الجمعة. ديسمبر 27th, 2024

الكاتب: الدكتور عباس مزهر – باحث ومؤلّف في السيكولوجيا السياسية

تدّعي الصهيونية أنّ اليهود  كانوا أول وأكثر ضحايا النازية، واستغلوا هذه الإشكالية لإقامة دولة يهودية  في فلسطين المحتلة، باعتبار أنّ لهم الحق بالعودة المقدّسة إلى صهيون، وذلك وفق وعد إلهي مُفترَض يمنحهم مُلك فلسطين لكونهم شعب الله المختار حسب العقيدة التوراتية المزعومة.

ولا زالت الصهيونية اليوم تبتزّ العالم متذرّعةً بتاريخ طويل من الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود في الشتات، حيث تتوّج بالهولوكوست الذي تمّ تضخيمه والمبالغة فيه لاستغلاله في المشروع الصهيوني.

 لكنّ نظرة معمّقة للفكر والممارسات الصهيونية توضّح مدى التشابه والتقاطع بينها وبين النازية، لا بل تجاوزت الصهيونية بإرهابها وعنصريّتها كلّ الأفكار والأفعال النازية.

لذلك تتطلّع هذه الورقة البحثية إلى دراسة العناصر المشتركة بين الصهيونية والنازية، والكشف عن نقاط التقاطع بينهما على مستوى المفاهيم والتطبيقات، خاصةً وأنّهما تشتركان بالنشأة الغربية الأوروبية نفسها، وبالاستقاء من نفس المصادر الفكريّة والفلسفيّة والإيديولوجيّة.

تعدّدت التعريفات حول الصهيونية واختلفت باختلاف وجهات النظر التي تتناولها، فالباحثون الصهاينة اعتبروها حركة تحرير للشعب اليهودي، والدارسون المتعاطفون مع الصهيونية وصفوها بحركة سياسية دينية تسعى إلى تعويض اليهود عن الظلم والحرمان والاضطهاد، بينما ينظر إليها الباحثون العرب والمسلمون المناوئون لها على أنّها حركة استيطانية تهدف إلى تقتيل وتشريد الشعب الفلسطيني لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين.

وبناءً عليه، “هي حركة سياسية يهودية، ظهرت في وسط وشرق قارة أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، ودعت اليهود للهجرة إلى أرض فلسطين، بدعوى أنّها أرض الآباء والأجداد (إيريتس يسرائيل)، ورفض اندماج اليهود في المجتمعات الأخرى للتحرّر من معاداة السامية والاضطهاد الذي وقع عليهم في الشتات”.

ولكي يحسم جدل التعريفات للصهيونية عرّفها (الطيّب بوعزة) في بحث دقيق وشامل يفنّد فيه التعاريف السابقة على أنّها “حركة ظهرت في القرن التاسع عشر استجابة لمشكلات أوروبية، وقد استثمرت التراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبي فانتهت إلى إقامة دولة عنصرية في فلسطين، مرتكزة في إقامتها لدولتها هذه على جدلية الإجلاء والتوطين، إجلاء للفلسطينيين أصحاب الأرض وتوطين اليهود بدلاً عنهم” (بوعزة، 2009).

ولكن بناءً على فهمي للعقلية الصهيونية وأبحاثي المعمّقة فيها، يمكنني صياغة تعريف إجرائي للصهيونية أنّها حركة غربية إرهابية إفسادية إحتلالية، علمانية المنشأ ودينية الاتجاه، حيث استغلّت النصوص التوراتية وتعاليم التلمود والأساطير اليهودية الشرقية لإسباغ العقيدة على الدين.

وهي تنتهج الرأسمالية الاستغلالية كمنهج اقتصادي قابض على العالم، وتقوم على فكرة التفوّق اليهودي إزاء عقدة النقص التاريخي، وترى فلسطين نقطة تعضّي وانطلاق للسيطرة على العالم، وتُعادي جميع الشعوب والأديان والحضارات. إنّها بعبارة واحدة إيديولوجيا ضدّ-إنسانية تسعى إلى العلوّ والإفساد وحُكم الأرض.

“عرقٌ هو الأعلى سيقضي على الأعراق الضعيفة، لأنّ الحاجة الحيويّة تسحق الضعيف لإفساح المجال أمام الأقوى… ألا يبدو سخيفًا القول أنّ بالإمكان (جرمنة) صيني أو زنجي بمجرّد تعليمه اللغة الألمانية؟ هذه ستعطي نتائج عكسية، لأنّها تقضي باختلاط الألمان الحقيقيّين بالأجناس الوضيعة…” (هتلر، 1975، الصفحات 62-63).

يشكّل هذا الكلام – الذي أورده هتلر في كتابه “كفاحي” – أساس النازية، حيث يزعم أنّ العرق الآري الجرماني هو أسمى الأعراق، وينظر إلى سائر الاجناس على أنها أعراق أدنى من الآريين، الذين يحقّ لهم قتل واستعباد الشعوب الأخرى والسيطرة على العالم. وهنا يكمن جوهر النازية.

إنّ النازية (Nazism) – لغويًّا – تشكّلت من حروف الإسم المختصر للحزب الاشتراكي الوطني الألماني، (بالألمانية: Nationalsozialismus)، وذلك كرمز لغوي اشتقاقي يُشير إلى هذا الحزب.

ولكن على مستوى المعنى الاصطلاحي “هي أيديولوجيا وممارسات سياسية شمولية يمينية متطرّفة مرتبطة بأدولف هتلر والحزب النازي في فترة ألمانيا النازية”.

