الأثنين. أكتوبر 7th, 2024

تشرك مالي وموريتانيا في حدود يبلغ طولها 2236 كيلومترًا وتمتد من النقطة الثلاثية مع الجزائر شمالًا إلى النقطة الثلاثية مع السنغال في الجنوب الغربي.

موريتانيا ومالي دولتين جارتين وتقعا في إقليم غرب إفريقيا وتؤديان دورا محوريا في استقراره الاجتماعي والثقافي؛ إذ تشكل موريتانيا جسرا جغرافيا بين بلدان المغرب العربي وبلدان الجزء الغربي من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

وفي حين يمتد الجسر الجغرافي إلى مالي، فقد كانت أهميتها الاستراتيجية واضحة في أزمتها الأمنية التي تؤثر سلبا في الساحل بشكل عام والدول المجاورة لها بشكل خاص، وخاصة أنها دولة غير ساحلية وتقع جنوب غرب الجزائر وتمتد إلى الجنوب الغربي من الصحراء الكبرى الجنوبية عبر منطقة الساحل إلى منطقة السافانا السودانية.

واتّسمت العلاقات بين مالي وموريتانيا بشكل عام بهدوء نسبي منذ تفاوضها على النزاع الحدودي في عام 1963 كما تعاونتا في مشاريع تنموية متعددة، مثل مشروع “منظمة تنمية حوض نهر السنغال” ومشروع الطرق لتحسين ممر باماكو-نواكشوط.

على أنه في السنوات الأخيرة، يؤدي انعدام الأمن وتبادل الاتهامات بالهجوم في الحدود، إلى التوترات بين مالي وموريتانيا، والتي كانت آخرها ما تحدث الآن من أزمة ذات طابع سياسي وأمني نشأت في الأسابيع الأخيرة، حيث التوتر لم يهدأ رغم ما اتخذته الدولتان من خطوات دبلوماسية، ورغم فتحهما خطوط اتصال بين قادتهما.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تنشأ أزمة حدودية بين مالي وموريتانيا، إذ في عام 2010 توترت العلاقات بين البلدين عندما شنت القوات الفرنسية والموريتانية عملية عسكرية مشتركة ضد مقاتلي “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” على أراضي مالي دون موافقة باماكو.

ومنذ ذلك الحين تتكرر اتهامات متبادلة بين البلدين بالتعدي على أراضيهما واستهداف مواطنيهما بقتل وهجمات والقيام بأنشطة تخلّ بأمنهما القومي، وطبعا المستعمر الفرنسي هو من وضع الشرارة الأولى ومن حين لآخر يحركها وفي بعض الأحيان تتحرك التوترات “وحدها” وهذا ما راهنت عليه فرنسا وطبعا نجحت فيه.

وفيما يتعلق بالتوتر الحالي فقد أشار تقرير صحفي إلى أنه بدأ في مطلع أبريل 2024 عندما انتشرت تصريحات من موريتانيين بأن جنودا ماليين قتلوا مواطنين موريتانيين على طول حدود البلدين.

كما أفادت تقارير لاحقة بوقوع حالات قتل واختطاف للموريتانيين داخل مالي. وهذه الحوادث أثارت غضبا في موريتانيا وأجبرت حكومة البلاد على التحرك نحو التحقيق في الحوادث.

وبسبب ما هيّجته الحوادث من تصريحات الموريتانيين على منصات التواصل الاجتماعي وتحركات مسؤولي البلاد اضطرت الحكومة المالية على التواصل مع الحكومة الموريتانية، إذ في يوم 15 أبريل 2024 اتصل الرئيس الانتقالي المالي الكولونيل “أسيمي غويتا” بالرئيس الموريتاني “محمد ولد الغزواني” وأرسل فريقاً عسكرياً ودبلوماسياً إلى نواكشوط عاصمة موريتانيا وأكبر مدنها.

واتخذت الأزمة منعطفا جديدا عندما منعت موريتانيا مواطني مالي من دخول أراضيها بدون بطاقات إقامة صالحة وسارية في اجراء بمحاولة اخماد التصعيد الشعبي الموريتاني.

وأثارت حدة الوضع المتوتر ما نُسِب إلى رئيس الجالية الموريتانية في مالي من تسجيل صوتي متداول على منصات التواصل الاجتماعي، حيث طلب فيه من الموريتانيين المقيمين في المناطق الحدودية بالابتعاد والمغادرة إلى موريتانيا، وذلك لتفادي ما وصفه بِنِيّة الجيش المالي لتنفيذ عمليات أمنية بالقرب من الحدود المشتركة.

