إعداد الدكتور عمار جلو 15-03-2024
تقديم
أرخت الحرب على غزة بظلالها على الشراكة الروسية الإيرانية في سوريا، من خلال الاستهداف الإسرائيلي النوعي والمتقدم للقادة الإيرانيين في سوريا، ما يُشير إلى متانة التفاهم الروسي- الإسرائيلي هناك، رغم تباين مواقفهما تجاه عملية “طوفان الأقصى” والرد الإسرائيلي عليها، وتاليًا، حول حدود علاقة روسيا بإيران في سوريا، فضعف السيطرة الروسية على أنشطة الحرس الثوري الإيراني فيها عامل مؤثر في أجندة توسيع الشراكة بين الجانبين، أو تحولها إلى تحالف لاحقًا، حسب منصة جيمستاون، بعد تزويد طهران لموسكو بالطائرات المسيّرة “شاهد- 136″، التي يراها البعض خطوة ترمي من ورائها إيران إلى الحصول على التقنيات الروسية فقط، إذ إن طموحات طهران الكبيرة في الشرق الأوسط، وقياسها- بعناية- شدة المواجهة مع واشنطن، يجعلها تدرك عدم جدوى العلاقة مع موسكو ضمن سياسة حافة الهاوية الإيرانية المحفوفة بالمخاطر.
بدايةً، يشكك أستاذ العلوم السياسية ومستشار مركز الأهرام للدراسات، الدكتور محمد السعيد إدريس، في ورقته “تحالف الضرورة بين إيران وروسيا… جدل التفاعل بين النص والتحديات”، في رواية تدخل روسيا في سوريا بناءً على طلب إيران، ناقضًا إياها باعتباره روسيا عاملًا مستقلًا، وإيران عاملًا تابعًا في علاقة الطرفين في سوريا.
وهذا الرأي يعززه مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) بالحديث عن رفض موسكو لطلبي قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، السفر إلى موسكو بهدف إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بخطورة الوضع في سوريا، مع إشارة المركز إلى لقاء سليماني لاحقًا ببوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو؛ لتنسيق العملية العسكرية في سوريا. ولعل اللقاء أتى بعد اتخاذ موسكو قرارها بالتدخل، إذ يشير المركز إلى توقيع روسيا اتفاقية سرية مع سوريا، خاصة بقاعدة مطار “حميميم”، مع تزايد الأفراد والمعدات العسكرية الروسية على الأرض السورية، تحضيرًا لهذا التدخل العسكري، الذي أُبلِغَ الجانب الأمريكي عنه بطريقة مهينة وبعيدة عن الأعراف الدبلوماسية.
ففي 30 سبتمبر 2015، دخل جنرال روسي السفارة الأمريكية في بغداد لإبلاغهم بضرورة سحب قواتهم من الأجواء السورية؛ تلافيًا لعدم احتكاكها بالقوات الروسية المتأهبة لدخول الساحة السورية، تأمينًا لمصالحها العليا، وحماية منفذها الوحيد على المياه الدافئة، عبر قاعدتها البحرية في طرطوس، مع رغبة موسكو في توسيعها، ونشر صواريخ ضمنها لمواجهة الدرع الصاروخية للناتو شرق أوروبا (لاتفيا، ولتوانيا، وإستونيا، وبولندا، ودول أوربية أخرى) مع ما تمثله هذه القاعدة من خط دفاع أول عن البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى تأسيس قواعد جوية روسية في سوريا، وفق الباحثين د. سلمان علي حسين، وساهرة حسن كريدي، في ورقتهما “مكانة دولة التنافس في الصراعات الإقليمية والدولية.. سوريا أنموذجًا”.
وإلى جوار ذلك، سعت موسكو إلى قطع الطريق على مشروع قطر لتمويل أوروبا بالغاز؛ إبقاءً لورقة الطاقة بيد موسكو في مواجهة أوروبا، حيث إن الصراع في سوريا مرتبط بالصراع في أوكرانيا، وبشدة، حسب ميسون موسى، في ورقتها الموسومة “الصراع الدولي في سوريا وأوكرانيا”.
فالموقع الإستراتيجي لسوريا ضمن تقاطع خطوط التبادل التجاري والاقتصادي الدولي لأوروبا وإفريقيا وآسيا، ووضعها ضمن مخططات السيطرة الأمريكية والأوروبية على هذه المناطق، ومسعاهما إلى مد أنابيب نقل الطاقة من دول الخليج العربي إلى أوروبا عبر سوريا؛ لكسر هيمنة روسيا على تصدير الطاقة إلى أوروبا، بالإضافة إلى فشل جميع المبادرات الروسية لتطوير علاقة جيدة ومستقرة مع أمريكا والدول الأوروبية، وفرضهما حصارًا اقتصاديًّا عليها، بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014.
