فؤاد السينيورة: رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق
قسم العلاقات الدولية والحوث الإستراتجية/ تونس04-03-2024
في فورة من التنسيق المتزامن، أوقفت 19 جهة مانحة غربية رئيسية معوناتها للأونروا في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون في غزة في أمسّ الحاجة إلى المساعدات الإغاثية والإنسانية العاجلة. وذكرت منظمة الصحة العالمية، في بيان أصدرته، بشكل لا لبس فيه، أن حجب الأموال سيكون له عواقب كارثية.
كما حذرت سيغريد كاغ، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، من أنه لا يوجد بديل للأونروا من أجل العمل على إنقاذ حياة السكان في غزة.
صحيح أنه لا يوجد بديل للأونروا، لكن الصحيح أيضا أنها ليست بديلاً عن إنشاء الدولة الفلسطينية السيدة والحرة والمستقلة.
على مدار 74 عاما، ظلت الأونروا تقدم التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين الذين بلغ عددهم في البداية في عام 1948 نحو 700.000 لاجئ، والآن يتجاوز عددهم 5.9 ملايين.
على نحو خاطئ، بدا أن تقديم المساعدات لهؤلاء اللاجئين أسهل من إيجاد حل حقيقي ودائم للصراع مع إسرائيل. وحديثا علّقت الولايات المتحدة وألمانيا والسويد دعمها المالي الذي يشكل 50 في المئة من موازنة الأونروا السنوية، فيما لايزال التمويل العربي شحيحاً.
لقد بدا أن الجهات المانحة الغربية لمعالجة أزمة اللاجئين الفلسطينيين كانت تحركها المخاوف من التداعيات الإنسانية لهذه الكارثة، وكذلك الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، والتي هي في الأساس من صنع أيديهم.
وقف تقديم الدعم المالي للأونروا في الوقت الذي يعاني فيه الفلسطينيون كارثة أكبر من كارثة عام 1948 أمر غير مبرر وغير مقبول.
وقد وصفه البعض، بما في ذلك مقرر الأمم المتحدة الخاص لشؤون الأونروا، فرانشيسكا ألبانيز، بأنه غير أخلاقي. والحقيقة أن المرء يتساءل عن توقيت هذا التصرف لاسيما في أعقاب إدانة إسرائيل من محكمة العدل الدولية، وفي الوقت الذي كان العديد من المانحين الغربيين الذين حجبوا الأموال، ينتقدون محكمة العدل الدولية علانية.
وتتعلق الأسباب التي تم التذرع بها من تلك الدول لحجب المعونات عن الأونروا، أن بعض موظفيها متهمون بالمشاركة في هجوم 7 أكتوبر 2023 ضد إسرائيل، ولم تنجح الإجراءات التأديبية المتخذة من الأونروا والوعد بإجراء تحقيق كامل بشأن تلك الادعاءات في ثني تلك الدول عن عزمها وقرارها بالحجب، إلى جانب الاتهامات النمطية وغير الصحيحة الأخرى الموجهة للمنظمة، وذلك من الترويج لمعاداة السامية، وهي التي ليست بجديدة.
على صعيد آخر، كانت هناك أصوات معارضة، ومن ذلك، أنه في جلسة الاستماع التي عقدتها اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي بشأن الأونروا، قد بادر عضو الكونغرس الديموقراطي جيسون كرو إلى إبداء مخاوف حقيقية من أن يؤدي وقف الدعم عن الأونروا إلى الإضرار بالأمن القومي الأميركي.
فضلا عن أن وقف تمويلها ستكون له آثار إنسانية وخيمة ليس فقط على اللاجئين الفلسطينيين في غزة، لكن أيضاً على عدد من الدول المضيفة لهم، لاسيما في الأردن وسورية ولبنان.
والأهم من ذلك، أن تدهور الظروف المعيشية والتدهور الاجتماعي لدى اللاجئين سيكون له آثار وخيمة على الأوضاع الأمنية في تلك البلدان المضيفة، إضافة إلى تصاعد المشاعر المعادية لأميركا والغرب عموماً، والحرمان من المساعدات والاستياء الذي سيعقبه سيشكلان وصفة سامة للمزيد من الاضطراب والتهور والتطرف في تلك البلدان وغيرها، فليس من قبيل المصادفة أن حركة حماس ازدهرت وازدادت شعبيتها في أفقر المجتمعات الفلسطينية ومنها غزة.
ومن المحير أن نرى الغرب بتصرفاته غير الحكيمة هذه يتسبب في إلحاق الألم والبؤس بالفلسطينيين، تحت ذريعة مكافحة معاداة السامية، وذلك حيث يجري احتضان أجيال من الإسلاميين المتطرفين.
إن إعطاء الأولوية في هذه الآونة لمعالجة مسألة معاداة السامية في مناهج مدارس الأونروا يعتبر عملا ساذجا، لاسيما في الوقت الذي يواجه فيه الفلسطينيون أكبر نكبة في تاريخهم الحديث، حيث إن معظم المدارس إما أنها قد أصبحت مدمرة أو تؤوي عشرات الآلاف من اللاجئين النازحين، الذين يعانون القتل المتعمد والإبادة الجماعية، والجوع والعطش والأمراض المعدية.
