إعداد الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية
06-10-2023
في خطوة غير مسبوقة تم التوقيع يوم السبت 16 سبتمبر 2023 من قبل الزعماء العسكريين لكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر على ميثاق “ليبتاكو غورما” من أجل إنشاء تحالف دفاعي إقليمي جديد وهذا ما يمكن إعتباره رسم جديد لمنطقة الساحل في نسختها الجيواستراتجية ونسختها الأمنية وهي رسالة الى العالم أن الدول الإفريقية أصبح لها من الوعي ما يكفي بأن توقع إتفاقية في ما بينها من دون وصاية دولية فهذا الذي ترونه “قاصر” قد كبر وأصبح يختار شركائه.
طبعا هذا الخير ليس سهلا فهو يحمل في طياته الكثير من الصعوبات والتحديات فمخلفات الإستعمار كبيرة ورهيبة… فبإخراجهم أصبحت منطقة الساحل واحدة من أقل المناطق استقرارا، ليس في إفريقيا فحسب، بل في العالم أجمع، فجذور الإرهاب والفقر والعصابات والإجرام الذي زرعه الإستعمار لا يزال وإقتلاعه يتطلب وقتا وتحديات كبرى.
وهي منطقة الساحل الإفريقي تصبح مثل منطقة القرن الإفريقي تشهد صراعات مسلحة بين الحين والآخر داخل كل دولة على حدة، وتزداد حدة النزاعات الإقليمية القديمة، وتصبح الشبكات الإرهابية ومنظمات الجريمة المنظمة العابرة للحدود أكثر نشاطا فالإرض كلها مزروعة ب”الألغام” فالمستعمر كان له الوقت الكافي لزرع كامل المنطقة الإقليمية بالألغام خاصة الإرهاب و”المافيا”.
وتظهر بعض الدول في المنطقة عجزًا واضحًا عن السيطرة على أراضيها بشكل فعال مثل مالي التي أصبحت في بعض مناطق الدولة “فاقدة للسيطرة” خاصة في المناطق التي كانت تحت حماية “برخان الفرنسية” وطبعا وبحسب التقديرات الغربية فهي تسميها دولا فاشلا وهذا راجع لمجهوداتهم.
كذلك لا ننسى النزعات القبلية المتجذرة في منطقة الساحل تمنع في كثير من الأحيان تشكيل هوية وطنية كاملة ومتكاملة فالقبيلة أهم من الدولة الوطنية، وهو ما يؤدي بدوره إلى اندلاع حالة من عدم الاستقرار الداخلي، وتغذية النزعة الانفصالية القبلية، وإبقاء الحركات السياسية والدينية المتطرفة فاعلة من حيث تجنيد الأتباع والمؤيدين.
كما لا يجب أن ننسى الأسباب الأخرى الكامنة وراء المشاكل العديدة التي تواجهها بلدان المنطقة اليوم. فهناك تأثير مزعزع للاستقرار على منطقة الساحل في شمال إفريقيا المجاورة والقريب جدا وخاصة وأن هناك دول تربطها حدود جغرافية مباشرة معها، والحرب الأهلية المستمرة منذ عشر سنوات في ليبيا، هي بدورها حاضنة خطيرة ومزعزعة للمنطقة الإقليمية ككل.
كذلك عامل المناخ والتغيرات المناخية المؤثرة جدا والتصحر التدريجي في منطقة الساحل، وهو ما يستلزم هجرات جماعية للقبائل البدوية الشمالية إلى الجنوب، مما يخل بالتوازنات العرقية والدينية الراسخة تاريخياً في العديد من بلدان المنطقة.
كما أن العامل الأخر المهم في المنطقة هو على أن التحولات الجيوسياسية في المنطقة ولاسيما “طرد” فرنسا وبروز قوى فاعلة أخرى مثل روسيا والصين وبعض الأطراف الشرق أوسطية قد بدأ يعيد في هندسة الجغرافيا السياسية والجغرافيا الأمنية للمنطقة.