فالنازية مذهب فلسفي سياسي واجتماعي وأيديولوجي أحادي الاتجاه، وهي تقوم على منهج “ازدراء الحريّات والديمقراطية الليبرالية والنظام البرلماني. وتشتمل على الديكتاتورية، معاداة السامية، معاداة الشيوعية، معاداة السلافية، عنصرية علمية، سيادة الآريين، نوردية، داروينية اجتماعية واستخدام تحسين النسل”.

إذًا النازية حركة إرهابية تدميرية، تشكّلت كردّ فعل غير عقلاني على هزيمة ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى والظروف الاقتصادية والاجتماعية المذلّة التي فُرضت عليها، وقد استغلّت الدين المسيحي رغم علمانيّتها لجذب المواطنين الألمان، وكذلك تمجيد التاريخ الألماني. وقد ألغت حق الشعوب بالوجود واعتبرتها أدنى من العرق الجرماني، وسعت إلى السيطرة على العالم قتلاً وتدميرًا وتحقيرًا للبشر.

وبنظرة سريعة إلى تعريفات النازية نجدها تتوافق مع تعريف الصهيونية، بل وتنطبق عليها في كثير من النقاط المشتركة. فكلاهما حركتان عنصريتان إرهابيتان، تعتقدان بأنّ الشعوب الأخرى وضيعة وحقيرة ولا تستحقّ الحياة، وهما تقومان على العنصرية والاستعلاء، وتسعيان إلى السيطرة على العالم وفرض إيديولوجيّتهما التسلّطيّة، كما استغلّتا الدين بالرغم من كونهما حركتَين علمانيتين توسّعيتين.

إذا تتبّعنا المسار التاريخي للصهيونية القديمة نجدها قد سبقت النازية بآلاف السنين، حتى الصهيونية الحديثة سبقت النازية بمئات السنين. فقد وردت لفظة “صهيون” لأول مرة في العهد القديم بين 1000 – 960 قبل الميلاد، وقامت حركة المكابيين بين 586 – 538 ق.م التي تلت السبي البابلي لتنادي بعودة اليهود إلى صهيون، وخلال القرن الأول الميلادي بين العامين 118 – 138 برزت حركة  باركوخيا لحثّ اليهود على التجمّع في فلسطين وتأسيس دولتهم اليهودية عليها، بعد ذلك دخل اليهود في حالة سبات تاريخي خلال شتاتهم إلى أن جاءت حركة دافيد روبين وسولومون مولوخ اللذَين سعَيَا إلى دعوة اليهود الأوروبيين للعودة إلى فلسطين وقيام مملكة إسرائيل (البُعد العقائدي)، وفيما بين العامين 1604 – 1657 م قام منشه بن اسرائيل بوضع النواة الأولى للخطط الصهيونية التي ألهمت الحركات الصهيونية التي جاءت بعده، وهو الذي وضع لها أسُسها السياسية مقنعًا البرجوازية الملكية البريطانية بها (البُعد السياسي).

وبين العامين 1626 – 1676م ظهرت حركة سبتاي زيفي الذي أقنع اليهود في أوروبا بالاستعداد للعودة إلى فلسطين مستغلّاً العوامل النفسية والوجدانية (البُعد النفسي)، وبعد موته أتت حركة روتشيلد ومونتفيوري في بداية العام 1750 بقوة مالية ضخمة لتؤسّس الحركة الفكرية الاستعمارية الداعية إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين (البُعد المالي)، وفي سنة 1882 تأسّست الحركة الصهيونية العنيفة بعد مذابح اليهود في روسيا لتمهّد لسلوك الانتقام والثأر اليهودي (البُعد السلوكي)، وبحلول العام 1890م تبلورت حركة أحبّاء صهيون التي قادها ليون بنسكر الذي أسّس “جمعيّة مساعدة الصنّاع والمزارعين اليهود في سوريا وفلسطين” للبدء بالهجرة الاستيطانية وإحياء اللغة العبرية (البُعد الاجتماعي)، وفي العام 1893 بدأ المفكّر الصهيوني الألماني ناثان برنباوم يستخدم مصطلح الصهيونية في كتاباته العلميّة ليكون مرجعًا فكريًّا للصهاينة (البُعد الفكري)، وأخيرًا وليس آخرًا، عقد تيودور هرتزل أول مؤتمر صهيوني عالمي سنة 1897م حيث تقرّر إقامة وطن قومي لليهود والسيطرة على العالم بدءًا من احتلال فلسطين (البُعد العملي).

وهكذا اكتملت عبر هذا المسار الزمني كلّ الأبعاد: العقائدية، السياسية، النفسية، المالية، السلوكية، الاجتماعية، الفكرية، والتطبيقية العمليّة للصهيونية. كلّ ذلك المسار استغرقته الصهيونية ولم يكن الحزب النازي قد وصل إلى حكم ألمانيا بعد.

وقد أردنا من هذا السرد التاريخي السريع أن نثبت أنّ الصهيونية أسبق من النازية بزمن سحيق، بما فيها الصهيونية الحديثة بصورتها النهائية على يد هرتزل.

كما إنّ الأفكار العنصرية والانتقاء العرقي والتفوّق النوعي، والتي هي أفكار النازية، كان قد وضعها سابقًا مفكّرون يهود أمثال: موسى هيس الذي وضع أسُس العنصرية اليهودية في كتابه (روما والقدس) عام 1862 أي قبل النازية بسبعين عامًا، وكذلك مارتن بوبر الذي كتب حول جذور الدم اليهودي.

