الجمعة. ديسمبر 27th, 2024

فاتن جباري قسم العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية

مراجعة وإشرف الدكتوة بدة قعلول  

في خضم التطورات المصيرية الراهنة في فلسطين، تعمل فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة ضمن تشكيلة حماس بطريقة لا مركزية بطريقة متشعبة وعنقدية.

كما يوجد نوع من البنية العسكرية فائقة التركيز حيث تعمل كل مجموعة بمفردها ولكن في انسجام وسرية تامة وكل هذا يعكس إلماماً بتاريخ حرب العصابات أو كما تسمى باللغة العسكرية “الحرب الهجينة”.

ويطرح ذلك تساؤلا: كيف استطاعت المقاومة الفلسطينية المسلحة مواجهة التكنولوجيا العسكرية الأمريكية والصهيونية ؟

لقد أثبتت عملية طوفان الأقصى أن المقاومة الفلسطينية قد لعبت دورا جبارا في دحر التكتيكات الأمريكية–الإسرائيلية، على الميدان أثناء العملية البرية بنسبة عالية الدقة. حيث أجهضت الذخائر الإسرائيلية الفائقة – مثل إقامة مراكز القيادة المتطوّرة تحت الأرض والمواقع المحصنة لإطلاق الصواريخ في جميع أنحاء البلاد، والنقل السريع للأسلحة والمقاتلين في مواجهة القصف الإسرائيلي، وحتى قدرة المقاتلين على الذوبان في السكان المدنيين عندما تقتضي الحاجة.  بما يثبت أن المقاومة الفلسطينية حظيت بدرع شعبي واق وحواضن شعبية كبيرة ومنغمسة مع المقاومة.

 ذلك أن تعاطف الناس ودعمهم المنسق على مدى سنوات من الإعداد المضني قد شكلت حاضنة شعبية فلسطينية تدعم وتؤمن بالمقاومة كرمز فخر و أمان أي أن بناء مثل هذه الشبكة والحفاظ عليها تطلّب دعماً ومشاركة شعبية وحواضن شعبية كبيرة، وهذا ما يسعى إليه “المكر الصهيوني” بقتل المدانيين وتشريدهم لتفكيك الحواضن الشعبية الداعمة للمقاومة.

في مقال كتبه الخبير في الشؤون العسكرية “جاكوب ليفتش” مند سنة 2006 بعنوان “ثورة مضادة في الشؤون العسكرية: ملاحظات على التكنولوجيا العسكرية الأميركية الفائقة”.

حيث يتناول المقال  الثورة التي شهدتها الولايات المتحدة في المجال العسكري. نظامٌ جديد للحرب قيل إنه يجمع بين التكتيكات الميدانية المبتكرة والأسلحة عالية التقنية والاتصالات الشبكية وتكنولوجيا المراقبة المتطورة.

ويُزعم أن الحرب القائمة على الاتصالات او الذكاء الاصطناعي- ما بعد الحداثية  سوف تُحدِث انقلاباً في أرضِ المعركة في القرن الحادي والعشرين، لكنها لن تؤكد التفوق الأميركي لأجيالٍ مقبلة لأنها ستصطدم بأجيال لم تجد لهم مثيل .

مقال أثار سخرية الغرب وترك استنتاجا ملموسا في العمليات العسكرية الجهادية التي تتولاها المقاومة الفلسطينية المسلحة. ان ما قاله الكاتب يبدو أقرب الى اليقين اليوم فليس ثمة صورة سخر منها العالم بقدر سخريته من صورة “الميركافا الإسرائلية” المنقلبة رأسا على عقب او المواجهة من النقطة الصفرية أو عملية الشبح …وغيرها  من العماليات التي تخطت خيال الهوليودي الأمريكي الصهيوني.

كما يستحضر المقال الفشل العسكري الذريع للتكنولوجيا الأمريكية في لبنان سنة 2006 مع مقاتلي حزب الله اللبناني قائلا:

“أما مبعث قلق المنظّرين الأميركيين فيَنحصر في أن دفاع حزب الله الناجح عن جنوب لبنان في العام 2006 قد ساق الدليل على قدرة حرب العصابات المنظّمة جيداً على إحراز الغلبة على الغرب ذي التقنية الفائقة في لعبته الخاصة… لقد أربك حزب الله الأقمار الصناعية الإسرائيلية والاستخبارات الجوّية باستخدام الأفخاخ الخداعية، وطوّر تكنولوجيا الإشارات المضادة التي تمكّنت من فك الاتصالات اللاسلكية المشفرة، واعترض المعلومات الرئيسية في ساحة المعركة بواسطة التنصت على المكالمات الهاتفية التي كان يجريها جنود الجيش الإسرائيلي مع ذويهم “

لم تكن البنية التحتية المعقّدة الخاصة بالمراقبةِ والاستطلاع الإلكتروني للولايات المتحدة، القيادة والسيطرة والاتصالات والكمبيوتر والاستخبارات، المصمّمة لساحات القتال التقليدية مجهّزة للتعامل مع حرب العصابات التي تخوضها مجموعات صغيرة مجهزة تجهيزاً خفيفاً يتعذّر على المسيرات الأميركية اكتشافها أو تمييزها عن حركة المرور المدنية في أسوأ الأحوال.