كانت منطقة الساحل لفترة طويلة من تاريخها مسرحا للانقلابات العسكرية، وفي هذه السنوات الاخيرة شهدت إنقلابات من نوع جديد ليست معتادة عليه، ومن أبرزها النيجر وبوركينا فاسو ومالي مما تسبب في اضطرابات سياسية مخالفة تماما عما كانت عليه الإنقلابات العسكرية فيكفي أنها لم تكن من مهندسين فرنسيين.
والأمر الأكثر أهمية هنا هو أن الانقلاب الأخير في النيجر كان سبباً في وضع السفير الفرنسي وموظفيه تحت الحصار فعليا، حيث اعتمدوا على “حصص الإعاشة العسكرية” لكسب قوتهم وسط حصار شعبي كبير ومذل لماكرون وللخارجية الفرنسية… وقد استمر الوضع منذ أواخر يوليو الماضي الى الأسبوع الماضي اين إضطرت باريس لسحب سفيرها “الذليل”، مما اجتذب اهتماماً واسع النطاق من القوى العالمية.
وعند الإعلان عن تشكيل التحالف الجديد، صرح الرئيس الانتقالي المؤقت لمالي، “غويتا عاصمي”:
أن الغرض من ميثاق ليبتاكو-غورما المنشئ لتحالف دول الساحل الذي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر هو توفير هيكل “للدفاع الجماعي والمساعدة المتبادلة” لأبناء المنطقة.
سوف يتم اعتبار أي هجوم ضد إحدى الدول الأعضاء في تحالف دول الساحل الجديد موجهًا ضد الطرفين الآخرين، بموجب الميثاق المنشئ لهذا الاتحاد الدفاعي. طبعا هذا الإتفاق لن يعجب الدول الإستعمارية وعلى رأسها فرنسا.
وينص الميثاق “المادة 6” كذلك على أن:
“أي اعتداء على سيادة وسلامة أراضي طرف أو أكثر من الأطراف المتعاقدة يعتبر عدواناً على الطرفين الآخرين ويستلزم واجب المساعدة والإغاثة لجميع الأطراف، بشكل فردي أو جماعي، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لاستعادة وضمان الأمن داخل المنطقة التي يغطيها الحلف.”
وطبقا لوزير الخارجية المالي عبد الله ديوب فإن:
“الأولوية هي مكافحة الإرهاب في الدول الثلاث، حيث أن هذا التحالف سيكون بمثابة مزيج من الجهود العسكرية والاقتصادية بين الدول الثلاث”.
ويشمل العدوان “أيضًا أي هجوم ضد قوات الدفاع والأمن التابعة لواحد أو أكثر من الأطراف المتعاقدة، بما في ذلك عندما يتم نشرها بقرار على المستوى الوطني في مسرح العمليات خارج نطاق “التحالف”.
ويضاف إلى ذلك “أي هجوم في أي مكان سواء على سفن أو طائرات تابعة لطرف أو أكثر”.
ما هي جذور ميثاق “ليبتاكو غورما”؟
مع تزايد خطر الهجمات من قبل الجماعات المسلحة في منطقة ليبتاكو-غورما، التي تمثل المثلث الحدودي لكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، أدركت الدول الثلاث الحاجة إلى استجابة موحدة.
كما يأتي إنشاء هذا التحالف الجديد على خلفية التوترات المتزايدة مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “ايكواس” وتدهور علاقات هذه الدول الثلاث مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة.
إذ بعد الانقلاب الذي وقع في النيجر في 26 يوليو 2023، هددت مجموعة الايكواس مراراً وتكراراً بالتدخل المسلح وفرضت عقوبات اقتصادية قاسية على البلاد.