لقد وضعت ألمانيا النازية قوانينها العنصرية الإلغائية العنيفة استنادًا إلى الأفكار الصهيونية، حيث أكّد القادة النازيون المعتقلون بعد الحرب العالمية الثانية أمام محكمة (نورنبيرغ) أنّهم استمدّوا القوانين النازية من الأفكار الصهيونية. وقد صرّح المنظّر النازي (يوليوس سترايشر) خلال محاكمته أنّ فكرة النقاء العرقي والتفوّق الآري، وخاصة عدم اختلاط الدم الجرماني بدماء الأعراق الأخرى، قد استلهمها من الصهونية واليهودية، حيث قال: “القوانين الصهيونية اليهودية، مثل عدم اختلاط الدم اليهودي بدماء الأغيار، هي التي اتخذناها نموذجًا (لقوانين نورنبيرغ).

إنّه أصل اليهودية التي استطاعت بفضل قوانينها العرقية أن تستمر طوال قرون”. وقد أكّد كلام المنظر النازي (سترايشر) القاضي الصهيوني (حاييم كوهين)، الذي كان رئيسًا لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية، فقال: “إنّ سخرية القدر أرادت أن تكون الطروحات العرقية والبيولوجية التي يتبناها النازيون، وكانت وراء قوانين نورنبيرغ، هي نفسها التي يُبنى عليها تحديد صفة اليهودية في إسرائيل”.

كما إنّ فكرة التفوّق اليهودي كانت سابقة بعصور سحيقة لفكرة التفوق النازي، حيث ” يقول المفكرون الصهاينة أنّ الحاجة إلى إقامة وطن قومي يهودي قديمة، ظهرت بعد الأسر البابلي على يد نبوخذ نصر، وكذلك اعتقاد المتدينين اليهود أن أرض الميعاد (التسمية اليهودية لأرض فلسطين) قد وهبها الله لبني إسرائيل فهذه الهبة أبدية ولا رجعة فيها” (ساند، 2013، صفحة 181).

إذًا، الصهيونية لها الأسبقية على النازية، بل وكانت مُلهمة للنازيين في تأسيس النسق النازي وفي التفكير والتطبيق.

كتب أبراهام بورغ أنّ “إسرائيل شبيهة بألمانيا عشية صعود النازية إلى الحكم، بحيث كان الشعب الألماني ناقمًا على العالم. وفي إسرائيل هناك شعور بالإهانة القومية الكبرى والهزيمة غير المبررة في الحروب، ونتيجة لذلك أصبحت العسكرة مركزية في الهوية”.

وفي كتابه “لننتصر على هتلر” يتحدّث بورغ عن أنّ إسرائيل لم تنتصر على النازية بسبب سلوكها العنيف مع الفلسطينيين، بل تشبّهت بها وصارت تمارس جرائم الحرب والإبادة والعنصرية والنزعة العرقية الإسرائيلية، حيث يُضيف: “إنّ إسرائيل دولة عسكرية، وهي تتدهور في اتجاه الفاشية، وما تنفّذه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية هو جرائم حرب” (بورغ، 2006، صفحة 31).

إذًا هذا المفكّر الإسرائيلي التمسَ خطر العدوانية الصهيونية، وحذّر من أنّها ستحمل نهاية إسرائيل تمامًا كما انتهت النازية بسبب أفعالها العدوانية. وتجدر الإشارة إلى أنّ كتابه يهدف إلى الابتعاد عن عسكرة المجتمع الإسرائيلي والقتل والمجازر وليس تشبيه الصهيونية بالنازية، لكنّنا نستنتج من كتابه تشابهًا عميقًا بينهما.

وأكّد فيلسوف النازية الفريد روزنبيرغ في كتابه “محاكمة اليهود في العصور المتغيرة”، على القواسم المشتركة بين النازية والصهيونية، حيث تأثرت – كما النازية – بفلسفة القوة النتشوية والأفكار اللاعقلانية العنصرية والعضوية والعرقية التي تصاعدت في أوروبا إبّان ظهور الفاشية كمذهب فلسفي وسياسي، أضف إلى ذلك أنّ الصهيونية تؤمن بنقاء العرق والدم اليهوديّين، علمًا أنّ اليهود لا يشكّلون عرقًا واحدًا متجانسًا.

ومن خلال الاطلاع على نشأة وسيرورة النازية والصهيونية، نكتشف الكثير من النقاط المشتركة.

النازيةالصهيونية
حركة أوروبية غربية توسّعيةحركة أوروبية غربية إحتلالية
تأثرت بالفاشية والداروينية والتاريخ الآري السلافيتأثرت بالفاشية والبوبرية والتاريخ اليهودي
وضعت العنصر الآري في رأس التسلسل الهرمياعتبرت الإسرائيلي أعلى البشر؛ الشعب المختار
نادت بعدم اندماج الألمان مع باقي الشعوبركّزت على عدم اندماج اليهود مع الغوييم (الأغيار)
أرادت تجميع الألمان المنتشرين في دولة واحدةقامت بتجميع اليهود في أرض فلسطين (الميعاد)
أقرّت بالمجال الحيوي التوسّعي لتحقيق القوةالمجال الحيوي التوسّعي (إسرائيل الكبرى)
حدود ألمانيا يقرّرها الجيش الألماني (الفيرماخت)حدود إسرائيل يقرّرها الجيش الإسرائيلي
رايخ الألف عام، دولة عالمية إسمها جرمانيا العظمىدولة عالمية هي إسرائيل العظمى تحكم العالم
منظّمة عالمية ألمانية لجمع الآريين (أوسلاندويتسن)منظّمة عالمية صهيونية لتجميع اليهود (الديسابورا)
تشكّلت كردّ فعل انتقامي على عقدة الضعف والذلّتشكّلت كردّ فعل تعويضي لعقدة النقص والاضطهاد
نادت بنقاء الدم والعرق الألماني والتفوّق الآرينادت بنقاء الدم والعرق اليهودي والتفوّق النوعي
تنظر إلى باقي الأعراق أنهم حيوانات وضيعةتعتبر الآخرين (الغوييم) حيوانات وعبيدًا
دولة ألمانيّة مقدّسة مرجعيّة لكلّ آريّي العالمدولة صهيونية مقدّسة مرجعية لكلّ يهود العالم
قوانين سلاليّة لإثبات الانتماء الآريقوانين سلاليّة لإثبات الانتماء اليهودي
منهج الإرهاب والتدمير والاعتقال والاحتلالمنهج الإرهاب والقتل والإبادة والاعتقال والاستيطان