 لقد  طُبّقت هجمات “الكر والفر” المحدودة والعالية الكفاءة مثل العبوات الناسفة ونيران القناصة في اعتراض المسيرات الأميركية كما جرى الاعتماد على الخلايا والتواصل المباشر وجهاً لوجه تفادياً للإشارات الذكية .

تنطبق جميع هذه الملاحظات تقريباً على عملية أكتوبر التي نفذتها المقاومة الفلسطينية والتطوّرات التي تلتها. وتعتمد البيانات التالية على تقارير في واشنطن بوست، وفايننشال تايمز، وبي بي سي، ونيويورك تايمز، وهآرتس.

تقول صحيفة “واشنطن بوست” إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تفاخر لسنواتٍ عديدة باستثماره ملايين الدولارات في جدارٍ ذكيّ موسع يمتد على طول الجيب فوق الأرض ويغوص في عمقها وقد مكّنت هذه الأعجوبة التكنولوجية إسرائيل من ادعاء تمكنه من احتواء حماس بنجاح في غزة.

كما استمدت إسرائيل الثقة من انتصار تكنولوجي، وهو نظام الدفاع الصاروخي “القبة الحديدية”، الذي يعترض الصواريخ وقذائف المدفعية قصيرة المدى ويدمّرها، كتلك التي تطلقها حماس من غزة وحزب الله من لبنان. ويُحتفى بهذا النظام، الذي طوّرته إسرائيل بتمويلٍ كبيرٍ من الولايات المتّحدة لفعاليته في التصدّي للهجمات الصاروخية.

بدأت عملية 7 أكتوبر التي نفذتها حماس والجهاد الإسلامي بإطلاق صواريخ من غزة في حوالي الساعة 6:30 صباحاً وتبع ذلك على الفور قيام نظام القبة الحديدية بإعتراض الصواريخ التي تم إطلاقها لإسقاط الصواريخ الآتية.

في الواقع، كان انفجار صواريخ القبة الحديدية جزءاً من خطة حماس  فقد غطّت على صوت إطلاق النار من قنّاصة حماس، الذين أطلقوا النار على سلسلة من الكاميرات المثبتة على السياج الحدودي، وانفجار أكثر من 100 مسيّرة تابعة لحماس دمرت أبراج المراقبة وكان هذا عملاً منسقاً في 30 موقعاً على طول الحدود.

وما أن نجحت هذه التقنية البسيطة في تعطيل أنظمة الكشف الملحقة بـ”الجدار الذكي”، حتى تعطّل بأكمله. وتمكّنت وحدة العمليات الخاصة التابعة لحماس، “النخبة” من اختراق الحدود بالمتفجّرات والجرّافات وعبرتها على متن شاحنات ودراجات نارية وفي المجمل، دخل ما بين 1,500 إلى 2,000 من مقاتلي حماس.

يبدو أن لدى حماس “إحاطةٍ متطورة تثير الدهشة بكيفية عمل الجيش الإسرائيلي  والأماكن التي تتمركز فيها الوحدات المحدّدة وحتى الوقت الذي يستغرقه وصول التعزيزات”.

وفي أقل من ساعة، حيث لم يكن لدى الجيش الإسرائيلي أدنى فكرة عما حدث اجتاح مقاتلو حماس 8 قواعد إسرائيلية، وكان تقدمهم سريعاً للغاية لقد تم اجتياز أقل من ميل واحد بالسيارة إلى المنشآت العسكرية الأولى، التي كانت من دون حراسة خارجية اين فوجئت قوات المراقبة المتمركزة على الخط الأمامي عندما اقتحم المسلحون قواعدهم، وتنقلوا بثقة عبر المرافق والثكنات.

 وفقاً لضابط كبير في الجيش الإسرائيلي، في عددٍ من القواعد حدّدت الوحدات التابعة لحماس أماكن وجود خوادم الاتصالات على وجه الدقة ودمّرتها ومع تعطل الكثير من أنظمة الاتصالات والمراقبة لم يتمكن الإسرائيليون في كثير من الأحيان من رؤية قدوم قوات الكوماندوز. لقد وجدوا صعوبة في طلب المساعدة والرد وفي كثير من الحالات لم يتمكّنوا من حماية أنفسهم .

