إعداد الدكتورة بدرة قعلول قسم البحوث الأمنية والعسكرية
تونس 06-12-2023
راجت الأخبار عن صور “الميركافا4″ فخر الصناعات العسكرية الصهيونية ومصانع السلاح الإسرائلي، مقلوبة على راسها وتشتعل” خلال الأيام الأخيرة. “الميركافا 4” التي روّج لها الكيان الصهيوني بأنها الأولى في العالم والتي لا تقهر وكل الدول تتسارع لشرائها وهي لا تبيعها، وإذ بالمقاومة الفلسطينية بقنابل ومعدات عسرية يدوية يشعلون فيها النار وتنقلب على راسها.
وهذا ما اعتبره العسكريون في كيان الإحتلال والخبراء العسكريون في العالم أنه إهانة كبرى وسقوط مُريع ومفاجئ للدبابة التي يعتمد عليها الجيش الإسرائيلي الاعتماد الأكبر ويروِّج لكونها إحدى أبرز الدبابات المُدرَّعة في العالم.
فلم تكن تلك إذن هي المرة الأولى التي تسقط فيها الميركافا، ولن تكون الأخيرة على الأرجح، لهذا اصبح الكيان الصهيوني يعتمد في غاراته على غزة بدبابات أخرى ويخفي الميركافا4.
وقد كان الجنرال “يسرائيل طال” وهو واحدا من اليهود الذين تطوَّعوا مع الجيش البريطاني وشاركوا في الكتيبة اليهودية بإيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل أن ينضم إلى عصابة “الهاجاناه” الصهيونية عام 1946 ثم جيش الاحتلال بعد عام 1948 قد رأى من خبرته في المعارك أن الدبابات ستكون مركزية في حسم المعارك مع العَرَب، وتحقَّقت رؤيته بالفعل في حرب 1967 التي لعبت فيها الدبابات دورا محوريا وأفضت إلى أسوأ هزيمة عسكرية عربية في ذلك التاريخ، وبذلك ركزت وزارة الدفاع الإسرائلية على تطوير الدبابات، ومن بينها الميركافا التي عملت على إشهارها بطريقة كبيرة لتصبح “أسطورة”.
في نهاية السبعينيات، وُلِدَت الميركافا من تصاميم “يسرائيل طال”، ودخلت الخدمة عام 1979، وهو العام نفسه للمفارقة الذي وُقِّعَت فيه اتفاقية السلام مع مصر من جهة، واندلعت فيه الثورة الإيرانية من جهة، وبدا فيه لسوء حظ “طال” أن الحروب النظامية في طور الأفول البطيء.
ويقول “مارتِن فان كرِفيلد”، وهو مُنظر ومؤرخ عسكري إسرائيلي “إن ميل الجيش الإسرائيلي دوما إلى إعلاء أهمية الحلول التكنولوجية على حساب الابتكار التكتيكي أدى إلى التراجع النسبي لأدائه العسكري في مواجهة العَرَب، وهو تراجع أمكن إخفاؤه بالأعداد الضخمة للقوات الإسرائيلية المُستخدمة دوما ليس إلا”.
في عام 1980، بدأ الإنتاج للميركافا، وبحلول يونيو 1982 الذي بدأ فيه الكيان المحتل غزوه البري للبنان، كانت هناك 200 دبابة ميركافا في حوزته اشتبك الكثير منها بقوة في العديد من المعارك مع الدبابة السوفيتية “تي 72” التي استخدمها الجيش السوري آنذاك.
وقد تفوقت “الميركافا”، بدعم أمريكي كبير فلقد تمّ تدمير الدبابة الروسية بفضل استخدام صواريخ أميركية مضادة للدبابات أو زرع الألغام في طريقها والميركافا الصهيونية لم تفعل شيء في الميدان وفي الحقيقة.
ومع ذلك، فقد راجت تصريحات شارون عن تفوُّق الميركافا، وسرعان ما انفتح باب الدعاية الإسرائيلية التي روَّجت لها بوصفها دبابة لا تُقهَر الى حدود 7 اكتوبر وطوفان الأقصى أين أثبتت المقاومة الفلسطينية حقيقة “كذبة الميركافا”.
منذ تلك اللحظة أصبحت الميركافا أسطورة وفخر القوات البرية في دولة الاحتلال، التي أنتجت منها أجيالا جديدة باستمرار وصلت الى “الميركافا 4″، دون أن تُختَبرها في أي معركة نظامية، وما يمكنها أن تفعله في الميدان.
