقات التونسية الروسية
يعود تاريخ العلاقات الروسية التونسية إلى بدايات القرن التاسع عشر وتحديدا بعد فرار ما يزيد عن الخمسة آلاف ضابط سامي من الجيش الروسي في أعقاب الثورة البلشفية(1917) والذين حطوا الرحال في ولاية بنزرت التونسية، ومثل هذا الحدث أولى حلقات الوصل بين روسيا الحديثة والدولة التونسية واللبنة الأولى لبدايات تجذر العلاقات بين الدولتين، وقد قام هؤلاء الضباط المهاجرين بتأسيس مدرسة حربية سنة 1924 تم غلقها فيما بعد من قبل فرنسا الدولة المستعمرة لتونس آنذاك، بالإضافة لتأسيسهم لكنيسة أرثوذكسية هي كنيسة القديس ألكسندر فينسكي. ولم تنتهي العلاقات الروسية التونسية بعودة هؤلاء المهاجرين، حيث لم يتوقف الاتحاد السوفياتي على تقديم الدعم للدولة التونسية خاصة في دعم الاستقلال ومتابعته لقضية الجلاء آخر معاقل الاستعمار الفرنسي وذلك من خلال دعم الموقف التونسي أمام مجلس الأمن والتصويت لصالح القرار الوطني التونسي.
لم تنتهي العلاقات التونسية الروسية على الرغم من التوجه في السياسات الخارجية للدولة التونسية نحو الغرب، بل وعلى الرغم من العداء التاريخي بين الغرب وروسا أخذت العلاقات التونسية الروسية في الانتعاش ومزيد التجذر والتعاون خاصة في المجال المائي وبناء السدود وبعث خطوط أنابيب الماء، وفي أواخر التسعينات عرفت العلاقات بين البلدين أبعادا استراتيجية أكثر عمقا وتقاربا تمثلت أساسا في تأسيس مجلس الأعمال الروسي التونسي حيث تم إنشاء أول مؤسسة مختصة في تعبيد, بالإضافة إلى ترخيص تحصلت عليه روسيا يتعلق بالتنقيب على النفط. وعرفت تباعا العلاقات الثنائية ديناميكية ديبلوماسية, تكللت بزيارتين لوزيري الخارجية التونسي والروسي في سنة 2001 و 2002 وتلتها في ما بعد زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 2005 حيث جاءت نتائج الزيارات والحركية الديبلوماسية مثمرة بأن زاد التعاون والشراكة والاتفاقيات في مجال التعليم والصحة والأمن والتكنولوجيا.
إلا أن الأحداث التي رافقت ما سمي بالربيع العربي وحالة اللا استقرار السياسي الذي عاشته البلاد التونسية أعاد خلط الأوراق من الجهتين وساهم في إضعاف تلك الديناميكا والحركية الديبلوماسية التي عرفت في فترات بعينها تطورا هاما وملحوظا.
عوامل التعطل الديبلوماسي
منذ اندلاع شرارة الأحداث في 2011 إلى حدود سنة 2014 عرفت الدولة التونسية حالة من الارتباك والفراغ السياسي وغموض كلي في السياسات العامة والكبرى للدولة، ويعود ذلك إلى عدم تبلور نظام سياسي واضح ومستقر ترتسم من وراءه كل السياسات الداخلية والخارجية للدولة, وما زاد الأمر غموضا وتعقيدا هي النتائج التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية وقتها، حيث سيطر الاخوان على المشهد السياسي برمته تقريبا بدعم أمريكي وغربي فاضح وواضح تحددت من خلاله التوجهات العامة للدولة فترة حكم الاخوان… وعلى رغم من ذلك لم تنتفي محاولات ترتيب أوراق العلاقات الروسية التونسية، والتي أثمرت أي ( المحاولة ) عن زيارة الرئيس منصف المرزوقي لروسيا وملاقاتها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، والتي أدت إلى مناقشات حول التبادلات التجارية ومساعي لتوقيع اتفاقيات تقضي باعتماد الروبل الروسي والدينار التونسي كعملتين للتبادل التجاري بديلا للدولار، بالإضافة إلى مناقشة فكرة انشاء خط بحري بين ميناء صفاقس التونسي وميناء نوفرسيسك الروسي.
