الأحد. سبتمبر 8th, 2024

بدأت أزمة الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل من مالي لكنّها لم تقف هناك، وجاء دور بوركينا فاسو التي قدّمت للقوات الفرنسية مهلة شهر حتى تغادر العاصمة وأوغدوغو، فما كان على الإليزيه إلاّ ان يوافق على الطلب الوطني لبوركينا فاسو.

حيث قدم المجلس العسكري الحاكم مطالب الى الطرف الفرنسي مغادرةالبلاد، في اشارة من المتحدث باسم الحكومة جان-ايمانويل ويداغوا الى انّ القوات العسكرية ستدافع عن البلاد من العمليات الارهابية، بعد قرار بإنهاء الاتفاق العسكري المبرم بين الطرفين في 2018.

وما حدث في مالي انطبق مباشرة على بوركينا فاسو في اواخر عام 2022، اذ حدثت مظاهرات طالبت بخروج فرنسا من على اراضيهم لفشلهم في مواجهة الانشطة الارهابية لتنظيم القاعدة والدولة الاسلامية في 28 اكتوبر وفي 19 من شهر نوفمبر.

انطلقت الإحتجاجات محمّلة بالأعلام الروسية نحو السفارة الفرنسية فيما اتجه جزء منها نحو كامبوينسين الواقعة في الأطراف الشمالية لأوغدوغو اين يتمركز 400 جندي فرنسي في قوة “سابرغ”.

 وأسفرت هذه المظاهرات عن حرائق قام بها المتظاهرون في السفارة الفرنسية والمعهد الفرنسي الواقع في بوبو ديولاسو.

يمكن اعتبار ان هذه التحركات التي قامت في بوركينا فاسو مدفوعة برفض شعبي كبير وكانت متمحورة خصوصا حول الحد من النفوذ الفرنسي الذي تطغو عليه المصلحة الخاصة في مقابل فتح الباب للقوات الروسية، خاصّة أمام الفشل في مواجهة الجماعات الارهابية والذي مثّل الجدار الرئيسي التي اتكئت عليه الاطراف الرافضة للوجود الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء.

 وامام تزايد العمليات الارهابية وتنامي عدد المدنيين المنظمين للجماعات المتطرّفة وارتفاع عدد الضحايا، توصّل مراقبون الى انّ الوجود الفرنسي لم يعد له أي داعي وانّ استمرار وجودها في المنطقة ليس من شأنه الاّ ان يخدم مصالحها وليس مصلحة البلاد.

تتعدد الحسابات الداخلية لترتيب العلاقات مع المستعمرين القدامى، لكن في حقيقة الأمر يتعلّق ذلك بحرص هذه الدول على الخروج من ظلال الاستعمار التي عاشتها طيلة سنوات لا يمكن حصرها.

يتحول عصر التفرد والاستقطاب في العلاقات العالمية إلى حكم التنوع والاختلاف والتعددية.

بدلاً من ذلك، يكتشف العالم بشكل متزايد الأهمية الجيوستراتيجية لأفريقيا.

وقد بدأ الافارقة أنفسهم بإدراك قدراتهم على اكتشاف قيمة مكانتهم وثروتهم والتعامل مع التناقضات والتحرك ضمن الهامش الواسع الحالي بين واشنطن وباريس وروما وبرلين، من ناحية، والغرب وروسيا والصين.

بالتالي لم تعد افريقيا قادرة على تحمل وجود قوات استعمارية قديمة أو حتى جديدة على أراضيها.

حتى النيجر التي لها علاقات رفيعة المستوى مع فرنسا، لا يمكنها قبول عدد جديد من الجنود الفرنسيين الذين يغادرون بوركينا فاسو.

وبالتالي يجب على باريس وكل حلفائها الغربيين ان تنتهج مسارا جديدا في علاقاتها مبني البراغماتية الافريقية وتجاوز العلاقات الاستعمارية.

طبقا لذلك لقى توسّع الوجود العسكري الروسي في القارة الافريقية ترحيبا كبيرة من القادة الافريقيين، وهو ما أضحى هاجسا مثيرا للقلق لدى الغرب خاصّة مع التأييد الافريقي الكبير للبريكس.

ولم تقصّر روسيا في سد الفراغ الأمني في الدول الافريقية الذي خلفّته القوى الغربية المستعمرة (الدول الأوروبية والولايات المتحدة الامريكية.     

تسعى روسيا لتكون البديل الأمثل في الدول الافريقية وذلك يتطلّب خطوات متزنة من أجل صياغة استراتيجيات فعّالة تنهض بدول القارّة السمراء تكون مختلفة تماما عن التوجه الاستعماري التي كانت تنتهجه القوى الغربية الأخرى.

 وبالتالي فإنّ “إعادة تشكيل مشهد جيوسياسي في إطار التحالف مع دول الجنوب العالمي من أجل وضع قواعد نظام عالمي جديد أكثر عدالة وتوازنا”.

ويرتكز ذلك في جانب مهم منه في اعتماد روسيا على مختلف الثغرات والسياسات الفاشلة التي خلفتها الدول الغربية في تدخّلها الاستعماري من خلال الإصلاح وذلك لإنجاح تعاونها مع الدول الافريقية، وهو ما سيساهم بدرجة أو بأخرى في تغيير ميزان القوى مرورا بعديد المراحل.