والسؤال الذي يطرح لدى العديد من العسكريين:
لماذا لم تبيع إسرائيل “الميركافا” إلى أي دولة تخوض حربا حتى أنه هناك من كان يتصوّر أنها ستزوّد أكرانيا بها لتجربتها ميدانيا ولكنها لم تفعل؟
وهذا ما طرح العديد من التساؤلات والإجابة قد جاءت على يد المقاومة الفلسطينية بعد أحداث طوفان الأقصى وهي تشتعل وهي مقلوبة على رأسها ومدمّرة بالكامل، والذي سلط الضوء وفضح هشاشة وكذبة الميركافا.
وللعلم فتاريخ الميركافا كان دائما سيء فقد دمرت في لبنان وكذلك في فبراير 2002، قد فخختها المقاومة الفلسطينية بفخ صُنِع بدقة عبر عبوة ناسفة وضعتها المقاومة في طريقها، وقد دمَّر الانفجار الدبابة، وقلبها على إحدى جانبيْها، وفصل البُرج عن بقية الدبابة، كما أردى ثلاثة جنود إسرائيليين قتلى.
وقد علَّق محللون إسرائيليون حينها على الهجوم قائلين إنه ضربة قاصمة لهيبة الجيش الإسرائيلي وحتى اليوم وبعد طوفان الأقصى جيش الإحتلال لا يزال يبحث عن إسترجاع “هيبة إسرائيل” المبنية على الكذب والبروبغندا.
كذلك في عام 2006، وحين اندلعت حرب يوليو مع حزب الله في الجنوب اللبناني، عانى الجيش الإسرائيلي الأمرَّيْن، وخسر العشرات من دباباته الميركافا حتى أصبحت محلّ تنذر الجميع.
وقد برز آنذاك صاروخ الكورنيت بعد أن مرَّرته سوريا إلى حزب الله في جنوب لبنان، وهو صاروخ روسي متطور مداه خمسة كيلومترات ويمكنه أن يخترق تدريعا سُمكه أكثر من متر.
وعلى مدار 33 يوما من المعركة مع حزب الله التي شاركت فيها 400 دبابة إسرائيلية، تعرَّضت 48 دبابة لضربات من السلاح المضاد للدبابات، ولحقت أضرار جسيمة بـ40 أخرى، وتعرَّضت 20 غيرها لاختراق تدريعها في حين دُمِّرَت بالكامل أكثر من عشرة دبابات …
لقد كانت واحدة من المفاجآت العسكرية للقتال في لبنان هي الهشاشة الواضحة للسلاح الإسرائيلي في مواجهة صواريخ حزب الله المضادة للدبابات، ونفس الشيء اليوم يبرز هشاشة هذا الجيش المحتل الذي يعتمد على الكذب والبروبغندا ويعتمد على الأمريكان والغرب.
لقد اشتهرت الميركافا بأن تدريعها مُصمَّم لمنح حماية خاصة لطاقم الدبابة، وهو تصميم حرص عليه الكيان الصهيوني بالنظر للأهمية التي توليها إسرائيل لحياة جنودها وضباطها. لكن عدد جنود أطقم الدبابات الذين قُتِلوا في لبنان عام 2006 وصل إلى 30 من أصل 120 جنديا إسرائيليا مقتولا، أي رُبع القتلى.
ولكن ما تغيَّر بعد كل تلك السنوات هو طبيعة الحروب غير النظامية نفسها، التي أحدثت فيها الحرب الأوكرانية نقلة كبيرة بفضل الاستخدام المُكثَّف للمُسيَّرات والاعتماد على الخنادق عند الطرفيْن في ظل جغرافيا كثافة سكانية يصعُب التحرُّك فيها على عكس المعارك النظامية المفتوحة. ويبدو أن الصراعات الأخيرة التي اندلعت في مناطق عِدة قد أزاحت الدبابة عن عرش المواجهات البرية.
في جولة المواجهات بين المقاومة وجيش الاحتلال، ظهرت بشكل حاسم شبكة الأنفاق واستخداماتها العسكرية، حيث استطاع مقاتلو القسام تغيير قواعد الاشتباك وعبروا منها إلى غلاف غزة وتسلَّلوا إلى خلف خطوط العدو وهاجموه من داخل أراضيه، كما ساعدتهم الأنفاق في أسر الجنود وأخذ الرهائن.
