عادل الحبلاني: باحث بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية بتونس
دائما ما تعرف الدول والشعوب تغيرات وتحولات سياسية تفرضها وتمليها ظروف تاريخية وسياسية واقتصادية معينة, ودائما ما تتوفّر العوامل والحيثيات للقطع مع نظم الحكم التي لا تستجيب لإرادة الشعوب, إما بالانتفاض عليها وإما عبر آليات دستورية تسمح بالمرور بسلاسة إلى طور آخر من نظام الحكم.
ولعل الواقع الذي تشهده تونس اليوم لا سيّما بعد قرارات 25 جويلية والتغيرات التي طرأت على المشهد السياسي لا يمثّل إلاّ سياق من ضمن السياقات السياسية التاريخية التي تدعم فكرة الانتقال من نظام حكم فاشل إلى نظام حكم يسعى إلى التعبير عن إرادة الشعب عبر آلية الاستفتاء على قضية مفصلية ومصيرية في تاريخ تونس الحديث والمعاصر ألا وهي نظام الحكم.
وحيث أن الاستفتاء هو التعبير الأكثر اتصال بالشعب لكونه المظهر الذي يتيح للمواطنين المشاركة المباشرة والفعّالة بأمور الحكم وعدم الاكتفاء باختيار النواب كما في النظام النيابي, فإننا سوف نحاول أن نبيّن الأهمية السياسية للاستفتاء كتعبير في جوهره عن الارادة الخالصة للمواطنة.
أين تكمن الأهمية الحقيقية للاستفاء ؟
تكمن الأهمية الحقيقية للاستفتاء الذي طرحه الرئيس التونسي قيس سعيد في كونه أفقا جديدا لمشروع يترجم الارادة الشعبية للشعب التونسي, بالإضافة إلى كونه الخيار الحاسم الذي رافق اجراءات 25 جويلية المتأخرة نوعا ما مقارنة بالوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدهورت طيلة عشرية حكم التوافقات الحزبية. فالتعطل الدستوري وتشابك السلط وتداخلها وضرب استقلاليتها سياسيا ساعد في مراكمة الأزمة ووسع الهوة بين الإرادة الشعبية والمصالح السياسية لفئة بعينها على حساب القيم العليا للثورة والشّعارات التي قامت من أجلها, والقرار الجريء الذي أقدم عليه رئيس الدولة قيس سعيد والرزنامة التي طرحها بداية بتعليق عمل البرلمان مرورا بالاستشارة الوطنية التي طرحت مخرجاتها المشاغل الحقيقية للشعب التونسي فرضت ضرورة إعادة النظر في القوانين الدستورية وفرضت فيما بعد ضرورة العودة للشعب لاستفتائه على حزمة من القوانين الهادفة إلى ترسيخ نظام سياسي يستجيب لإرادة الشعب ونظام انتخابي يحمل المسؤولية المباشرة للمنتخبين أمام ناخبيهم وأمام القانون.
يمكن اعتبار العودة إلى الشعب عبر استفتائه حلا وتحولا سياسيا واستراتيجيا لما في ذلك من تعبير عن الديمقراطية الشعبية التي ستؤدي بالضرورة إلى المرور إلى الطور الديمقراطي التنموي الوطني الذي يتيح للشعب التونسي التغيير وتمكينه من إعادة تأسيس دولة وطنية ثانية عبر الجمهورية الثالثة بعيدا عن منطق الربح والخسارة والتوافقات الحزبية المشبوهة التي جرت البلاد إلى منزلقات خطيرة.
وتكمن أهمية الاستفتاء في كونه العصى التي سوف تكسر الديكتاتورية الدستورية بمعنى أن القوانين التي تتعارض مع المصالح الشعبية ليست مقدسة وأن نظم الحكم التي تحول دون رفاه الشعوب لابد من تغييرها، فاستفتاء الشعب التونسي في 25 جويلية هو تحليليا نتيجة لمخرجات الاستشارة الوطنية التي عبرت فيها شريحة من الشعب التونسي على جملة من تطلعاتها وانتظاراتها ورغبتها في تغيير نظام الحكم في تونس, أي رغبتها في القطع مع منظومة العشرية الأخيرة التي حكمت البلاد والتي عمقت من الأزمة السياسية والاقتصادية التي خلفت بدورها اوضاع اجتماعية صعبة على التونسيين وحطمت كل التوازنات الاجتماعية, وهو عمليا خروج من حالة التّخبط والتعطل السياسي بين مؤسسات الحكم منذ 2011 للمرور إلى حالة من الاستقرار بين مؤسسات الدولة وهياكلها, وذلك جوهريا عودة وصهر للإرادة الشعبية العامة داخل اطار دستوري يمثلها ويمثل تطلعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, الأمر الذي يحول عملية الاستفتاء تطبيقيا إلى أداة ومفتاح لكل عملية اصلاحية ممكنة وهو في كنهه مسألة سيادية واستراتيجية تتعلق أساسا بسيادة الدولة التونسية على قراراتها, ذلك ان العودة إلى الشعب التونسي هي عودة سياسية بالأساس تعبر في الأصل عن استقلالية القرار الوطني واستقلالية خياراته السياسية والاقتصادية باعتبارهما مقياسا السيادة الوطنية.
وإذ يتوجه النقد الداخلي والخارجي لتعليق عمل البرلمان وتعليق العمل بدستور 2014 وتقديمهما على أنهما منزلقان خطيران ينبآن بعودة الديكتاتورية, حيث هاجمت كل المنظّمات الدولية والوطنية عبر بياناتها وتكتلاتها الحزبية ودأبت إلى تأسيس جبهات تحت شعار الدفاع عن الديمقراطية, وحيث أننا لسنا بأعداء للديمقراطية والحريات الفردية والعامة وعلى رأسهم حرية الضمير والحقوق الاقتصادية والاجتماعية, بقدر ما أننا أعداء للديمقراطية إذا ما تحولت إلى مجرّد شعار تستعمله القوى السياسية وأداة بين أيدي الدوائر المالية الداخلية والخارجية التي تحول دون مصالح الشعوب بقدر ما تخدم القوى المالية النافذة في الدولة والتي لا تسري عليها القوانين, فإن الاستفتاء اليوم هو قلب لمعادلة تنخر كل مؤسسات الدولة, حيث ننتقل وفق هذه العملية من تصور يقوم على المحاصصة الحزبية والقوانين التي تخدم فئة بعينها ودوائر ضيقة إلى ديمقراطية شعبية تتصل بالشعب وتؤسّس لها قوانين تترجم الإرادة الشعبية الحقيقية.