واصلت حماس العملية حيث دمّرت وحدة تابعة لحماس أنظمة الاتصالات الموجودة في القاعدة، والهوائيّات تدميراً كاملاً وكذلك الأنظمة التي قامت بتنشيط أجهزة الاستشعار على السياج نفسه، وذلك وفقاً للمقدم “ألوُن إيِفياتار” الضابط السابق في وحدة المخابرات الإسرائيلية 8200.

كانت هذه أكبر وأهم قاعدة استخباراتية في إسرائيل، وواحدة من أعظم أصول البلاد، حيث تقوم بتجميع البيانات من إسرائيل والأراضي الفلسطينية ومن جميع أنحاء العالم، وخاصة دول الطوق في الشرق الأوسط منها إيران ومصر…

لقد حاربت حماس “التكنولوجيا الفائقة” من خلال “الذهاب إلى العصر الحجري”، وتشير تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى أن حماس لديها 40 ألف مقاتل مدرّبين تدريباً عالياً، وهو ما يزيد عن ضِعْف مقاتليها في معركتها الأولى مع إسرائيل في الفترة 2008-2009.

ويتضح من التقارير أن هناك جبهة مُشتركة بين حماس والجهاد الإسلامي وتنظيمات فلسطينية أخرى ذات أجنحة مسلّحة، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

كما عالجت الصعوبات التي تواجهها في استيراد الأسلحة من خلال تصنيع أسلحتها بنفسها، وأكثر فأكثر قامت بتحسين نوعية أسلحتها، وتهريب المكوّنات اللازمة لتحويل الصواريخ غير الدقيقة إلى أسلحة دقيقة موجّهة.

ووفقاً لتقارير فإن الحركة تصنع الآن صواريخ مضادة للطائرات من طراز “معتبر-1″المحمولة على الكتف والتي تقول إنها قادرة على تدمير المروحيات الإسرائيلية،  أما صواريخ ” الياسين” المضادة للدبابات  فلقد أثبتت انها قادرة على اختراق الدروع التفاعلية لدبّابات ميركافا الإسرائيلية .

قدرات حماس تجلت في عملية أكتوبر بشكل أذهل العالم، فبينما يدخل الجيش الإسرائيلي إلى غزة، تتمتع حماس بمزية صاحب الأرض، وهي على أهبة الاستعداد علاوة على أنها فرق خبيرة حاربت القوات الإسرائيلية بدراية دقيقة بتضاريسها وسوف تدافع عنها بشراسة واقتدار.

صحيح أن حماس لا تمتلك قوة جوية، وبدلاً من ذلك تبنّت تقنية قديمة، لجأ الفيتناميون إلى استخدمها بشكل كبير ضدّ القوات المسلّحة الأميركية وهي شبكة الأنفاق التي حوّلت حماس غزة إلى حصن من المتاريس والخنادق – بما في ذلك شبكة من الأنفاق بطول 500 كيلومتر، يمكن لمقاتلي حماس أن يحتموا بها أثناء الضربات الجوية الإسرائيلية واستخدامها لمهاجمة القوات الإسرائيلية من الخلف  ومع توغّل القوات الإسرائيلية في عمق غزة،  فقد استخدمت حماس الكمائن فوق الأرض والضربات السريعة، والقنابل المموّهة السريعة والمتخفية لإرهاق جيش الاحتياط الإسرائيلي، الذي يتكوّن في معظمه من المدنيين، وإغراقهم في قتال الشوارع الذي لا يقدرون عليه وليسوا مدربين عليه.

يمكن رؤية المعركة الدائرة بين التكنولوجيا الفائقة والتكنولوجيا البدائية في الأداء المتباين لتقنيات الاستخبارات لدى الجانبين. ويشير هاردينغ في موقع CSIS إلى أن الأجهزة الإسرائيلية كانت واثقة من جمع إشاراتها الإستخباراتية إلا أنّ ذلك لم يسعفها.

نجحت حماس في التشويش على الرادارات الأمريكية الصهيونية، وحافظت المقاومة الفلسطينية، على الأمن “العملياتي” من خلال التحوّل إلى “العصر الحجري” واستخدام خطوط الهاتف الصلبة مع تجنب الأجهزة “الغبية” التي يمكن إختراقها أو التي تصدر توقيعاً إلكترونياً.

فحماس تعتمد منظومة مشفرة لتبادل المعلومات العسكرية الحاسمة إما عبر النظام التناظري أو عبر نظام مشفّر آخر غير معلوم . واستغنت عن الأجهزة الذكية التي هي في حدّ ذاتها “غبية” واستعملت الأجهزة الغير ذكية كأداة للتواصل…

By Zouhour Mechergui

Journaliste