إعداد: فاتن جباري باحثة بالمركز الدولي للدراسات الإستراتيجية الأمنية والعسكرية
مراجعة الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز
مقدمة:
“حافظي على نفسك يا تونس…
سنلتقي غدًا على أرض أختك: فلسطين
هل نسينا شيئا وراءنا؟
نعم، نسينا القلب وتركنا فيك خير ما فينا
تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا”
بهذه الكلمات ختم الشاعر العربي محمود درويش قصيدته الشهيرة،”كيف نشفى من حبّ تونس” وقد خنقته العبرات. فعلى أرض تونس، تحقق إعجاز تاريخي تلاشت أمامه كلّ قواعد الجغرافيا، وذلك حين اختلطت الدّماء التونسية بالدّماء الفلسطينية في “مجزرة حمّام الشط”، التي أطلق عليها سلاح الجوّ لجيش الاحتلال الصهيوني “عملية السّاق الخشبيّة”ذاكرة ملحمية تأبى أن تكون في طيّ النسيان وتتجدّد في كلّ ذكرى بطابعها الانساني الراقي الذي برهن للعالم على أن حب فلسطين وشعبها لم يأت من فراغ بل لأن الشعبين تقاسما معا حب النضال وألم الفراق وأمل النصر القريب.
مرت اكثر من 36 سنة ولا تزال الجريمة الغادرة عالقة في أذهان كل التونسيين والفلسطينين، جيل بعد جيل وتحيي في نفوسهم ذاكرة وحدة الموقف بين بلدي الشعبيين تجاه القضية الفلسطينية.
محطة فارقة وسابقة في تاريخ تونس والقضية الفلسطينية في بعديها السياسي والنضالي، امتزجت فيها دماء التونسيين والفلسطيينكان لها بعد إنسانيّ عميق على أرض طالما كانت قبلة القيادات الفلسطينية وملاذهم بعد أن أجبروا على مغادرة بيروت والتوجّه نحو تونس عقب الاجتياح الصهيوني للبنان سنة 1982.
في التاسع من اكتوبر 2023،شنّت كتائب القسامالجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، هجوما عسكريا واسعا تحت اسم “طوفان الأقصى” تضمن إطلاق آلاف القذائف الصاروخية بإتجاه إسرائيل وعمليات تسلل غير مسبوقة داخل الأراضي المحتلة، فيما اندلعت اشتباكات مسلحة بين فصائل فلسطينية وقوات من جيش الاحتلال، على الحدود الفاصلة بين شرقي قطاع غزة وإسرائيل اشارت فيها التقديرات إلى أن عدد القتلى الإسرائيليين قد يكون أكثر من 1000 قتيل وأكثر من 2000 مصاب. فيما يبلغ عدد الأسرى أكثرمن150 اسير أغلبهم ضباط وجنود وفرق الإستخبارات الصهيونية… كما بلغ التعاطي الإعلامي لهذا الحدث الجلل والعظيم بعظمة المقاومة الفلسطينية الذروة إذا بلغ فيه ذروة التعاطي الإعلامي اضعاف أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 .
- موقف رسمي تونسي داعم لفصائل المقاومة مثل الاستثناء في كل الوطن العربي
ثبات الموقف التونسي المشرف لكل الشعوب العربية، فلقد ظلت تونس مناصرة للقضية العربية الفلسطينية، ثابتتا على العهد منذ ان نجحت في انتزاع اعتراف العالم وأمريكا خاصة بإدانة العملية الصهيونية الغادرة، حينما هدّد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة واشنطن بقطع العلاقات معها إذا ما استعملت حق الفيتو ولم تدن اسرائيل في مجلس الأمن الدولي…لقد اعتلى الرئيس التونسي قيس سعيد المنبر في كل خطاباته وفي كل منتظم أممي مواصلا مسيرة النضال.قالها الرئيس سعيد ورددها، تونس ستبقى ابد الدهر على راية الكفاح حتى تتحرر القدس اولى القبلتين، وفي فكر وآمال كل التونسيين لشدّة إيمانهم بعدالة القضية وبالشرعية الدولية لحق الشعب الفلسطيني من اجل مقاومة المحتل دفاعا عن ارضه وعرضه،وان اسرائيل هي دولة مجرمة بكل المواثيق الدولية التي تجرم جرائم الحرب والانتهاكات ضد الإنسانية وجرائم العدوان على معنى المادة الخامسة من قانون روما الأساسي.