هذا إلى جانب التقارير في 16 أبريل حول اعتراض متظاهرين من مالي سيارات موريتانية ومنعها من المرور، إلى غير ذلك من الأخبار.

وفي خطوة متوقعة استدعت نواكشوط الجمعة 19 أبريل 2024، سفير مالي “للاحتجاج على الاعتداءات المتكررة ضد المدنيين الأبرياء والعزل”، وحمّلت وزارة الخارجية الموريتانية باماكو مسؤولية الحادثة في بيانها مضيفا أن “الوضع غير المقبول مستمر رغم التحذيرات التي أصدرتها بلادنا”.

وفي اليوم التالي بعدها مباشرة استقبل رئيسُ المرحلة الانتقالية في مالي “غويتا” وزيرَ الدفاع الموريتاني “حنينا ولد سيدي” الذي حمل رسالة من الرئيس الموريتاني وأوضح في تصريحات صحفية، أنه تناول مع رئيس المرحلة الانتقالية بمالي الروابط التاريخية التي تربط الشعبين وكيفية تعزيزها مشددا على أهمية الحفاظ على العلاقات الثنائية واستدامتها.

من خلال استقراء التصريحات المتعددة من الجانبين الموريتاني والمالي يُلاحَظ أن آراءهم في في الأزمة مرتبطة بالتطورات الأمنية والجيوسياسية الجارية في منطقة الساحل. فمن الجانب المالي يُلمَس الشعور بالتهديد من التقرب الموريتاني نحو الغرب، وخاصة فرنسا، التي سحبت قواتها من مالي نتيجة علاقات باماكو مع روسيا بعد انقلابين مختلفين في عامي 2020 الذي أطاح بالرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا و 2021 الذي أطاح بالرئيس المؤقت باه نداو.

وتحظى نواكشوط بالتعاونات مع أوروبا بسبب موقعها على ساحل المحيط الأطلسي، كما يعتبر الغرب موريتانيا المعقل الباقي للاستقرار السياسي النسبي والأهم استراتيجيا في الساحل الإفريقي الذي تقود بعض دولها الآن أنظمةٌ عسكرية مثل مالي وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر.

هذا إلى جانب ما تحظى به موريتانيا من احتياطيات الغاز الطبيعي وإمكانات الطاقة الخضراء التي توفرها تضاريسها الصحراوية الشاسعة.

ويضاف إلى ما سبق أن لموريتانيا علاقات قوية مع “حلف شمال الأطلسي” الناتو تعود إلى عام 1995 ونمت تلك العلاقات بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة حيث تدعم الناتو قدرات موريتانيا الأمنية الدفاعية وجهودها المختلفة لتعزيز استجابتها العسكرية.

ومن الجانب الموريتاني يُلاحظ أن علاقات مالي مع مجموعة فاغنر أثارت انتقادات موريتانيين الذين يعترونها تهديدا لأمنهم الوطني.

وقد اتهمت نواكشوط في أبريل من هذا العام، قوات من المرتزقة الروسية والسلطات المالية بمطاردة المسلحين عبر الحدود إلى الأراضي الموريتانية وأنهم قتلوا عددا من الموريتانيين المدنيين في معسكرات موريتانية، الأمر الذي أجبرت مالي على إرسال وفد رفيع المستوى إلى نواكشوط لمحاولة تهدئة التوترات.

وقد برّرت مالي تحركاتها نحو روسيا بضرورة معالجة العنف الإرهابي الذي اجتاح أراضيها، وحاجتها لوضع الحد للأعمال العدائية في الشمال من قبل الجماعات الانفصالية المسلحة.

وقالت باماكو إن طلبها من القوات الفرنسية والأوروبية بمغادرة البلاد في عام 2022 وبعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “مينوسما” في عام 2023 كان ضروريا لتفاقم الوضع الأمني في البلاد رغم وجود القوات الأجنية كما أن التحول العسكري نحو روسيا صار لزاما لسدّ الفراغ والحصول على المعدات العسكرية والمساعدات الأساسية لتحقيق الاستقرار والأمن.

وقد أفادت تقارير بوجود قوات من مرتزقة “فاغنر” الروسية على أراضي مالي ولكن السلطات المالية نفت مراراً وجود المرتزقة الروسية على أراضيها، وأن الموجودين هم المدربون العسكريون الروس الذين جاءوا تحت دعوتها.