وترى المنظمة أنه يتعين على السلطات العسكرية “استعادة النظام الدستوري فوراً” والإفراج عن الرئيس المخلوع محمد بازوم لإعادته إلى ممارسة مهامه الدستورية. وردا على التهديدات المحتملة للنيجر، نشرت كل من مالي وبوركينا فاسو طائرات مقاتلة لردع أي عدوان، مما يدل على الموقف الدفاعي التعاوني الناشئ.
التداعيات الجيوسياسية للتحالف الجديد:
- تغير الدبلوماسية الإفريقية التقليدية ونشؤ ديبلوماسية جديدة
من اللافت للنظر أن القارة الإفريقية من الناحية التاريخية، الم تكن لها تحالفات عسكرية في ما بينها وكان ذلك بتخطيط إستعماري.فعلى الرغم من الصراعات التي حصلت في مناطق كثيرة مثل بيافرا، وكاتانغا، والكونغو والسودان والصومال، لم تشهد إنشاء تحالفات دفاعية بل التحالفات كانت دائما مع فرنسا والدول الأوروبية التي كانت تستعمرها. ويمكن إرجاع عدم وجود تحالفات عسكرية واسعة النطاق في إفريقيا إلى الإرث الاستعماري، الذي رسم حدود تعسفية وتنوع عرقي داخل الدول، وذلك بطريقة خبيثة جدا وشيطانية، وبالتالي ضمن عدم تحالف هذه الدول في ما بينها.
بعد الاستقلال، انخرطت الدول الإفريقية في البناء وإزاحة التراب الإستعماري وتبني سياسات عدم التدخل،وظهرت منظمات إقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الايكواس” ومجموعة تنمية الجنوب الإفريقي “السادك” لمعالجة الأمن الجماعي.
كما لعبت السياسة الداخلية والمخاوف بشأن السيادة أدوارًا في هذا النهج الحذر لتشكيل الشراكات العسكرية. وعليه يمثل تشكيل تحالف الساحل الجديد تحولا كبيرًا عن هذه القاعدة بل يمكن تسميته “الخروج” عن القاعدة وإرادة التغيير والوعي الجمعي لدى الدول الإفريقية التي تقود حرب ضد “المستعمرين الجدد”.
ويؤكد ميثاق التحالف صراحة على مبدأ الدفاع الجماعي: أي اعتداء على سيادة أحد الأعضاء أو سلامة أراضيه يعتبر هجوماً على الجميع.
- قرب نهاية النفوذ الغربي والفرنسي تحديدا
لا يخفى أن النيجر غنية باليورانيوم، وهو مورد تعتمد عليه فرنسا بشكل كبير، ما يقرب من 15-17٪ من اليورانيوم الذي يغذي توليد الكهرباء في فرنسا يأتي من النيجر. ويؤكد الوجود العسكري الكبير للقوات الفرنسية في النيجر وتشاد المجاورة على المصلحة الاستراتيجية للغرب في ضمان الاستقرار في منطقة الساحلكذلك إن علاقة النيجر مع فرنسا، ترمز إلى الجغرافيا السياسية الأوسع التي تمتلكها.
يعني ذلك أن خسارة النيجر سوف يعني قرب نهاية فرنسا في غرب إفريقيا ويمكن القول أنه فعلا قد إنتهت وهي في موقف لا تحسد عليه بالرغم من أنها لا تريد الإعتراف بذلك ولا تزال تحاول. كما أن الدعم الذي تقدمه النظم العسكرية في الساحل للسلطات الجديدة في النيجر، على النقيض من أغلب الدول الغربية، يشير إلى تحول في السياسات والتحالفات الإقليمية، ويشير إلى تيارات أعمق تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية.
