لسنواتٍ مضت، اعتقد كيان الاحتلال بأن اعتماده المفرط على التكنولوجيا العسكرية قد تحميه من أيّ حدث خارج عن السيطرة بل وتباهى كثيرا بتفوقه التكنولوجي وأعتبر نفسه القوة التي لا تقهر وتمادى في الغطرسة والإحتلال والتدخل في شؤون كل الدول العربية والإفريقية، واذ بتاريخ 07 اكتوبر يأتي ليصفعه على وجهه ويسدد له لكمة اسقطته بالضرية القاضية.
وبناءً على هذه النظرية العلوية والغرور المفرط، قام بتزويد “الجدار الحديدي” على تخوم قطاع غزة بأجهزة استشعار متطورة ومدافع رشاشة تعمل عن بُعد، ثم الاكتفاء بعدد قليل من الجنود لحمايته من عمليات الاقتحام ووضع كل الجنود في قاعادت مكيفة أمام شاشات البلازمة الذكية.
لكن ما جرى فجر 7 أكتوبر، مزّق ما تبقى من هذه العقيدة التي أثبتت فشلها مسبقاً في غزة في عامي 2009 و2014، ولبنان عام 2006.
والواضح، أن تكرار الكيان لأخطائه بالاعتماد المفرط على التكنولوجيا العسكرية وخاصة بما يسمى بالذكاء الإصطناعي العسكري والخيال العلمي، وسلاح الجو سيكون عائقاً تكتيكياً في تحقيق أهدافه من العملية البرية المزعومة لعدة أسباب.
يشير نائب رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق، “ماتان فيلنائي”، إلى جانب منها، بعيد انتهاء حرب تموز: “يمكنك تشغيل ماكدونالدز باستخدام شاشات البلازما، وليس معركة العسكرية”
في أعقاب حرب لبنان الثانية، أشار رئيس الأركان “دان حالوتس” إلى أحد الصعوبات التي واجهها الجيش الإسرائيلي في ساحة المعركة:
“ميل كبار القادة إلى إدارة المعركة ليس من خلال قيادة قواتهم في الميدان، ولكن من مقراتهم، التي كانت تقع في الخطوط الخلفية… والاعتماد المفرط على التكنولوجيا“.
لم يستطع المسؤولون العسكريون الإسرائيليون حل تلك المعضلة الى حدود اليوم فكلهم يريدون الإبتعاد عن المواجهة الميدانية. اذ أن هوس الحفاظ على التفوق العسكري في المنطقة، إضافة لعدم استطاعتهم تعبئة الجنود واقناعهم بجدوى القتال وجهاً لوجه مع “العدو” مع وجود كل تلك التكنولوجيا، جعل من التفكير بالبدائل أمراً غير مرحب به وبعيد عن التفكير للجندي الإسرائلي الذي تربطه علاقة العيش والرخاء والرفاهية فقط بالكيان وثبتت كل الدراسات السوسيولوجية أن الجندي الصهيوني ليست له علاقة ولا الإنتماء لدولة إسرائيل.
على المستوى الاستراتيجي لصنع القرار السياسي والعسكري، كان للتركيز على التكنولوجيا العالية عواقب مباشرة على طبيعة عمليات الجيش الإسرائيلي:فمن جهة، ساعد ذلك في بناء عقيدة تكتيكية تعتمد على الضربات الصاروخية من الجو بدلاً من العمليات البرية العسكرية. وقد ترجم ذلك فعلياً في الاستراتيجية التي اعتمدها الكيان مرات عدة في حروبه على غزة، وهي ما باتت تعرف بـ “جز العشب”، التي تقوم على استهداف قيادات المقاومة وبنيتها التحتية، في محاولة لإبقاء المقاومة تحت السيطرة، لا القضاء عليها.
كانت تأتي على شكل عمليات توغل بري محدودة، كان آخرها في عام 2014. وهو الأمر الذي أنتج رؤية عسكرية تقوم على حاجة أقل للاستعداد لعمليات برية واسعة النطاق.