في حين تشير الإشتباكات التي جَرَت منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن بين المقاومة وجيش الاحتلال بأن الميركافا، على غرار عام 2006، سقطت ضحية صواريخ وألغام ومُسيَّرات المقاومة، دون أن تُختَبَر بعد الأنفاق وأثرها إلى اللحظة ولهذا تراجعت الميركافا الصهيونية، لأنهم يعلمون لو يتوغلوا أكثر فستكون الفضيحة الكبرى والهزيمة الثقيلة للجيش ولتجار السلاح والمدرعات والدبابت الصهوينية. فقد بلغت خسائر إسرائيل من دبابات الميركافا حتى الآن 15 دبابة، تدمَّرت منها أربع بالكامل، ووقعت 10 في قبضة المقاومة، وأُلحِق الضرر بواحدة، علاوة على العشرات من ناقلات الجنود.
في أثناء الحرب الدائرة اليوم، وزَّعت كتائب القسام تعليمات لمقاتليها كي يستهدفوا الدبابات الإسرائيلية، وقد حصل عليها جنود الإحتلال من أحد المقاتلين الذين استُشهِدوا في القتال، وهي تحوي توجيهات باستهداف أنظمة “تروفي” المُثبَّتة على الدبابات يعني نقطة ضعف الميركاغا4.
“تروفي” هي مجموعة من الرادارات الصغيرة ومنصات إطلاق القذائف التي تستشعر تلقائيا أي صواريخ متجهة نحوها وتعترضها، وقالت “تل أبيب” أنها قد طوّرتها بعد حرب 2006 وعلى ما يبدوا وبحسب المعرك القائمة اليوم في غزّة فإنها لم تنجح في ذلك والمقاومة الفلسطينية تعلم ذلك جيدا.
وقد كشفت التعليمات أن إطلاق صاروخ من مسافة قصيرة جدا يُمكِن أن يُعطِّل نظام “تروفي”، ولذا لم يكن غريبا التسجيل الذي أُذيع ويُظهِر محاولة استهداف ميركافا من مسافة تكاد تقترب من الصفر، وهو مشهد قد تكرر في عملية طفان الأقصى المستمرة الى اليوم، في ظل الكثافة السكانية لمدينة غزة، وكذلك الدمار الهائل الذي لحق بالكثير من أحيائها السكنية، الذي ربما يمنح المقاومة تحصينا إضافيا إن استطاعت استخدامه في مواجهة الهجوم الإسرائيلي.
الخلاصة:
لطالما اعتمدت الإستراتيجية الإسرائيلية على التفوُّق التقني والمادي، وتبنِّي تكتيكات تُقلِّل من أعداد القتلى في صفوف الجنود والضُبَّاط قدر الإمكان بالنظر للتعداد السكاني المحدود لدولة الاحتلال، علاوة على نقل الحرب إلى أرض العدو، والمُبادرة بالهجوم الاستباقي الأول في حالة تفاقم الخطر الوجودي عليها كما جرى عام 1967 وفي اجتياح لبنان ولكنها اليوم تنقلب الموازين فالمقاومة الفلسطينية قد بادرت وإجتاحت حصونها بل ودخلت الى عمق مستطوتناتها ودمرت خاصة أجهزتها الإستخباراتية الهجينة التي أصبحت اليوم مصابة بالعمى ولهذا بادر الخماسي “فرنسا وأمريكا وبريطانيا وألمانيا وكندا” ببعث أجهزتهم الإستخباراتية الى تل أبيب لإنقاذ كيان الإحتلال.
هُنا تظهر بجلاء أوجه الشبه بين الهزيمة الإسرائيلية في أكتوبر 1973 وفي أكتوبر 2023، ففي كلتا الحالتيْن فوجئت إسرائيل بتكتيكات وعُدَّة وعتاد لم تأخذها في الحسبان، وبخسائر فادحة في الأرواح آلمتها بشِدة، وبامتلاك عدوِّها لزمام المبادرة والمفاجأة وخاصة المبادرة وردة الفعل ليصبح الميدان في قبضة المقاومة الفلسطينية.
لم تكشف فصول المعركة الجارية عن نفسها بالكامل، بيد أن مُجريات الحرب الأوكرانية، والتحصينات التي أعدَّتها المقاومة في قطاع غزة، قد تعني أن الدرس الاستخباراتي القاسي لن يكون الدرس الوحيد المؤلم لتل أبيب، بل يُمكن أن يكون هناك درس جديد في طريقه إلى الجيش الإسرائلي كاملا بإستخباراته ومعدّاته و”غبائه الإصطناعي” الذي افشى سرا كبيرا وهو عدم جدوى “الذكاء الإصطناعي” العسكري الذي اصبح محلّ تساؤلات الخبراء العسكريين والخبراء الدوليين ومروجي هذه “السلعة” الكاذبة.