عقب الأحداث الأخيرة بادرت تونس فورا ببيان رسمي على صفحة رئاسة الجمهورية، موقف الرئاسة لقى إستحسانا من قبل أغلب مكونات الطيف السياسي، بما في ذلك المعارضون لسياسات الرئيس.
فتونس اليوم شعبا ورئاسة وأحزابا ومنظمات مجتمع مدني، مثل النقابات والقضاة والمحامين والصحفيين وغيرهم على قلب رجل واحد، تؤيد حق المقاومة في الخطة التي أعدتها وشرعت في تنفيذها.
كما عرفت شوارع تونس وقفات تضامنية الى جانب الشعب الفلسطيني كما بدأت المؤسسات التربوية يومها الدراسي بتحية العلمين الفلسطيني والتونسي كما طالبت كتل برلمانية بالإسراع في مناقشة مقترح قانون يطالب بتجريم التطبيع مع الاحتلال الصهيوني…
رفض البيان مجاراة المفردات المستعملة إعلاميا مثل “غلاف غزة”، في إشارة إلى المستوطنات التي زرعت حولها قائلا بأنها “أرض فلسطينية ترزح تحت الاحتلال الصهيوني”.
وهو تصحيح مهم له دلالاته وأبعاده، فتنشيط الذاكرة أمر على غاية من الأهمية، خاصة ضمن السياق الراهن، لهذا أشار البيان إلى ضرورة التذكير بالجرائم السابقة مثل مذابح دير ياسين وكفر قاسم وخان يونس في اشارة واضحة الى ان قيس سعيد يفضل الحديث عن الصهيونية، ويتجنب قدر الإمكان استعمال مصطلح ” اسرائيل ” ككيان سياسي معترف به دوليا، ويعتبره الرئيس التونسي كيانا غير شرعي .
كما ان إصرار البيان الرئاسي على حق الفلسطينيين في “استعادة كل أرض فلسطين”وهو ما يعني ضمنيا أن الرئاسة التونسية لا تقر بشرعية الدولة الصهيونية التي تأسست عام 48. بيان اعتبره محللون لنه منحازكليا وبدون تحفظ إلى المقاومة ف صحيح أنه لم يذكر حماس وغيرها من الفصائل المسلحة، لكن أكد بوضوح لا لبس فيه “حق المقاومة المشروعة للاحتلال، ولا يعدّ ذلك اعتداء وتصعيدا وهو ما مثل الاستثناء حيث تم تذكير المجتمع الدولي بحق الفلسطينيين في “إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس” على كل فلسطين وهو المطلب الذي تجاهلته الدول بعد أن غيّرت إسرائيل الجغرافيا وعادت القيادات الصهيونية خاصة الدينية منها إلى خرائط “إسرائيل الكبرى” التي خلت بالكامل من الوجود الفلسطيني.
هذا الموقف التونسي الرسمي الصادر هذه الأيام، جاء مختلفا في جوانب أساسية عن الرؤية التي تبناها الرئيس بورقيبة منذ 1965، حين شجع الفلسطينيين على القبول بقرار التقسيم، وإقامة دولتهم على ذلك الأساس… بهذا البيان الواضح وقطعي الدلالة، يكون الرئيس قد أكد عدم قبوله بمسألة “التطبيع ” مهما كانت الضغوط.
موقف ستكون من نتائجه تعميق الفجوة بين تونس وبين جزء واسع من رؤساء دول العالم الغربيالذين أكدوا بعد عملية السابع من أكتوبر، كونهم ملتزمين بالدفاع عن إسرائيل ضد ما وصفوه بـ”عدوان حماس الإرهابي”.