وانخفاضاً بمهارات الأسلحة المشتركة لوحدات الجيش على الأرض. وبدلاً من الاستعداد للحروب المستقبلية المتوقعة في منطقة شديدة الحساسية والتقلب، كانت هذه الوحدات مشغولة بمراقبة الضفة الغربية وحماية المستوطنين.وعلى المستوى التكتيكي، آمن الجنود الإسرائيليون، كما عدد كبير من قادتهم، بأن التقنيات التكنولوجية المتوفرة لديهم، ستجعل الصراع العسكري أقل دموية. لكن، ارتكاب سلاح الجو الإسرائيلي لمجازر راح ضحيتها أكثر من 7000 شهيد من المدنيين والأطفال، وقبل بدء العملية البرية، يُسقط بالضرورة هذا المبدأ. وبالتالي، فإن عدد الضحايا مرشح للارتفاع بسبب عدم وجود تدريب مشترك على الأسلحة لكل من الوحدات العسكرية الاسرائيلية في الخدمة الفعلية والاحتياط، باستثناء عدد من تشكيلات النخبة.
في محاولة لمعالجة اعتماده المفرط على التكتيكات الدفاعية والهجمات المحدودة، يقوم الجيش الإسرائيلي بتطوير مفهوم تشغيلي جديد يسمى “النصر الحاسم”، والذي يخاطر بالوقوع في الفخ التكنولوجي مرة أخرى.
تم بناء النصر الحاسم على نفس الأسس التشغيلية لجيوش الناتو: عمليات الأسلحة المشتركة متعددة المجالات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، حيث تطبق القوات المشتتة والأكثر استقلالية قوة نيران دقيقة لهزيمة الخصم بسرعة. وهذا ينطوي على مزيج من الضربات الدقيقة من الجو. وحدات أرضية أصغر حجماً وأكثر مرونة وسرعة في الانتشار؛ واستخدام التعلم الآلي للمساعدة في تحديد الأهداف وتتبعها وإشراكها.
ويشير فرانز ستيفان غاديوهو زميل استشاري للقوة السيبرانية في “مركز الأمن الأمريكي الجديد”، أن ميزة “النصر الحاسم”، بُنيت على فرضية أن قدرات ISR المتفوقة المقترنة بالذخائر الذكاء الاصطناعي والذكية ستزيد من الفعالية القتالية للجيش الاسرائيلي مع تقليل حجم القوات اللازمة للقيام بعمليات عسكرية فعالة. ومع ذلك، وكما أظهر هجوم 7 أكتوبر، إذا تم تدمير التقنيات الكامنة وراء مفهومك للحرب أو تمت السيطرة عليها وكنت تفتقر إلى قوات فعلية على الأرض، فإن الاعتماد المفرط على التكنولوجيا يخلق نقطة فشل واحدة.
وبدون الأصول العسكرية التقليدية مثل القوات الأكثر عدداً والقابلة للانتشار السريع، يخاطر الجيش الإسرائيلي بعدم وجود خطة بديلة للرد بسرعة على هجوم ديناميكي أو حالات عسكرية أخرى سريعة التطور.
ويشير أحد أبرز صانعي الأسلحة الإسرائيليين في هذا الصدد، إلى المعضلة التي تركها الافراط بالاعتماد على القبة الحديدية في رد الضربات، وما يقابله من قصف أعمى للمدنيين:
“القبة الحديدية نعمة لأنها تشتري الوقت لإسرائيل، لكن إسرائيل بحاجة إلى ذريعة لماذا تقتل الفلسطينيين في عملياتها بالمقابل؟ عندما تعمل القبة الحديدية بشكل جيد ويموت عدد قليل جداً من الإسرائيليين، تفقد إسرائيل مبرر العملية“.
يعترف قادة الجيش بمحدودية قوة سلاح الجو. وينتقد اللواء احتياط يوسي بيليد، في معرض حديثه عن الدروس المستفادة من “حرب لبنان الثانية” ما سببته التكنولوجيا العسكرية من أزمة وهوّة بين قيادة العمليات العسكرية والجنود على الأرض:
“حدث شيء سيء للغاية للجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة. لقد فقدنا التوازن بين الأسلحة، مما أعطى الفضل لقدرة سلاح الجو الإسرائيلي على حل أي مشكلة. تم إنشاء عجل ذهبي وتسميته التكنولوجيا وشرعنا بعبادته“.