وهناك مسارات أخرى تتطابق بها الصهيونية مع النازية، حيث إنّ النظام النازي قام بفعل الميلشيات الإرهابية مثل: كتيبة العاصفة (SA)، ومنظّمة الخوذات الفولاذية، قوات الأمن الخاصة النازية (SS)، وقوات الصدمة، حيث قامت بترويع الناس وتصفية كل معارضي هتلر، ثمّ تشكّلت جميعها فيما بعد بجسم الجيش الألماني وبدأت باجتياح الدول المتاخمة لألمانية وتسبّبت بالحرب العالمية الثانية. وعلى نفس المنوال قام الإسرائيليون بإنشاء العصابات الصهيونية الإرهابية مثل: هاغانا، أرغون، شتيرن، بيتار، بلماح. حيث ارتكبت المجازر بحق الفلسطينيين، وبعدها “تشكّل الجيش الإسرائيلي من اتحاد هذه المجموعات المسلّحة، قبل اثني عشر يومًا من إعلان قيام دولة إسرائيل” (أوستفلد، 1994، صفحة 104)

إنّ الصليب النازي المعقوف والنجمة الإسرائيلية تمّ اختيارهما بالطريقة نفسها، فهما رمزان وثنيّان قديمان، ولكن مع استخدامهما في النازية والصهيونية أخذا معاني عنصرية وقومية وإرهابية.

“فالصليب النازي المعقوف يعبّر عن العدوانية المداورة وكسر المألوف”، وكذلك “يرمز إلى الانحراف الدموي الاجتماعي والشذوذ الحضاري، والإتنية العنصرية للعرق الآري. أمّا مساره المروحي الدائري فيرمز إلى التوسّع والسيطرة” .

وشكل النجمة الإسرائيلية هو الأقرب إلى شكل الصليب النازي المعقوف، من حيث تداخل الخطوط وحركة المسار الدائري الموارب، وتداخل مقاطع الرسم. فالشكل المداور والموارب في النجمة الإسرائيلية يعبّر عن الانحراف التاريخي والشذوذ الحضاري والثقافي لشعب إسرائيل.

أما تداخل الخطوط فيمثّل العدوانية الصارخة والنزعة العنفية. والشكل المروحي يدلّ على السيطرة والتوسّع. كما إنّ التمركز المحوري للنجمة يدلّ على الإتنية العضوية لعنصرية إسرائيل الصهيونية.

فالنجمة التي يتّخذها الصهاينة شعارًا لهم “مجن دود” لا علاقة لها بالنبي داوود، حيث يجمع الباحثون والمؤرخون على أنّ نجمة داوود المزعومة لا أصل تاريخي لها، وهي غامضة المنشأ، إذ لم يجدوا علاقة منطقية توضح ارتباطها بعقائد اليهود.

كما اكتشف علماء الأركيولوجيا هذه النجمة منقوشة ومنحوتة داخل أهرامات الفراعنة، حيث تعود إلى استخدامات السحر عندهم. كما إنّ النجمة العشتارية عند البابليين كانت رمزًا للخصب والحياة، وأخذها اليهود عنهم بعد السبي البابلي وأضافو عليها بعض التعديلات. (أنظر كتابنا “زلزال في أرض الميعاد” والمستخدم ضمن فئة المراجع).

لقد خلقت الصهيونية المُلحدة الكيان الإسرائيلي من خلال الدين، أي أنّها استغلّت الدين اليهودي والنصوص التواراتية والتلمودية المزعومة لتوظيفها في مشروعها الاستعماري.

“إنّها عقيدة قومية، لم تولد من اليهودية بل من القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر” (غارودي، 1996، صفحة 18).

كما إنّ مؤسّس الصهيونية (تيودور هرتزل) لم يكن مؤمنًا باليهودية، حيث قال: “إنّني لا أنقاد لدافع ديني، فأنا لستُ غنوصيًّا”أي أنّه ملحد.

لذلك كان راضيًا أن تقوم الدولة الصهيونية في أوغندا أو قبرص أو الأرجنتين أو موزمبيق أو الكونغو، لتحقيق أهدافه القومية. ولكن لم تلقَ فكرته رواجًا بين يهود أوروبا، بل قوبلت باعتراضات الحاخامات والمؤمنون اليهود الذين لم تغريهم تلك الدول ليقيموا على إحداها وطنهم، لذلك التفّ هرتزل على الفكرة وأعطاها طابعًا دينيًّا ليجذب يهود العالم إلى مشروعه على مبدأ: “إنّ فلسطين هي وطننا التاريخي الذي لا يُنسى، وإنّ هذا الإسم وحده سيظلّ صيحة لمّ الشمل القوية لشعبنا” (هرتزل، الدولة اليهودية، 2016، صفحة 25). وهكذا نشأت الدولة اليهودية من تزاوج عقيدة الحاخامات والمؤمنين بأرض الميعاد مع الفكر الإلحادي المادي للمنظّرين السياسيين الصهاينة.

