إعداد قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية-تونس 02-11-2023
في الثاني من نوفمبر 1917 صدر وعد بلفور المشؤوم، الذي منحت بموجبه بريطانيا حقًا لليهود في تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين، بناءً على المقولة المزيفة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض“.
بهذا الوعد تحققت العبارة الشهيرة التي تلخص حالة من هذا القبيل: “لقد أعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق”، وليكون ذلك اليوم يوماً أسود في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل في تاريخ البشرية كلها، وضربة للعدالة والشرعية الدولية.
وكان هذا الوعد بمثابة الخطوة الفعلية الأولى للغرب على طريق إقامة كيان لليهود على أرض فلسطين استجابة لرغبات الصهيونية العالمية على حساب شعب أصيل متجذر في هذه الأرض منذ آلاف السنين.
وجاء الوعد على شكل تصريح موجه من قبل وزير خارجية بريطانيا آنذاك “آرثر جيمس بلفور” في حكومة “ديفيد لويد جورج” في الثاني من نوفمبر من عام 1917م إلى اللورد روتشيلد “أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية” وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى، واستطاع من خلالها الصهاينة إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهداف بريطانيا، والحفاظ على مصالحها في المنطقة، وهذا ترجمة نصّه:
النص لوعد بلفور مترجم
وزارة الخارجية2نوفمبر 1917م
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر بلفور
وكانت الحكومة البريطانية قد عرضت نص تصريح بلفور على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسمياً وعلنياً سنة 1919؛ وكذلك اليابان.
وفي25 أفريل سنة 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر “سان ريمو” على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الانتداب، وفي 24 جويلية من عام 1922م وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الانتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29 سبتمبر من عام 1923، وبذلك يمكننا القول: إن وعد بلفور كان وعداً غربياً وليس بريطانياً فحسب.
في المقابل اختلفت ردود أفعال العرب تجاه التصريح بين الدهشة، والاستنكار، والغضب. وبهدف إمتصاص حالة السخط والغضب التي قابل العرب بها وعد بلفور؛ أرسلت بريطانيا رسالة إلى الشريف حسين، بواسطة “الكولونيل باست” تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب من الناحيتين الاقتصادية والسياسية؛ ولكنها في الوقت نفسه أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، بأن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة “حاييم وايزمن” خليفة هرتزل، كما عملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمة لهم.
أما الشعب الفلسطيني فلم يستسلم للوعود والقرارات البريطانية والوقائع العملية التي بدأت تفرضها على الأرض الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة، بل خاض ثورات متلاحقة، كان أولها ثورة البراق عام 1929، ثم تلتها ثورة 1936.
من جهتها إتخذت الحركة الصهيونية العالمية وقادتها من هذا الوعد مستنداً قانونياً لتدعم به مطالبها المتمثلة في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وتحقيقاً لحلم اليهود بالحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي لهم، يجمع شتاتهم بما ينسجم وتوجهات الحركة الصهيونية بعد إنتقالها من مرحلة التنظير لأفكارها إلى حيز التنفيذ في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897، والذي أقرّ البرنامج الصهيوني، وأكد على أن الصهيونية تكافح من أجل إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين.
وعلى الرغم من ظهور معارضة شديدة لهذا التوجه من قبل اليهود الليبراليين الذين استطاعوا الإندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها، ورأوا في هذا التوجه دليلاً قد يتخذه ما يسمى بأعداء السامية على غربة اليهود، وعدم قدرتهم على الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها- إلا أن هذه المعارضة لم يكن لها أي تأثير على توجه الحركة الصهيونية العام.
وتبدو الإشارة إلى وعد بلفور في نص وثيقة الاستقلال المعلنة مع قيام دولة إسرائيل، دليلًا على أهمية هذا الوعد بالنسبة لليهود، حيث نقرأ في هذه الوثيقة: “الانبعاث القومي في بلد إعترف به وعد بلفور…”
لقد تمكن اليهود من استغلال تلك القصاصة الصادرة عن “آرثر بلفور” المعروف بقربه من الحركة الصهيونية، ومن ثم صك الانتداب، وقرار الجمعية العامة عام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين، ليحققوا حلمهم بإقامة إسرائيل في الخامس عشر من ماي من عام 1948، وليحظى هذا الكيان بعضوية الأمم المتحدة بضغط الدول الكبرى، ولتصبح إسرائيل أول دولة في تاريخ النظام السياسي العالمي التي تنشأ على أرض الغير، وتلقى مساندة دولية جعلتها تغطرس في المنطقة، وتتوسع وتبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وتبطش بمن تبقى من الشعب الفلسطيني على أرضه دون رحمة .
ولعل الدوافع والأسباب التي قادت بريطانيا إلى تبني وإصدار هذا الوعد كثيرة، تقف في مقدمتها، حسب رأي السياسيين والمؤرخين، تلاقي المصالح الاستعمارية وتقاطعها مع الحركة الصهيونية انطلاقاً من القيمة الإستراتيجية لفلسطين باعتبارها بوابة العبور إلى آسيا.