إلى جانب ذلك، وبالنظر إلى مجمل تطورات المنطقة، من المد القوي لتيار الإسلام السياسي خلال موجات “الربيع العربي”، إلى الخديعة الغربية لموسكو في مجلس الأمن الدولي بخصوص ليبيا، ما أدى إلى خسارة موسكو حليفًا ومليارات الدولارات القادمة من صفقات الأسلحة معه، حيث أسهم التفسير الغربي الواسع لقرار مجلس الأمن رقم (173) لعام 2011، في إسقاط نظام الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي، من خلال توسيع مهمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) هناك. تولّدت القناعة لدى موسكو بضرورة تدخل قوي وفاعل.
وبغياب أي دولة داعمة لنظام الأسد في سوريا سوى إيران، التقت مصالح موسكو وطهران في دعمهما هذا النظام، في تحالف اضطراري عبّر عنه خبير معهد الشرق الأوسط فلاديمير ساجبن، بالقول: “لدينا عمل مشترك في سوريا لدعم نظام الأسد، مع أن البلدين يتخذان من هذا مواقف مختلفة”.
المصالح المتضاربة
إذ جاء التدخل الإيراني نتيجة لاعتبارات أيديولوجية وجيوسياسية؛ نظرًا إلى ما تمثله سوريا من حليف حاسم لإيران في المنطقة، وقيمة إستراتيجية كبيرة بوصفها جسرًا جيو- سياسيًّا يسمح لإيران بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو طموح إيراني يعلو على الطموح الروسي بالوصول إلى المياه الدافئة، استنادًا على العامل التاريخي.
في المقابل، جاء التدخل الروسي مدفوعًا باعتبارات سياسية اقتصادية عسكرية أمنية، لا سيما مع تقدم قوات المعارضة السورية في غرب سوريا، ما أقلق موسكو على منشآتها البحرية في طرطوس، مع أمل موسكو- في المقام الأول- استعادة مكانتها بوصفها قوة عالمية، من خلال إبراز القوة والقدرة على التأثير في مسارات الأزمة السورية، ووضع العراقيل أمام الحلول الأمريكية فيها، مع البرهنة للأخيرة أنها لن تتردد في التدخل في المجالات التي كانت واشنطن منخرطة فيها.
كذلك سعت موسكو إلى الحفاظ على سوريا بوصفها عميلًا رئيسًا لصادراتها العسكرية، وعلى الحفاظ على دور محوري في قطاع الطاقة السوري، مع قطعها الطريق أمام مشروعات إمداد الطاقة إلى أوروبا، عبر خط الغاز القطري إلى أوروبا، الذي يتلاقى مع خط الغاز المصري الإسرائيلي المحتمل ضمن الأراضي السورية.
فالدولتان دخلتا سوريا بأهداف ووجهات نظر مختلفة، رغم تشاركهما في تثبيت سلطة نظام الأسد؛ بهدف تأمين مصالحهما، ووحدة التراب السوري، ومزاحمـة الـدور الأمريكـي في منطقـة الشـرق الأوسـط، وبالأخص في سوريا، ومحاربة التنظيمات الإرهابية، حسب الباحث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، الدكتور مصطفى الغنيمي؛ لذا اقتصر التنسيق بينهما في المجال العسكري، غائبًا عن المجالات الأخرى، مع افتراقهما في قضايا عدة، مثّل سقوط مدينة حلب عام 2016، ونظرة الجانبين إلى شخص بشار الأسد في نظام سوريا المستقبل، حيث اعتبرته طهران ضروريًّا للحفاظ على مكتسباتها في سوريا، بعكس موسكو.
كذلك أولت الأخيرة الأهمية “للحل السياسي”، بالاتفاق مع واشنطن عبر مسار فيينا، فيما تشبثت طهران بأولوية “الحل العسكري”. وتباينت وجهتا نظرهما بشأن حدود الدورين التركي والأمريكي في مسار التسوية السورية، وبشأن التفاهم الروسي- الإسرائيلي في سوريا، ومعادلة الحكم وشكل الدولة الجديدة، مع تنافسهما على مناطق النفوذ العسكري، والسياسي، والاقتصادي، الذي كان أكثر وضوحًا فيه؛ بتنازعهما على موارد الطاقة، والفوسفات، والمواني، لكن الخلاف الأعمق بين الجانبين سيبقى في مشروعي سكة حديد “شلمجة- البصرة- اللاذقية” بين إيران وسوريا عبر العراق، وجهود إيران للاستحواذ على مرفأ اللاذقية كنقطة نهائية له، ومشروع خط الغاز “الإسلامي” أو “الفارسي”، حيث تأمل طهران تصدير مواردها من الطاقة إلى أوروبا من الشواطئ السورية، وهو ما يستحيل قبوله روسيا، إلا في حال شرائها الطاقة الإيرانية؛ ومن ثم تصديرها إلى أوروبا بنفسها، حفاظًا على ورقة الطاقة الروسية في مواجهة الغرب.