- نهاية دور الإيكواس الذي فقد مصداقيته
الانقلاب الأخير في النيجر بمثابة ضربة قاصمة لوحدة وقدرة الإيكواس وخاصة لمصداقيته،ففي أعقاب الانقلاب، فرضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا عقوبات تجارية على النيجر وألمحت إلى تدخل عسكري محتمل. على إن التضامن الذي أبدته الدول بوركينا فاسو، وغينيا، ومالي، والنيجر التي تقاوم التدابير العقابية التي اتخذتها الإيكواس كان بمثابة اختبار لنفوذ الكتلة ونهجها التقليدي في حل الصراعات واثبتوا أنها فاشلة وخاصة أنها ليست نزيهة وهي تريد تجويع الشعوب. وهنا يظهر تحدي قادة الدول الثلاثة، إلى جانب الدعم الشعبي أدى إلى تعقيد الوضع.
- نهاية الإتفاقيات العسكرية مع الغرب
تم إضفاء الطابع الرسمي على التحالف بين ثلاث دول في منطقة الساحل، وهي جميعها مستعمرات فرنسية سابقة تخضع لحكم المجالس العسكرية الانتقالية، وسط توتر العلاقات بين الدول الثلاث وفرنسا.
والجدير بالذكر أن هذه الدول الثلاثة كانت تتمتع بعضوية مجموعة دول الساحل الخمس بالإضافة إلى تشاد وموريتانيا. تم إطلاق تحالف الساحل الخماسي، الذي أصبح الآن شبه منتهي.
ألغى القادة العسكريون في النيجر من جانب واحد الاتفاقيات العسكرية بموجب تحالف الساحل للدول الخمس التي سمحت للقوات الفرنسية بمحاربة الجماعات المسلحة في المنطقة، كما طالبوا بسحب قواتها البالغ عددها 1500 جندي.
كما انسحبت مالي من تحالف الساحل للدول الخمس بعد انقلاب عسكري. وحتى قبل الانقلاب العسكري في النيجر، قال الرئيس المعزول محمد بازوم في مايو 2022 إن القوة الدفاعية للتحالف “ماتت” بعد رحيل مالي.
أهمية التحالف العسكري للدول الثلاثة:
- الاستجابة للتهديدات الخارجية،
- 2- يلتزم الحلف أيضًا بالعمل معًا لمنع وحل التمردات المسلحة الداخلية.
- تعزيز الاستقرار داخل كل دولة عضو.
- ومن المعروف أن مالي شهدت، بالإضافة إلى محاربة الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة وداعش، تجدد الأعمال العدائية التي شاركت فيها جماعات الطوارق المسلحة.
الخلاصة:
مع أنّ القدرات العسكرية المتواضعة لأعضاء التحالف تمثل تحديًا كبيرًا حتى في مواجهة التهديدات السياسية والأمنية التي تواجه كل دولة على حدة تبقى هي محاولة ولبنة أولى من أجل الإستقلال وفك قيود الإستعمار الفرنسي عن هذه الدول وفاتحة جديدة للدول الإفريقية لكي تفكر في تحالفات عسكرية وأمنية في ما بينها بعيدا عن الدول الإستعمارية الناهبة لثرواتهم.
ولكن في المشهد الاستراتيجي الأكبر، قد تجد هذه الدول حلفاء خارج القارة ولاسيما من قبل الدول المتربصة لتراجع النفوذ الغربي في المنطقة. وقد تميل دول مثل إيران وروسيا والصين، التي لها مصالح خاصة في إفريقيا، إلى تقديم دعمها وسد الفراغات الأمنية في دول الساحل.
وعلى أية حال فإنه بالرغم من أن الدول الأعضاء لديها قدرات عسكرية محدودة، فإن تشكيل تحالف دفاعي في حد ذاته يعد بمثابة بيان نوايا وانعكاس للديناميكيات العالمية المتغيرة. وتؤكد مشاركة واهتمام القوى خارج إفريقيا على الأهمية المتزايدة للمنطقة، مما يضمن بقاء منطقة الساحل محورًا أساسيًا في العلاقات الدولية.وخاصة في المتغيرات الدولية الكبرى وإن إفريقيا وخاصة دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي له أهمية كبرى.