وفي هذا الإطار وصف تيودور هرتزل دور الدولة اليهودية في فلسطين بقوله: “سنكون بالنسبة إلى أوروبا، جزءاً من حائط يحميها من آسيا، وسنكون بمثابة حارس يقف في الطليعة ضد البربرية”.
وهناك دوافع وأسباب أخرى، منها:
رغبة بريطانيا في كسب تأييد يهود العالم لها أثناء الحرب العالمية الأولى، ولتقليص موجات الهجرة اليهودية نحو أوروبا وتحويلها باتجاه فلسطين، لما تحمله هذه الهجرات من أعباء وتبعات تضر ببريطانيا ودول أوروبا الأخرى بشكل عام.
أما بلفور نفسه فبرّر إصدار الوعد انطلاقاً من دوافع إنسانية، في حين رأت فيه مصادر إسرائيلية تاريخية مكافأة للباحث “حاييم وايزمن” لخدمته بريطانيا باكتشافات علمية خدمت الأنشطة العسكرية البريطانية إبان الحرب العالمية الأول.
ويرى رجال القانون أن وعد بلفور باطل من الناحية القانونية، وبالتالي فان كل ما نتج عنه، وكل ما تأسس عليه فهو باطل.
فالوجود البريطاني في فلسطين كان مجرد إحتلال، ولا يمنح الإحتلال، أو الانتداب الدولة المنتدبة حق التصرف بالأراضي الواقعة تحت وصايتها، أو أي جزء منها. وفلسطين ليست جزءاً من الممتلكات البريطانية، حتى تمنحها لمن تشاء، ولأن الحكومة البريطانية أعلنت في مناسبات كثيرة أن الهدف من احتلالها هو تحرير فلسطين من السيطرة العثمانية، وإقامة حكومة وطنية فيها.
من هنا يرى خبراء القانون الدولي أن تصريح بلفور ليس له صفة الإلزام القانوني، فهو تصريح من جانب واحد، لا التزامات متقابلة فيه، وقد صدر في صيغة رسالة موجهة من وزير الخارجية إلى أحد رعايا الدولة ذاتها، فليس لهذا التصريح صفة المعاهدة أو الاتفاق أو العقد الدولي.
لقد جعل تصريح بلفور فلسطين وطناً لليهود وهم ليسوا سكان فلسطين، حيث لم يكن في فلسطين من اليهود عند صدور التصريح سوى خمسين ألفاً من أصل عدد اليهود في العالم حينذاك، والذي كان يقدر بحوالي 12 مليوناً، في حين كان عدد سكان فلسطين من العرب في ذلك الوقت يناهز 650 ألفاً من المواطنين الذين كانوا، ومنذ آلاف السنين يطورون حياتهم في بادية وريف ومدن هذه الأرض.
ولكن الوعد المشؤوم تجاهلهم ولم يعترف لهم إلا ببعض الحقوق المدنية والدينية، متجاهلًا حقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية.
فضلا عن ذلك، فان هذا الوعد يتعارض مع أحد أهم مبادئ القانون الدولي، ألا وهو مبدأ حق تقرير المصير الذي طالما نادى به الحلفاء وادعوا أنهم منحازون إليه وساعون إلى تطبيقه في كل مكان.
ولكن الوعد الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا أحد أركان تحالف الحلفاء في الحرب العالمية تنكر لحقوق الشعب الفلسطيني الحق به ظلمًا تاريخيًا لا نزال نعيش تداعياته حتى يومنا هذا.
ما زالت الجريمة التي كان ضحيتها الشعب الفلسطيني ماثلة أمام العالم، ولم تزل آثارها ترهق كاهل الشعب الفلسطيني الذي تستمر معاناته بسبب هذا الوعد؛ فالنكبة شرّدتهم من ديارهم عام 1948، ودمرت بيوتهم عام 1967، ولا زال القتل والتدمير وكل أشكال الانتهاكات مستمرة حتى اللحظة.
وما زالت دولة الاحتلال تجد من يعدها بالحماية والدعم والرعاية والتفوق العسكري وغض الطرف عن أفعالها وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني، بل يقدم “صفقة القرن” التي تعد امتدادًا لوعد بلفور بهدف شطب القضية الفلسطينية وتصفيتها.
أن الأجيال الفلسطينية المتعاقبة لن تغفر لمن ارتكب هذه الجريمة المستمرة التي كانت الأساس في تشريد الشعب الفلسطيني من وطنه ومعاناته في مخيمات اللجوء والشتات، وستفشل كافة المشاريع والخطط الهادفة لضرب مشروعنا الوطني، وستبقى متمسكةً بحقوقها غير القابلة للتصرف في الحرية والاستقلال والعودة.