بناءً على ذلك، شهدت علاقة الطرفين توترات عدة، استهدف خلالها الطيران الروسي قــوات إيرانيــة فــي مدينة حمــص، مع قصف متكرر لميليشيا حــزب الله فــي حماة، وريف حلب (نبل والزهراء) ومطارها، بالإضافة إلى اشتباكات الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، الموالي لإيران، مع الفرقة الخامسـة، بقيادة سهيل الحسن (النمر)، الموالي لروسيا في منطقة الغاب بريف حماة، مع مطالبة الرئيس بوتين لجميع القوات الأجنبية بالانسحاب من سوريا، التي فسّرها المبعوث الخاص لبوتين، ألكسندر لافرنتييف، بأنها موجهة إلى القوات الإيرانية وقوات حزب الله.
وإلى جواره، وفي إشارة إلى الميليشيات الإيرانية، قال نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف: “روسيا ستضرب كل من هو خارج الجيش”.
ومع إشارته إلى انعدام الثقة بين الجانبين، نتيجة تعرض مواقع إيرانية وروسية في المنطقة لضربات لم يتبنها أحد، نقل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى عن ناشطين وزعماء عشائر في دير الزور، اتهام إيران لروسيا بقصف مقرها العسكري ومواقعها في البوكمال.
ووفقًا للمعهد، تزايدت شكوك موسكو تجاه إيران منذ عام 2017، عندما استُهدف قادة بارزون في الجيش السوري مدعومون من روسيا، كعصام زهر الدين، وسهيل الحسن، الملقب بـ”النمر”.
وعلى الصعيد السياسي، استبعدت موسكو طهران من أغلب اجتماعات مؤتمر أستانا، وتحفّظ نائب وزير خارجيتها، سيرغي ريباكوف، على وصف طهران لعلاقتها مع موسكو بالتحالف قائلًا: “روسيا ليست حليف إيران في سوريا، بل يعمل الطرفان معًا في إطار محادثات أستانا بشأن سوريا”، فيما وجّه رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشه، اتهامًا ضمنيًّا لروسيا بالتواطؤ مع إسرائيل، بقوله: “لو كانت منظومة (إس 300) تعمل على نحو صحيح لما استطاعت إسرائيل تنفيذ الهجمات بنجاح على الأراضي السورية”.
وإذا جاورنا تصريح بيشه بتصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن “هناك اتفاقًا إسرائيليًّا- أمريكيًّا- روسيًّا على أنه يجب إخراج إيران من سوريا، لكننا نختلف على كيفية تنفيذ ذلك”، لتبينت لنا حدود العلاقة بين الجانبين.
فوفقًا لمعهد واشنطن، تمتلك روسيا القدرة على منع الضربات الإسرائيلية، إن رغبت، ولكنها تغض الطرف عنها بغية إضعاف النفوذ الإيراني.
فيما نقل المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، في تقريره لشهر يناير (كانون الثاني) الفائت، عن الصحافة الإيرانية تلميحاتها لمســؤولية موســكو ودمشــق عن الاختراق الأمني بحق قادتها في سوريا، مع شكوك بشأن دور روســي مباشــر بتسـهيل عمليـات الاسـتهداف الإسـرائيلي لهؤلاء القادة، من خلال تسـريب معلومـات تحـركاتهم، أو دور غير مباشر بتغاضــيها عــن إبلاغ طهــران مسبقًا بهـذه العمليـات، فـي ظـل التنسـيق القائم والمعمول به بين موسكو وتل أبيب.
ومهما يكن، فإن الانخراط الروسي في سوريا حرم- إلى حد كبير- استحواذ إيران على صناعة القرار السوري.
وتقابل طهران ذلك بعرقلة أي مسار روسي يعارض مصالحها، كحال عرقلتها جهود موسكو بتطبيع العلاقات التركية مع نظام الأسد، بمعزل عنها، عبر اللجنة الثلاثية (موسكو- أنقرة- دمشق) التي تحولت إلى رباعية بعد ضم طهران إليها؛ ضمانًا لعدم عرقلتها، فالأخيرة تخشى مقايضات روسية- تركية على حساب نفوذها في سوريا، ضمن السياسة الروسية لإدارة التوازن بين الدول الفاعلة في الملف السوري.
الخاتمة
وعليه، لا يبدو أن موسكو معنية، إن لم تكن راضية، عن الضربات الأمريكية- الإسرائيلية للقادة الإيرانيين في سوريا، ما دام أنها بقيت دون رد قد يؤدي إلى توسع الصراع بين الجانبين، بما يهدد مكاسب موسكو المحققة في سوريا؛ لذا لا يستبعد أن تكون قد مارست ضغوطًا مثمرة على الأسد لعدم إفساح المجال لزيادة تموضع إيراني في جنوب سوريا، بدعوى مؤازرة غزة، وهو ما يمكن قراءته من مغادرة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، قاعة القمة العربية الإسلامية في الرياض قبل كلمة حليفها الأسد، ويعزز هذا التقدير، أن موسكو بــدأت بصياغة ترتيبــات أمنيــة جديــدة في جنوب سوريا، ضمن جهودها لإدارة التصعيد المحتمل بين إسرائيل والميليشيات الإيرانية.