وفي مايو 2022 انسحبت باماكو من القوة المشتركة لمجموعة الساحل الخمس بدعوى “فقدان الحكم الذاتي” و”الاستغلال” داخل المنظمة.

ويجدر الذكر أنه بعد إعلان مالي انسحابها من مجموعة الساحل الخمس دعا الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، خلال افتتاح الدورة الرابعة للجمعية العامة لتحالف الساحل سلطات مالي للعودة إلى المنظمة ولكن باماكو لم تسجب عليها حتى اليوم.

يمكن توقّع ثلاث وضعيات رئيسية للتوتر الجاري بين الجارتين بالنظر إلى الاتهامات المتبادلة وإثارة المشاعر على مواقع التواصل الاجتماعي والتصريحات المشحونة بين الموريتانيين والماليين.

فتور العلاقات بين موريتانيا ومالي واستمراره طوال فترة حكم المجلس العسكري في مالي. وهذه هي الوضعية الحالية والوارد أنها ستسمرّ وذلك لحقيقة أن ضمن ما يثير الشكوك بين الجانبين هو استضافة مالي لمقاتلين خاصيين من روسيا والذين يقال إنهم مرتزقة فاغنر إلى جانب علاقات موريتانيا مع فرنسا والناتو وغيرهما من الشركاء الغربيين الذين تأزّمت علاقات المجلس العسكري المالي معهم.

وعلى أساس هذا السيناريو يمكن القول إن العلاقات الدبلوماسية بين مالي وموريتانيا قد تبقى في حالة التوتر، مثل ما يجري حاليا بين مالي والجزائر ووصل حدّ استدعاء سفيريهما من البلدين نتيجة اتهام الحكام العسكريين في مالي جارتهم الجزائر بالتدخل في شؤونهم الداخلية والاجتماع مع زعماء المتمردين دون إشراك باماكو وذلك بعدما أنهت الحكومة العسكرية المالية اتفاقية الجزائر التي وُقِّعت في عام 2015 بين الحكومة المالية والمتمردين لإنهاء التمرد المسلح المستمر منذ عام 2012 في شمال مالي.

عودة العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها السلمية عبر تغليب الحوار بين السلطات المالية والموريتانية واستدراك الوضع المتوتر وتهدئته وذلك اعتمادا على تصريحات بعض المسؤولين الموريتانيين بمن فيهم وزير الدفاع الموريتاني الذي شدّد خلال مباحثاته في مالي بـ”العلاقات الأخوية والتاريخية” بين البلدين الجارين وتأكيده على ضرورة الحفاظ عليها.

قطع الجانبين علاقاتهما نظرا لمواقف بعض الماليين الذين يدعمون المجلس العسكري بينما في المقابل يمارس الموريتانيون ضغوطات على حكومتهم للتحرك واتخاذ قرار يضع حدا لما يعتبرونه تعديات متكررة واستفزازات متعددة من مالي. وتشير أحداث الأسابيع القليلة الماضية إلى ارتفاع مؤشرات التوتر، خاصة بعد أن سحبت باماكو تعيين سفيرها من نواكشوط دون تعيين أي بديل له.

من خلال النظر في أسباب التوتر الحالي وعوامل التطورات الأمنية والجيوسياسية الإقليمية يمكن القول إنه ليس من المرجح أن يتطوّر التوتر الجاري إلى المواجهة العسكرية لما للبلدين من منافع في بقاء الوضع هادئا دون تفاقم النزاعات الأمنية المعقدة في منطقة الساحل حتى وإن كان يُتوقَّع فطور العلاقات بين الجانبين المالي والموريتاني رغم التحركات الدبلوماسية بينهما للسيطرة على الوضع.

ومع ذلك، لا يمكن لدولة مالي أن تعزل نفسها أو تستمرّ في الدخول في المشاكل مع جيرانها، وخاصة أولئك الذين يشكلون أهمية استراتيجية لاستقرارها ومكانة ملحوظة في مصالحها الاقتصادية.

كما أن تطلعات موريتانيا التنموية والاقتصادية تفرض على حكومتها تغليب آليات التهدئة والحوار رغم الضغوطات من المواطنين, وتجبرها على تجنّب أي صراعات تخلّ بالنجاحات الأمنية التي سجّلتها البلاد وخاصة أن انفجار أي مواجهة عسكرية ستعيد موريتانيا إلى حالة حرب الحدود مثلما حدثت مع السنغال بين عامي 1989 و1991.

By amine