يقول المفكّر روجيه غارودي : “لقد كرّست الصهيونية تاريخ الهرطقة، وهو تاريخ يكمن في جعل الدين أداة للسياسة بإضفاء القداسة عليها عن طريق قراءة حرفية وانتقائية للكلام المنزّل”.

فنحن نفهم من كتابه ” الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” أنّها سياسة ذرائعية، تجعل من الأساطير والميتولوجيات العقائدية ذرائع تبرّر ممارساتها وتنجز أهدافها.

هذه السياسة تنفذها نخبة قيادية عند الإسرائيليين، معتمدة على حجج ودوافع أسطورية إيديولوجية تدغدغ آمال وأحلام الجماعات اليهودية لتكون مؤيّدة لتلك السياسات، فتتم عملية استدراجه وفق مخططات سياسية على خلفيات دينية وأسطورية ليتعبّأ عقائديًّا واجتماعيًّا وذهنيًّا وسياسيًّا نحو غاية واحدة هي تحقيق حلم “الأرض الموعودة للشعب المختار”.

هذا صحيح من حيث الشكل، ولكني أخالف (غارودي) هنا معتبرًا أنّ علاقة السياسة الإسرائيلية بالأساطير اليهودية ليست علاقة ذرائعية فحسب، بل هي علاقة نمطية طبائعية غرائزية وجبرية، خاصة متى ما كنّا بصدد إدراك أثر الحاثات الغريزية الأولية اللاواعية في هذه السياسة.

 فأرض الميعاد وفق العقيدة الصهيونية واليهودية هي أرض اللبن والعسل، وهنا يتمّ التلاعب بالغريزة الحشوية ومبدأ اللذة. كما تمّ تصويرها على أنّها أرض الأمان مما يعني أنّها ستكون ملاذًا لليهود اللذين يعيشون حالة من القلق الوجودي في الشتات، كما جرى توصيفها بأنّها ستكون رمز قوة وبقاء واتحاد الشعب اليهودي ليكّون وحدة عضوية، وبالتالي تكون آلية تعويض نفسي عن عقدة النقص التاريخي والاضطهاد.

إذًا، “هي علاقة سببية أيضًا، علاقة علّة بمعلول، وعلاقة تبادلية متسلسلة وأثرية، وهي علاقة غرائزية نفسية تقوم على توظيف الطاقة الحيوية لليهود في إقليم جغرافي مقدّس، مما يعني إسباغ العقيدة على السياسة، وكذلك إضفاء الغرائز الحيوية عليها”.

إنّ أبا المفكرين الصهاينة “آحاد هعام”، الذي تبنّى وجهات نظر علمانية، كانت العقيدة اليهودية تحرّك فكره رغمًا عنه، والغرائز تسم نظرياته بميسمها. لقد تأثّر “آحاد هعام” بفلسفة لوك وهربرت سبنسر والنظرية الداروينية، وكان التأثير الأعمق متعلّق بنيتشه. فقدّم نظرية “السوبرأمة”، “الأمّة الخارقة” أو “الأمة المتفوّقة” القائمة على القوّة والإرادة، ونزع نحو العلمانية ونبذ الدين.

 لكنني أرى بجلاء ووضوح أنّ “آحاد هعام” كان أكثر المتأثرين بالإيديولوجية الدينية التوراتية، وأنّ أفكاره ونظرياته ليست سوى محاكاة لعلمانية الفلاسفة السابقي الذكر، دون أن يكون هو علمانيًّا خالصًا، لأنّ اليهودي التلمودي الأسطوري لا زال يعيش في أعماقه ويحرّك فكره. إنّه صهيوني تلمودي عقائدي متنكّر بزيّ العلمانية. وسأقدّم أدلّتي على ذلك.

إنّ نظرية “هعام” حول الأمة الخارقة المتفوّقة، والتي تقتضي إرساء العضوية الإتنية للشعب اليهودي، ما هي إلا عقيدة الشعب المختار، ولكن بوجه فلسفي معاصر. كما إنّ حديثه حول “الذات القومية” ما هو إلا تعبير عن الوحدة الدينية المنغلقة التي كانت تجمع اليهود على اختلاف مشاربهم، وتجعلهم يشكّلون جماعة دينية منعزلة في المجتمعات التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها.

وقد نادى “هعام” بالفكر القومي العضوي أو الوعي الإتني لليهود الذي يجب أن يعمّق الفوارق والفواصل بينهم وبين الشعوب الأخرى. وهذا دليل لا لبس فيه على الغرائز العدوانية والتفكير العنصري لديه. وفوق كل ذلك دعى “هعام” – صاحب الفكر العلماني – إلى تأسيس دولة يهودية في فلسطين كمركز عضوي للفولك (أي الشعب الإتني) لتأكيد الهوية اليهودية. أليست دعوة “هعام” هذه، هي عودة إلى أرض الميعاد؟! هل مصادفة أن يسمّيه “آرثر هرتزبرج” حاخام اللاأدري، لولا التماسه للمحرّكات الدينية في فكر “هعام”؟!

إذًا استغلّت الصهيونية الدين اليهودي لشحن قضية احتلال فلسطين بالعقيدة والعاطفة الدينية، وكذلك استفاد رجال الدين اليهودي من النزعة القومية العنصرية للصهيونية المُلحدة، وهذه العلاقة التبادلية الترابطية بينهما أنشأت دولة إيديولوجية هجينة، يُمكننا وصفها بالقومية الدينية، فالقومية تقوم على روابط الدم والعرق المشترك، لكنّ اليهود ليس لديهم عرق واحد ولا دم نقي، فهم ينتمون إلى أعراق وأجناس متعدّدة، إذا ليس هناك رابط وراثي جنوسي بين يهود الخزر واليهود الأوروبيين ويهود الفلاشة الأفارقة واليهود العرب.