ومن المتوقع في هذا السياق أن تتضاعف الضغوط على تونس، في محاولة من هذه الأطراف الدولية إضعاف الرئيس قيس سعيد سياسيا واقتصاديا من خلال فشلها الذي اعلنته تونس بعد محاولت جرها نحو التطبيع الصهيوني او فرض عقوبات دولية اقتصادية، لكن بعد المنعرج الذي دخله الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والموقف الرسمي التونسي، فإن الدوائر الصهيونية بعد أن تهدأ الأوضاع ستراجع حساباتها وتعيد النظر في أكثر من ملف…
- رمزية الطائرة التونسية الصنع التي قصفت المستوطن اليهودي ” الشهيد الزواري”
لقد غزت طائرات الشهيد التونسي محمد الزواري، سماء المستوطنات الاسرائيلية،وأمطرت إسرائيل بطائرات من أبابيل، انها طائرات بأيادي تونسية الصنع التي وصفت بأحدث أسلحة كتائب القسام في ضربة قاسمة للكيان المحتل جعلت العالم الغربي والعربي في صدمة لم يشهدها العالم منذ ان استبيحت فلسطين ارضا محتلة ب”ذكرى النكبة” ووعد بولفور الذي قضى بتقسيم القومية العربية منذ 1948، بعد استكمال الحركة الصهيونية تهجير ابناء الشعب من أرضهم، وإقامة ما تدعى اليوم “بدولة إسرائيل” وقد مر 75 عاما منذ ذلك الوقت .
لعب الشهيد التونسي محمد الزواري دورا كبيرا في تطوير المنظومة العسكرية لكتائب القسام الجوية والبحرية، فقد كشفت الكتائب عن طائرة مسيرة وغواصة باسم الشهيد التونسي محمد الزواري، والتي تدخل لأول مرة بالخدمة في حرب غزة، رمزية تخلد حادث استشهاد ابكى كل التونسيين و الفلسطينيين تعبر عن انتهاك صهيوني في اكثر من فاجعة لحرمة تونس فحادثة حمام الشط لم تكن الأخيرة في حوادث انتهاك الكيان الصهيوني للتراب التونسي وحرمة البلاد، ففي يوم 15 ديسمبر 2016 اغتالت الأيادي الاسرائيلية المهندس محمد الزواري بصفاقسب20 رصاصة ثمانية منها استقرت فيه وثلاثة منها كانت قاتلة على مستوى الصدر والرأس، مستعملان مسدسات عيار 9 مليمتر مزودة بكاتمات صوتسارعت حينها حركة حماس الفلسطينية بالاعلان عن انتماء الزواري لكتائب الشهيد عزالدين القسام، وإشرافه على مشروع تطوير طائرات دون طيار التي أطلق عليها اسم أبابيل1، متهمة الكيان الصهيوني باغتيال الزواري عبر جهازها ووعدت بالانتقام له وفعلا انتقمت…
ولئن لم تتمكن تونس إلى اليوم من انتزاع الاعتذار الاسرائيلي عن انتهاك حرمتها وسيادتها واستهداف ضيوفها على أرضها واغتيال كفاءاتها، والتعويض المعنوي والمادّي عن ذلكإلاّ أنها دخلت التاريخ من بابه الواسع عندما نالت شرف امتزاج الدم التونسي بالدم الفلسطيني وانتصرت على العدو الذي ظنّ واهما أنه حقق هدفه باغتيال الزواري وها هي طائراته تقصف وتضرب العمق الإسرائيلي في رمزية تناقلتها كل وكالات الإعلام الدولية.
خلاصة :
إن إمكانية إصدار قانون لتجريم التطبيع أصبحت واردة في القريب العاجل ، خاصة مع تطور الأحداث القادمة التي ستفجرها تداعيات “طوفان الأقصى”.
فعندما تحرك الولايات المتحدة مجموعة “حاملة طائرات هجومية”، وترسل 5000 جندي لمساعدة إسرائيل في حربها على الفلسطينيين، فذلك مؤشر على طبيعة المعارك التي ستدور رحاها، لأن الغرب الأمريكي والأوروبي بالذات غير مستعد للتخلي عن انحيازه المطلق للحركة الصهيونية، وعدم استعداده النظر بجدية في حجم الجرائم التي ترتكبها الدولة العبرية على مختلف الأصعدة وسيتواصل الضغط الغربي لجر القومية العربية نحو مستنقع الصهيونية في حرب ليست بحرب حدود بل بقضية وجود .