وتجدر الإشارة الى أنّ السياسات الروسية ترتكز على تحقيق المكاسب الفورية والوصول إلى الأهداف بسرعة دون الاعتماد على سياسية المماطلة، ذلك الى جانب السير في طريق عدم التدخل في الشؤون الداخلية لشركائها والنيل من سيادتهم الوطنية، وهو ما يجعل روسيا قوّة عالمية تشكّل محورا جاذبا للشركاء ومحل ثقة من مختلف الدول.

 ويحيل ذلك الى كونها تسير بنهج مختلف ومعاد تماما للنهج الغربي ذوا المبادئ الاستعمارية، التي من أهمّها عقد شراكات طويلة الأمد مرتكزة على الوعود والأهداف التي غالبا لا تتحقّق في مقابل التحقيق السريع والفوضوي للمصالح الأحادية والتي لا ينال فيها الشركاء شيئا سوى مجموعة من المكاسب البسيطة والمشروطة.

ويعد عنصر ” جاذبية القيم غير الليبيرالية” مهما بالنسبة للجانب الروسي في تشكيل تحالفات فعّالة ضمن سياساته الخارجية، وإعادة رسم نظام عالمي يستجيب لتطلّعات مختلف الأطراف المعادية للسياسات الغربية الفضّة، ويحيل ذلك الى ما يطلق عليه وفقا للرؤية الروسية الى نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب “عالم مقسم بين القوى الكبرى” من خلاه تعمل موسكو على صياغة أنماط فعّالة للتعاون والشراكة مع الدول الافريقية.

من البديهي القول بفشل السياسات الغربية، فشل تغذّيه الاستراتيجيات الليبيرالية التي لم تتوانى للحظة في النيل من السيادة الوطنية للدول التي تسمح لها في البداية من التدخل لافي شؤونها، ولعلّه لم يكن رغبة في ذلك بقدر ما هو إسقاط لجملة من الضغوطات والشروط التي تفرض على الدول الافريقية جعل القوى الاستعمارية تتغلغل بداخلها مرتكزة بدلك على جملة من الوعود التي على رأسها ضمان أمن هذه الدول وجعلها تترعرع اقتصاديا.

 وباعتبار انّ السياسة الليبيرالية تعتمد على شراكات طويلة المدى لتضمن تحقيق الحد الأكبر من المصالح على فترات طويلة فإنّها أدّت لبروز حركة شعبوية مناهضة للغرب ذات طبيعة عضوية.

 فصحيح لا يمكن الانكار بوجود عوامل خارجية أخرى، لكنّها لا تشكّل العنصر الأهم في تكوين هذا الحرك الشعبي بقدر المظالم التاريخية والعصرية الكثيرة التي خلّفتها القوى الاستعمارية حتى هذه اللحظة، فرغم تنكّر التدخل الغربي في السنوات الأخيرة بجملة من المبادئ الوهمية التي تمثّلت في ضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز الاستثمار وغيرها من المشاريع لتشرّع تدخّلها.

 إلاّ أنها عجزت عن الاستمرار أكثر في الاقناع بهذه الورقات التي وظّفتها لبسط نفوذها وتحقيق مصالحها، فمثلا عجزت في التصدي للجماعات الإرهابية خلال عقدين من الزمان.

ولعلّ الفشل الأكبر هو توقّع الغرب ألا تتساءل الدول الافريقية عن فوائد تمركزهم في المنطقة، ويحيل ذلك الى غياب رؤية استراتيجية حيوية لدى المستعمر الغربي في تطوير سياسات تدخله ودراسة أوجه التقصير فيها، حيث استمر لعقود في تبني مقاربات عسكرية وترتيبات أمنية فقط في منطقة الساحل والصحراء لم تكن حتى فعّالة، مقابل تهميش الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ما جعل العلاقات مع السلطة في مختلف البلدان الافريقية “خاوية”، وهو ما ساهم في أوّل فرصة في حراك هذه السلطة ضدّها بدوافع شعبية.

يرى الغرب في الوقت الحالي نهايته في القارة السمراء، حيث تتناغم السياسات الروسية مع رؤى وانتظارات الدول الافريقية، وطبقا لذلك نالت روسيا تدريجيا من التمركز الغربي في مناطق نفوذه التقليدية، وتمكّنت باستراتيجياتها وسياساتها المتوازنة من التواجد على طول الممرات الجغرافية الرئيسية من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، ذلك الى جانب تعزيز علاقاتها مع النيجر ومالي وبروكينا فاسو الذين انسحبوا من مجموعة اكواس التابعة للغرب.

ويشير محلّلون الى انّ التعاون والشراكة الصلبة القائمة في الوقت الحالي بين روسيا والدول الافريقية لها مكاسب عديدة للطرفين، خاصّة وأنّ السياسات الروسية المعادية لليبيرالية تنطوي على قدر كبير من الفاعلية في تحقيق المصلح المشتركة، التي ترا فيها الدول الافريقية ملاذا لها وبديلا فعّالا عن الهيمنة الغربية.

By amine