لذلك لا يوجد شيء اسمه القومية اليهودية، إنّها عصبة دينية عنصرية تدّعي صفاء الدم اليهودي، وبذلك إذا سلّمنا باستخدام مصطلح القومية اليهودية فهي تقوم على أساس العقيدة المنغلقة وليس على أساس الدم أو العرق، مهما حاولت الصهيونية إثبات وجود صفاء الدم ونقاء العرق اليهودي.

أضف إلى ذلك الآليات النفسية واللعب على الغرائز اليهودية، التي ساهمت في تكوين جماعة واحدة من جماعات مختلفة، وجذبت يهود العالم من الشتات عبر توظيف الطاقة الحيوية للشعب اليهودي بموضوع نفسي يتمثل بفهوم أرض الميعاد.

إنّ الدراسة النفسية للصهيونية تحتاج إلى بحث طويل ومفصّل، ليس هذا مجالها الآن. ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ النازية تصرّفت على غرار الصهيونية، من خلال استغلال الدين لتوظيفه في المشروع النازي.

وعلى الرغم من المادية الإلحادية للقيادة النازية التي آمنت بالداروينية والنتشوية فقد استخدمت المفاهيم الدينية لنشر أفكار النازية وتوحيد الشعب الألماني حولها، حيث روّجت الدعاية النازية أنّ هتلر عندما كان يعيش في طفولته داخل الدير جاء إليه وحي يخبره أنّ القدر اختاره لإنقاذ ألمانيا، وأنّ المسيح أوحى إليه بشعار الصليب المعقوف، لذلك لم تنشأ حركة دينية كنسية ضدّ النازية في ألمانيا، بل دعمت الكنائس الألمانية مشروعه القومي العرقي.

كما استغلّت النازية الشعارات الدينية الإسلامية لكسب المسلمين والعرب في حروبها. وكذلك فعلت الصهيونية، فهي لم تستغلّ الدين اليهودي فحسب، بل استغلت الدين المسيحي وأسّست لإنشاء الصهيونية المسيحية، وكذلك الصهيونية الإسلاموية، مما جعل الكثير من الحكومات المسيحية والإسلامية حليفة لها.

إنّ النخب اليهودية – من زعماء الحركة الصهيونية أو مؤسسي الدولة اليهودية والقيادات السياسية المتعاقبة في إسرائيل – لم يجعلوا من الأساطير والمبتدعات الدينية لديهم ذرائع وبواعث ليسوسوا الشعب ويخدعوه من أجل تحقيق أهدافهم ومآربهم.

بل هم أنفسهم مؤمنون بتلك المفاهيم ومعتقدون بها أشدّ الاعتقاد، هنا جوهر المفارقة، حيث إنّ “يتودور هرتزل” الأب الروحي والمؤسِّس للصهيونية العالمية بدأ حياته أديبًا وصحفيًّا علمانيًّا يدعو اليهود إلى العلمنة ونبذ الأساطير، لكنه سرعان ما نكص على عقبيه وصار من أشدّ المحرّكين للعقائد والغرائز اليهودية. فقد أنشأ “حركة سياسية استعمارية أسبغت على اليهود صفة القومية والانتماء العرقي، ونادت بحل ما أسمته المشكلة اليهودية، وعارضت اندماج اليهود في أوطانهم الأصلية، ودفعتهم للهجرة إلى فلسطين زاعمة أنّ لهم فيها حقوقًا تاريخية ودينية”.

هذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على مدى عمق وفعالية المحرّك الإيديولوجي، الذي تحييه وتشحذه الغرائز الأصلية والعقيدة الدينية في اللاوعي الجمعي لليهود وذاكرتهم التاريخية، حيث عاشوا عقدة الاضطهاد والنقص، وتكوّنت في وعيهم الجماعي الرغبة بالانتقام من كل الشعوب.

“منذ التاريخ السحيق والعالم يسيء فهمنا. فعاطفة التضامن التي كثيرًا ما نالنا التأنيب بسببها كانت آخذة في التحلل في نفس الوقت الذي تعرّضنا فيه للعداء للسامية.

ولقد ساعد العداء للسامية على تقويتها من جديد، وعدنا إلى بيتنا (الغيتو) لأن الصهيونية هي العودة إلى الحياة اليهودية قبل أن تكون عودة إلى الأرض اليهودية. إنّنا نحن الأبناء الذين عدنا، نجد الكثير الذي ينبغي تقويمه تحت سقف أجدادنا، لأن كثيرًا من أخوتنا قد انحدروا إلى قاع البؤس والشقاء”.

هذا مقطع من خطاب سياسي متكامل لهرتزل، حيث اعتُبِر اللبنة الأولى والأساسية لتأسيس الدولة اليهودية. لقد بات بإمكاننا أن نستدلّ على المحتوى الاجتماعي والطابع التاريخي والإطار الثقافي والاتجاه السياسي والمنحى العقائدي في هذه الفقرة. ولكن يبقى المضمون الغرائزي النفسي الكامن عصيًّا على الاستدلال والملاحظة، مما يستدعي البحث خلف تلك الأفكار وتحليل رمزيتها ودلالاتها النفسية.

إنّ المحتوى الإجتماعي لهذه الفقرة من خطاب هرتزل يتجلّى في “عاطفة التضامن” التي تحدّث عنها، فهي تعكس طبيعة هذا الشعب الذي لم يتلاءم مع الشعوب الأخرى وظلّ يحلم بالتئام شمله لكونه الشعب المختار، وكذلك يتجلّى الجانب الاجتماعي في مفردات “التأنيب والعداء” الذي تعرّض له اليهود في بلاد الشتات مما يعكس عدم الاستقرار والقلق الوجودي.

