الأربعاء. نوفمبر 20th, 2024

اعداد: فاتن جباري باحثة بقسم العلاقات الدولية و الشؤون الاستراتيجية

تقديم

الفساد قوة مزعزعة للاستقرار في تونس، تُلقي بظلالها على كل مستويات الاقتصاد والأمن والنظام السياسي حيث تحتل تونس المرتبة 85 عالمياً من أصل 180 بلدًا مصنفًا في مؤشر مدركات الفساد لسنة 2022 وفقا لمنظمة الشفافية الدولية ، رقم يعبر عن الارتفاع القياسي لمدركات الفساد في القطاع العام و كذلك الخاص  اذ أرجعت منظمة الشفافية الدولية تأخر تونس في مؤشر مدركات الفساد إلى غياب الإرادة السياسية التي تجلت في تواصل ظاهرة الإفلات من العقاب وتواصل ظاهرة انتقائية تحريك ملفات الفسادوعدم تطبيق قانون حماية المبلغين.

تبرير يثير الاستغراب  ففي الوقت الذي تدرج فيه تونس من طرف وكالات التصنيف الدولي في القائمات السوداء ،  يقود رئيس الجمهورية جولة حرب معلنة فلا يكاد يمر خطاب رسمي أو زيارة الى احدى إدارات أو دواوين الدولة الا وكان الحديث عن استشراء الفساد داخل دواليبها  وضرورة تتبع هؤلاء و احالتهم على القضاء  .

أحداثمتسارعة،  عاش على وقعها الشارع التونسي صخبا واسعا بفتح ملفات غامضة في كل المجالات و القطاعات كالصحة و التعليم و التجهيز و القضاء و الفلاحة و المالية  علاوة على مقاومة المحتكرين و الاطاحة ببارونات التجارة الموازية …هكذا هي الاجواء التي تخيم على الأجواء الرسمية  التونسية ، بعد فتح القضاء تحقيقات في شبهات طالت مسؤولين  و نافذين و رجال اعمال على راس السلطة بالمقابل تسود شكوك في مدى جدية السلطات في الحد من ملاحقة رموز الدولة العميقة وقدرة السلطة الرسمية في مواجهة هذا الكيان الموازي ضمن شبكة دولية عابرة للقارات يصعب ملاحقتها وتطويق مجالها الاجرامي الذي اتى على كل مجالات الحياة .

ليس مستغرباً أن يكون الفساد في حقبة ماقبل الثورةهو السمة الرمزية الملموسة والأبرز لعدم مبالاة النظام بمصالح الشعبلذلك ركّزت حكومة مابعد الثورةإدراكاً منها لهذه الحقيقة على مواجهة الفساد الماضي عبر سلسلة من آليات العدالة الانتقالية والقانونيةلكن، وفيما جهود البلاد تنصب على الفساد الكبير كان الفساد الصغير ينمو ويزدهرو نخص بالذكر مواجهة التهريب، الذي هو أكثر وجوه الفساد خطراً والأكثر شيوعا.

سقطت في هذا المستنقع أحزابٌ من مختلف الأيديولوجيات يمينا ويسارا ابتليت بالحكم فظهرت في صفوف أعضائها وأنصارها فئاتٌ طفيليةٌ استفادت من تغير الأحوال ونالها من “بيت مال المسلمين نصيب الاسد “إذ تعتبر الأحزاب التي حكمت بمفردها أو شاركت في إدارة الشأن العام  ابان 2011 ، الأكثر تورطا بهذا الداء العضال فجاءت على الأخضر واليابس  تاركتا بذلك قاعدة بشرية بمثابة الخلايا المدمرة التي  تسللت  من قبيل العفو التشريعي العام و غيرهم  ممن وقع ادماجهم في مختلف القطاعات المهنية  بدون أي موجب قانوني في انتهاك واضح  لقواعد الانتداب في الوظيفة العمومية  فكان من مخلفات ذلك تخبط البلاد في مرض بقي عقيما استشرى في كل أدواتها ومؤسساتها وصلاحياتها حتى اليوم .

مكينة الاعلام في تونس ، هي الأخرى تستحوذ على نصيب هام من مخازن الفساد فهو مناخ ملائملتغذية الإشاعات، وتبادل التهم ليصل الامر الى حد بث واشعال الفتنة و التحيز وخدمة مصالح واجندات اجنبية تتخابر منالخارج بل وتستقوى بهم  .الكثير من التونسيين باتوا يشككون في جدية سلطات بلادهم في مكافحة الفساد، بسبب غياب الشفافية في التعامل مع قضايا الفاسدين ومحاولة الأحزاب توفير الغطاء السياسي والقانوني للمتهمينالأمر الذي يكرس للفساد الأرضية الخصبة حيث تظهر البيانات الرسمية، تجاوز حالات شبهات الفساد 39 ألف حالة.

إن الخلل الإداري في مؤسسات الدولة ساعد بشكل كبير في تأثير بعض الفئات الاجتماعية وذوي النفوذ والمال على بعض أجهزة الدولة وتوظيفها بطرق مختلفة لتحقيق مكاسب وثروات كبيرة عبر الانخراط في أنشطة وممارسات غير مشروعة والحصول على بعض التسهيلات الائتمانية والقروض البنكية من دون وجه حق أو ضمانات، وإهدار المال العام أو الاختلاس.