ويتساءل المرء كم من الوقت والمال سيستغرق كل من طرفي الصراع لاستعادة ما يشبه الحياة الطبيعية.
إن حرمان الأونروا من تقديم الدعم والتمويل لها من الجهات المانحة الدولية سيزيد من تعميق آلام العقاب الجماعي الذي يتعرض له الفلسطينيون ويؤجج الكراهية والتطرف العنيف، لأن مقايضة الاعتبارات قصيرة المدى بأهداف طويلة المدى، لم تشكل إلا واحدة من الأساليب الخاطئة التي درجت السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط على اعتمادها، وذلك على مسار طويل من هذه الممارسات الخاطئة.
وهكذا يأتي قطع التمويل عن الأونروا وياللأسف، قد يقول قائل إن المنظمة بحاجة لإعادة التأهيل وإعادة النظر في رسالتها التعليمية للأجيال الفلسطينية، لكن الجواب أن الوقت الحالي ليس مناسباً لبحث هذه المهمة الصعبة والشائكة، لاسيما في معزل عن تحقيق تقدم جدي وملموس نحو اعتماد الحلول الصحيحة لإنهاء هذه القضية المستعصية.
إن القضية المحقة لتأمين التمويل اللازم للأونروا، هو بمثابة تذكير صارخ بالفشل الفادح الناتج عن عدم حل القضية الفلسطينية.
صحيح ان المنظمة لاتزال مستمرة بسبب الرعاية الغربية، لكن هذه الرعاية ليست ولا يجب أن تشكل بديلاً عن بذل الجهد اللازم لإنهاء هذا الصراع الذي طال أمده.
إن الأزمة الحالية تتعلق أكثر- بشكل أساس- بضرورة التوصل إلى حل عادل يلبي التطلعات والحقوق المشروعة للفلسطينيين، وليس بإدامة وضع ملايين اللاجئين منهم على هذه الحال المزرية.
كما أن لامبالاة بعض الدول العربية والإسلامية يسهم أيضاً في إدامة البؤس لدى اللاجئين الفلسطينيين.
من المثير للاهتمام أن إسهام بعض الدول العربية والإسلامية في دعم الأونروا لايزال قليلاً على الرغم من أن بعضاً منها قد بادر إلى تكثيف جهوده في دعمها خلال الأشهر القليلة الماضية.
إن إيران وحلفاءها من محور المقاومة الآخرين لا يقدمون عملياً أي مساعدات إنسانية، ولم يعرض أي منهم أي دعم لسد الفجوة في تمويل المنظمة.
في هذا الصدد، يجدر التطرق للحديث عن الظروف المزرية التي تعيشها المخيمات الفلسطينية في سورية ولبنان، والتي ترتب أعباء إضافية وكبيرة على الأونروا باعتبارها المصدر والمزود الوحيد للاحتياجات التعليمية والصحية الأساسية لذلك العدد الكبير من اللاجئين الفلسطينيين في هذين البلدين.
لقد حان الوقت لأن تبادر الدول العربية إلى الإسهام في زيادة معوناتها للأونروا. في مطلق الأحوال، لا ينبغي أن تعتمد حياة اللاجئين الفلسطينيين على طيبة الغرباء فقط.
إن قرار وقف تمويل المنظمة ليس له ما يبرره أخلاقيا أو معنويا أو سياسيا.
ويبدو أن أصداء هذه المشاعر قد بدأت تتردد على نطاق واسع عبر المحيط الأطلسي، وبعض الأصوات المعارضة في الكونغرس الأميركي وحتى لدى أعلى المستويات في الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المأساة الإنسانية التي تتكشف تفاصيلها في غزة، ومن ذلك ما حصل خلال الأيام القليلة الماضية- لا بد أن تكون بمثابة حافز لبدء عملية سياسية تؤدي إلى إعطاء الفلسطينيين الحقوق التي طال انتظارها.
كذلك، فإن المجزرة الأخيرة التي وقعت في مدينة غزة، والتي أسفرت عن أكثر من مئة ضحية وقرابة تسعمئة جريح من المدنيين الأبرياء الذين يتضورون جوعا وعطشا، والذين هم بالفعل ضحايا مباشرون نتيجة استمرار الاحتلال الإسرائيلي الوحشي، هذا فضلاً عن التدمير المنهجي للأونروا بهدف تفكيكها.
ولذلك، فإنه ينبغي لهذه الأحداث المأساوية أن تدفع البلدان التي أوقفت الأموال والمساعدات عن المنظمة، وإن نددت بالمذبحة الأخيرة، فإنه ينبغي عليها التراجع فورا عن قرارها المؤسف بقطع المساعدات عنها، وذلك من أجل تمكينها من الاستمرار في مساعدة الفلسطينيين في غزة وبلاد الشام، والذين هم بحاجة إلى كل الدعم الإغاثي والإنساني الذي يمكنهم الحصول عليه من الأونروا.