أما الطابع التاريخي فيتمظهر في كلمات مثل “التاريخ السحيق والعودة إلى الأرض وسقف الأجداد” وهذا واضح وبيّن.

في حين نرى الإطار الثقافي يبدو جليًّا في عبارات من قبيل “عداء السامية، الغيتو، نحن الأبناء وإخوتنا”، مما يدلّ على ثقافة هذا الشعب أو جانب منها كأفكارهم حول مفهوم السامية وتسمية أنفسهم بالأبناء لأجداد عظام تكفل لهم الأخوية العنصرية داخل الشعب المختار.

بيد أنّ الاتجاه السياسي في هذا المقطع الخطابي يتمثل بمشروع “العودة إلى أرض الميعاد” وتأسيس الدولة وبنائها، وكذلك في فكرة شعب الجيتو.

إضافة إلى المنحى العقائدي الذي يتجسّد في كلمات مثل “الصهيونية، الأرض اليهودية، عودة إلى الأرض وسقف أجدادنا” فالصهيونية منسوبة إلى جبل صهيون المقدس في أورشليم والأرض اليهودية هي أرض الميعاد كمعتقد ديني، والعودة إليها هي وعد الإله يهوا لشعبه المختار.

كما إنّ نعت الدولة باليهودية (نسبة إلى الديانة اليهودية) وتسميتها دولة إسرائيل (تيمّنا بنبيهم) ووضع النجمة في وسط العلم (نجمة داوود المزعومة)، كلّها أمور تدلّ على مدى تأثير العامل العقائدي في نشأة هذه الدولة. إنّ هذه المسائل جليّة نتفق عليها دون مناقشة أو جدال أو تساؤلات، لكن المضمون الغرائزي الكامن فيها ليس ظاهرًا، بل مستترًا ويستدعي جهدًا لاكتشافه.

في حقيقة الأمر، ترسم الفقرة السابقة من خطاب هرتزل لوحة نفسية رمزية لليهود، بخطوط وخلفيات غرائزية خبيئة وخفيّة مما يتطلب تفكيك الرموز وإعادة تجميعها من جديد بما يتوافق مع دينامية العمل النفسي، وتحليل دلالاتها وأبعادها وإدراك الرابط بينها وبين الغرائز اليهودية.

إنّ تعبير “التاريخ السحيق” المستخدم في الخطاب ينطوي على رمز جوّاني عميق له علاقة بالذاكرة السلالية لليهود، وتحديدًا لاوعيهم الجمعي. وعبارة “عاطفة التضامن” تحوي غريزة التجمع والاتحاد، وتدلّ على الهوامات المحركة لهذا الشعب لكي تتساوق دوافعه وينخرط في مجتمع موحّد يمثل الجماعة الهوامية الأمومية التجريدية الرمزية.

كما إنّ جُمَل مثل “العالم يسيء فهمنا والتأنيب والعداء للسامية” تشير إلى عقدة الاضطهاد لدى اليهود والحاجة إلى الاعتبار وتحقيق الذات الجماعية، وكذلك تشير إلى تبرير ذرائعي لإطلاق مركّبات الغريزة العدوانية لديهم.

“وعدنا إلى بيتنا” هذه الكلمات التي وصف بها هرتزل الجيتو اليهودي، لهي خير معبّر عن حاجات الأمن والاستقرار. كما إن استخدامه للفظ “بيتنا” تنسجم مع تفسيري الاجتماعي لليهود باعتبار أنفسهم عائلة الإله يهوا (الشعب المختار). فالبيت والجيتو والأرض اليهودية كلها مفردات تتعلق بالأزمة الموقفية من مفهوم الأمومية الميتافيزيقية (أرض الميعاد)، أما تعبيره “الحياة اليهودية” فهو تعبير حيوي يحمل في طيّاته إشارة إلى الدينامية النفسية والحياة الغرائزية لليهود.

ونجد عبارات من قبيل “الأرض اليهودية، نحن الأبناء، سقف الأجداد، أخوتنا، بيتنا” تخطط ملامح الغريزة الجنسية لليهود بمعناها السلالي التكاثري، أي الغريزة النسلية التي تصبّ في غريزة البقاء واستمرار هذا الشعب وديمومته. ولا يعوزنا دليل أو تفسير هنا لفهم الارتباط الغرائزي بين اليهود و “الأرض اليهودية”، قصداً من هرتزل أرض الميعاد.

وهكذا فكّكنا محتويات هذه الفقرة الخطابية لهرتزل، وكشفنا دلالات رموزها التعبيرية، وأوّلناها وربطناها بمنشئها الغرائزي. يبقى علينا الآونة أن نعيد صياغتها ضمن ترجمتها إلى لغة نفسية، فتصير كما يلي: “في أعماق الذاكرة السلالية للاوعينا الجمعي نحمل ذكرى ومشاعر الاضطهاد والنبذ من قبل العالم. فغريزة التجمع لشعبنا المختار التي كثيرًا ما نالنا بسببها عدوانية الشعوب الأخرى، كانت آخذة في التحلل والضعف في نفس الوقت الذي تعرّضنا فيه للتمييز العنصري الديني والعرقي.

هذا العداء للسامية قوّى غريزة التجمع لدينا وفعّل فينا حاجات الأمن الوجودي والاستقرار وتحقيق ذاتنا المختارة وإعادة الاعتبار الحضاري لنا.