كما أن تشعب الإجراءات وكثرتها وتعقدها يدفعان بالمتعاملين مع الإدارة من فاعلين اقتصاديين إلى البحث عن المسالك الأقرب والأسهل، وهنا اصبحت المنظومة الإدارية والقانونية في تونس تضيع المبادرة الاقتصادية في متاهات الشكليات والإجراءات، مما  يدفع بالمتداخلين في المنظومة الاقتصادية  الى الالتفاف على تلك الإجراءات بطرق ملتوية من رشاوي و اثراء غير مشروع  وغالبا ما تتم  هذه العمليات عن طريق تدابير تحت غطاء  “قانوني”.

مكافحة الفساد تتطلب إصلاحاً شاملاً لأداء الإدارة حيث يصعب ادراك هذه الشبكة المعقدة بما يستدعي  تفكيك كل خيط منها على حدى فمثلا  مثلت المناقصات العمومية الأرض الخصبة لترعرع الفساد في تونس ، حيث  تتكبد الدولة خسائر سنوية بنسبة 25% من مجموع المناقصات الحكومية نتيجة غياب آليات الرقابة والمتابعة، أي ما يناهز ملياري دينار (714 مليون دولار) من المال العام.

وتقدر الأرقام الصادرة عن اللجنة العليا للصفقات العمومية، حجم الشراءات العمومية بـ 18% من جملة الناتج الداخلي الخام

وتخسر تونس سنويا جراء الفساد نحو 8.4 مليارات دينار (3 مليارات دولار)، بحسب أرقام  رسمية ولا تعد الحرب المعلنة في تونس هذه الأيام الأولى من نوعها، حيث سبق وان تتالت الإطارات و الحملات لأحزاب سياسية و رجال اعمال نافذين و بارونات  وقعت  احالتهم على القطب القضائي و المالي و مواجهتهم  بتهم تبييض الأموال غير أن الحملة واجهت انتقادات  من المعارضة بتحريك ملفات ضد الفاسدين لتحقيق مآرب سياسية، و التعلل بقانون المصالحة الاقتصادية دون المحاسبة فيما لا يزال عدد من الموقوفين في تلك القضايا  رهن الايقاف من دون محاكمة.

أطلق المجتمع المدني العديد من المبادرات واتّخذت إجراءات قانونية كثيرة لمكافحة الفساد، إلا أن هذه الآفة تبدو اليوم منتشرةً أكثر مما كان عليه الحال في عهد بن علي اذ تتعطل نجاعة تطهير الإدارة العميقة اليوم لإعتبارات كثيرة أهمها أن أدوات التطهير ذاتها لاتزال تحت سيطرة الجهاز الفاسد ذاته المتوارث عن منظومات سابقة  إلا أن اللهجة التحذيرية التي تحدث بها  الرئيس قيس سعيد عن ضرورة تطهير الإدارة قد أربكت عناصر هذا الجهاز  فانتشر الحديث من خلال الابواق الاعلامية  عن ثورة قادمة وثورة ضرورية إلا الإدارة  حيث  هناك مربط الفرس  اين توجد مصالحهم وهناك عصب الدولة والحكم  حيث  تقرر كل كبيرة و صغيرة  في خارطة يصعب تفكيكها  وحيث يلتقي الأخطبوط السياسي والمالي و المافيا ولأن الإدارة  ممثلة بطبيعة الحال في مسؤولين كبار فإن تفكيكها يعتبر خطا أحمر بالنسبة لهم  بما يتصور معه  صعوبة  محتمة في  تفكيك أخطبوط الفساد الإداري المحمي بشراسة من لوبي متمكن ونافذ يحاول إستغلال أزمات الراهن لتعود من جديد لتنكل بهذا الشعب.

المقترحات

لمعالجة أشكال الفساد ينبغي على الحكومة التونسية:إنفاذ القوانين القائمةبدءاً من تطبيق القانون الذي يُلزم المسؤولين التونسيين بالتصريح علناً عن ممتلكاتهم.

إشراك منظمات المجتمع المدني بما في ذلك المراكز البحثية في عملية صياغة وتطبيق إجراءات مكافحة الفساد لضمان أن تحظى الإصلاحات بالمقبولية  المبنية على اساس علمي اكاديمي ذو دراية وخبرة

إعطاء الأولوية لإنشاء محكمة دستورية، وضمان استقلال القطب القضائي الاقتصادي والمالي المكلَّف بالبحث والتتبّع والتحقيق والحكم في قضايا الفساد.

رقمنة العمليات الحكومية من خلال إعادة تنشيط مبادرة تونس الرقمية 2020، واستخدام نظام بطاقة التعريف الوطنية المُقترح للمساعدة في ضبط القطاع غير الرسمي.

الاستثمار بشكلٍ مكثّف في المناطق الحدودية لمنح الأفراد العاملين في القطاع غير الرسمي استراتيجيات  للحد من البطالة و التجارة الموازية و التهريب وما يعرف بالكونترامن ضمنها توفير التعليم واستحداث فرص عمل في القطاع الخاص.

By Zouhour Mechergui

Journaliste