لكن ظلت كل هذه المشاريع والأفكار التعاونية مجرد حبر على ورق، عدى المجال السياحي الذي عرف انتعاشه سيما بعد توافد العديد من السياح على الدولة التونسية، ويعود تعطل المشاريع أساسا إلى عدم قدرة السياسات الخارجية للدولة التونسية على الموازنة في العلاقات بين علاقاتها التقليدية مع الغرب وبين بناء علاقات اقتصادية وسياسية واستراتيجية تتوافق مع المتغيرات الاقليمية والدولية، وإذ يبدو ارتباطها بشركائها التقليدين حتى من جهة الأرقام وحجم المبادلات مقارنة مع بقية الدول الأخرى من دول آسيا ودول إفريقيا، فهذا لا يبرر ضعف الرؤية السياسية للخارجية التونسية.
وحيث أننا نلقي لا ثقل اللوم على الدولة التونسية فحسب، فإنه يمكن معاينة التأخر الروسي في تحديد موقفها مما ما يحصل في الدول التي عرفت حراك اجتماعي وسياسي، فلقد انتظرت روسيا إلى حدود سنة 2014 بعد تمكنها من ضم جزيرة القرم الأوكرانية والتي تمثل بوابة لروسيا على المياه الدافئة وهدفا استراتيجيا يسمح بحرية حركة أساطيلها البحرية، وقد توضحت أكثر بعد أن قامت بالتدخل في سوريا والتصدي للحرب الكونية التي تعرضت لها الجمهورية العربية السورية، وإنشاء قاعدة عسكرية في طرطوس وقاعدة حميميم بالقرب من مدينة اللاذقية، بما هما البوابتان ونقطتا الانطلاق نحو البحر الأبيض من جهة الشرق، ومساندة خليفة حفتر في ليبيا كبوابة أخرى لشمال المتوسط وغربه، لكنه وفق اعتقادنا هو تأخر استراتيجي تعزز من خلاله روسيا موطئ قدم ثابت يمكنها من بناء علاقات اقتصادية وتجارية وسياسية مع دول المنطقة.
الا أن تعاملها مع الدولة التونسية ظل تعاملا حذرا وقد نفهم ذلك من جهة ارتباطات تونس بالغرب ومن جهة أن الاخوان لا زالوا وقتها في سدة الحكم وعلاقاتهم الحميمية مع الغرب. زد على ذلك الخطأ الفادح الذي ارتكبته الديبلوماسية التونسية بأن صوتت لقرار إدانة روسيا أمام الجمعية العامة على إثر العملية العسكرية في روسيا، والذي يدل في جوهره على حجم الضغط الذي تتعرض له تونس من الدول المانحة التي تستغل الوضع الاقتصادي والمالي المتدهور لتونس.
تقييم
تعرف العلاقات التونسية الروسية على الرغم من كل العراقيل والمعطلات الداخلية والخارجية احتراما وتعاونا في أكثر من مجال و على أكثر من مستوى، ويعود تاريخ هذه العلاقات إلى ما قبل استقلال الدولة التونسية وقبل اعتراف تونس بدولة روسيا 1991 عقب تفكك الاتحاد السوفياتي.
لكن وفي مقابل توضح الرؤية الروسية في علاقاتها وسياساتها الخارجية التي تقوم على مبدأ احترام وسيادة الدول والبحث عن شراكات اقتصادية واعدة مع دول قارة آسيا ودول افريقيا وشمالها، عبر التأسيس للتعاون في المجلات التربوية والعلمية والتكنولوجية والبرامج ذات الطابع الأمني والعسكري، لا تزال السياسة الخارجية للدولة التونسية متلكئة وغير واضحة فيما يتعلق بالتحولات العالمية الكبرى ولم تستطع إلى اليوم تحديد سياساتها الخارجية مع الأقطاب الجديدة على غرار روسيا والصين، ولم تتمكن بعد من الموازنة بين مصالحها في الشرق والغرب على الرغم من التعطل الواضح بينها وبين شركائها التقليدين والتدخل السافر في أكثر من مناسبة في شؤونها الداخلية.
يفترض تأخر الديبلوماسية التونسية إعادة بلورة رؤية سياسية للسياسة الخارجية للدولة التونسية قادرة على تحديد استراتيجيات واضحة تمكنها من فهم رهانات التحولات العالمية الكبرى وتقلب هذا التعطل إلى مسار جديد يفتح آفاق ديبلوماسية جديدة قادرة على فهم مكانة تونس الجغرافية وحظوتها السياسية و قدرة شعبها على الانفتاح الثقافي على كل ثقافات الشعوب الأخرى.