لقد انطلقت غرائزنا التدميرية والعدوانية لنحقق الثأر الوجودي والانتقام الإيديولوجي من الشعوب الأخرى. ستدفعنا غريزة البقاء والحياة (إيروس) – إنطلاقًا من دينامية حياتنا النفسية – إلى أرضنا الأم حيث الحضن الوجودي الذي سيضم شعبنا المختار بعد شتاته.

إنّ غريزتنا الإنسالية ستؤمّن لجنسنا التمايز والتفوّق على الآخرين، لذا سنعود إلى أرض الميعاد (الأم) التي وهبها لنا يهوا (الأب الميتافيزيقي الأكبر)، مدفوعين بمبدأ البحث عن اللذة ومبدأ تجنّب الألم. مما يكفل لنا تفعيل نزواتنا التسلطية والعدوانية وميولنا نحو السيطرة والاستعلاء لنعوّض نقصنا التاريخي”.

هذه هي الترجمة النفسية للفقرة الخطابية لهرتزل، فالغرائز النفسية الصهيونية هي المادة الكامنة الخفية والمستترة خلف التركيب العقلي للخطاب السياسي، والتي تترمّز بألفاظ ومفردات لغوية وأفكار وعقائد، إلّا أنّ السيرورات الغرائزية حاضرة في هذا الفكر السياسي.

وتجدر الإشارة إلى الدوافع والآليات النفسية المحرّكة للصهيونية تتشابه مع مثيلاتها في النازية، حيث أنّها قامت على نزعات غرائزية تدميرية عدوانية، وقامت على الانتقام وإلغاء الآخرين وعقدة التفوّق.

هناك تشابه وتقاطع–بل وتطابق أحيانًا- بين الصهيونية والنازية، إلّا أنّ الصهيونية تجاوزت النازية بأشواط في ارتكاب الجرائم والإرهاب.

فالنازية انحسرت ولم تقم بتغريب وإبادة شعب لتنسب أرضه إليها كما فعلت الصهيونية، كما إنّ الجرائم الفظيعة التي تميّز بها الإرهاب الصهيوني تشكّل حالة فريدة في تاريخ الإرهاب والقتل.

فالجغرافيات المغتصبة في فلسطين المحتلة (المستوطنات) يقوم بنيانها على مقابر جماعية بحق أصحاب الأرض الفلسطينيّين، فمنذ العام 1948 ارتكبت العصابات الصهيونية أبشع المجازر من تهجير وقتل وتعذيب واغتصاب النساء وسفك دماء الأطفال وسرقة المنازل والممتلكات الفلسطينية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تفنّن الصهيانة بوسائل قتل أهالي قرية “الطنطورة” ودفنوهم في مقبرة جماعية، وأنشأوا فوق جثامينهم موقفًا سياحيًّا. كما ارتكب الصهاينة الفظائع في “دير ياسين” حيث كان يأتون بالنساء الحوامل ويتراهنون على جنس الأجنّة، ثمّ بقرون بطونهنّ وهنّ على قيد الحياة ليروا جنس الجنين، إضافة إلى آلاف الاعتداءات والمجازر على الفلسطينيّين واللبنانيّين والسوريّين والمصريّين. وهم لا يزالون حتى اليوم يمارسون العدوان والقتل والاعتقال والإبادة الجماعية.

إذًا، نحن أمام منهج صهيوني عقائدي يمتلك إيديولوجيا خطيرة على النظام الإنساني عامة، شعب هجين يُفسد في الأرض، ويحرّك الحروب والفتن على امتداد هذا العالم ليغذي غرائزه العدوانية التدميرية، ويحقّق أهدافه الوجودية على دماء الآخرين.

من هنا تغدو الغرائز الركيزة اللاشعورية والميلاك اللاواعي للسياسة الإسرائيلية، تلك التي أفرزت أشكالاً مفزعة من الصراعات داخل منطقة الشرق الأوسط. وقد جاء محور المقاومة ليفرض معادلات جديدة على هذا الكيان الغرائزي، فتحوّل الصراع السياسي بينه وبين والصهاينة إلى صراع بين الاتجاهات الإنسانية البنّاءة للمقاومين والغرائز البشرية الهدّامة للصهاينة. وكذلك احتدم النزاع الديني والحضاري والتاريخي والاجتماعي والنفسي والثقافي بينهما.

وختامًا نستنتج أنّ الصهيونية مثلما اشتركت مع النازية بالنشأة والفكر والسلوك، فإنّها ستشترك معها بالزوال والفناء والاندثار، لأنّها حركة غير عقلانية، حركة معاكسة لمسار التاريخ وقوانين الطبيعة.

إنّ الجماعة اليهودية “تحافظ على وجودها كوحدة إجتماعية عبادية وإيديولوجية حصرية، يعسر عليها عندئذٍ السير في طريق التطور، وتنزع إلى الاحتماء بظلّ نزعة قومية مسرفة ولكن عاجزة في الوقت نفسه، بحكم طابعها الطائفي الديني البدائي بالذات”.

واليوم يعاني المجتمع الصهيوني من حالة اللايقين، حيث أدّى فعل المقاومة إلى فكّ الارتباط بين الطاقة الحيوية للجماعة اليهودية مع الإقليم العقائدي أرض الميعاد، التي فقدت طابعها المقدّس الإيماني، بسبب تحوّلها إلى أرض غير آمنة، وبذلك تفجّر الذعر الوجودي لدى الصهاينة، وباتوا يعيشون حالة من القلق الوجودي. إنّ الوضع النفسي ليهود إسرائيل صار شبيهًا بحالتهم النفسية إبّان السبي البابلي، وبذلك سيجدون العودة إلى بلاد الشتات في أوروبا حلاً وجوديًّا نهائيًّا لمأزمهم الوجودي.


المصدر: مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير – Ufeed

By Zouhour Mechergui

Journaliste