الثلاثاء. ديسمبر 24th, 2024

إعداد قسم البحوث والدراسات الاستراتجية

عاد الجدل من جديد حول جدوى استقلالية البنك المركزي التونسي عن السلطة السياسية وما صاحبه من ردود أفعال مستهجنة ورافضة لهذا الإحتمال رجوع البنك للدولة “فكرتالات” المال والبنوك ومن ورائها من رجال الأعمال والفاسدين ومن ورائهم من قوى دولية هم لا يريدون أي طرح لهذا الموضوع.

فتبين بالكاشف أن لموضوع إستقلالية البنك المركزي تداعيات خطيرةومباشرة على الاقتصاد الوطني، وخاصة منه الإستثمار حيث بدأت  فكرة استقلالية البنك المركزي عن السلطة السياسية منذ طرح قانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلق  باستقلالية جهاز من أجهزة الدولة بعهدته والإشراف على جزء مهم من السياسة الاقتصادية العامة لبلاد هو البنك المركزي التونسي وبالتالي عدم التحكم مباشرة بالمال والمعاملات المالية والإقتصاد التونسي ومنها “التفويت في السيادة الوطنية” بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

والملاحظ أن الفكرة في حدّ ذاتها هي أوروبية اذ بدأت الفكرة بتحويل مسؤولية  السياسة النقدية من الحكومات إلى البنوك المركزية، استجابة للشروط المسبقة التي فرضتها معاهدة “ماستريخت”على الدول الأوروبية الراغبة في تحقيق الوحدة الاقتصادية والنقدية، فقررت الهيئات التشريعية في معظم بلدان الإتحاد الأوروبي تفويض البنوك المركزية بعبء السياسة النقدية وشمل هذا الاتجاه فيما بعد كثير من بلدان العالم ووصلت لنا العدوى في تونس سنة 2016.

حيث تنشأ هذه الاستقلالية من خلال توفر جملة من الركائز الاساسية  وهي ضرورة وجود استقلال قانوني عن الدولة، خاصة فيما يتعلق بتعيين مدة ولاية محافظ البنك المركزي، أو هيئته التنفيذية، كذلك استقلال أدوات السياسة النقدية، أي  معدل فائدة السيولة… وبالتالي لا يمكن الحديث عن استقلالية الا اذا تمتع البنك المركزي بصلاحيات كافية، من أجل تحديد السياسة النقدية، بما في ذلك طباعة النقود دون تدخل السلطة العامة او ضغط الدولة،  لقد ادى هذا الامر في عديد المرات الى ارتفاع نسبة التضخم في مقابل انخفاض قيمة الدينار.

يبقى الهدف النظري من إعطاء البنوك المركزية المزيد من الاستقلالية عن السلطة السياسية هو ضمان استقرار الأسعار وضبط معدلات التضخم في حدود منخفضة او مستقرة.

لطالما طرحت قضية استقلالية البنوك المركزية على رواد الاقتصاد العالميين  “هل من الحكمة تكليف شخص أو مجموعة من الأشخاص  أو ما يعرف بالبيروقراطية المالية بالتصرف بآلية خطيرة كالسياسة النقدية ؟

وهنا أقتبست مقولة “ملتون فريدمان”  حين يقول “النقد أخطر من أن نجعله بين أيدي موظفي البنوك المركزية”.

 فهل أن البنك المركزي لا يمكن أن يكون مستقلا إلا اذ تمرد على السلطة التنفيذية؟

 وهل ان عدم انضباط البنك يخدم الاقتصاد الوطني؟

لو نلقي نظرة على التجارب الدولية الاخرى، فمثلا بنك اليابان الذي تأسس سنة 1882 أحد البنوك الثلاثة المركزية الرئيسية في العالم اكتسب استقلاله عن الحكومة اليابانية وفقا لقانون 1 أفريل 1998، و مثل جميع البنوك المركزية الكبرى فهو  المسؤول عن تنفيذ.

السياسة النقدية للبلاد وضمان استقرارها المالي، والجدير بالذكر أنه  فيما يتعلق بتسيير السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف يحتفظ بنك اليابان بإتصال وثيق مع الحكومة اليابانية وذلك تمشيا مع السياسة الاقتصادية لهذه الأخيرة فالمثير للدهشة أن نرى تمكن هذا البلد من الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة ومستقرة بالرغم من ضعف درجة استقلالية البنك عن الحكومة.

نفس النتائج التي حققها الاقتصاد الألماني الذي يعرف بنكه المركزي Bundesbank بأعلى درجات الاستقلالية عن الحكومة الألمانية فالبنك المركزي الألماني يعتبر النموذج للبنك المستقل عن السلطة السياسية منذ سنة 1949، ونجاحه في إدارة السياسة النقدية يعتمد بالأساس على التنسيق التام مع الحكومة الألمانية…

 فقوة وتأثير هذان البنكان، بالرغم من تفاوت درجة الاستقلالية عن السلط السياسية تكمن بالأساس في قدرة مسؤوليته على التواصل مع أجهزة الحكومة  التي لها الدور الاشرافي والرقابي على مدى نزاهة وشفافية و قدرة  هذه البنوك فضلا على الكفاءة و المهنية لإدارة البنك .

إن السياسة النقدية هي جزء لا يتجزآ من السياسة الاقتصادية العامة للحكومة فلا يمكن لهذه الأخيرة إنجاح برنامجها الاقتصادي والاجتماعي بدون التنسيق بين مكونات هذه السياسة، كسياسة الأجور والأسعار والصرف  وسياسة القروض وسياسة النقد وسياسة ميزانية الدولة،…

ولا يمكن للبنك المركزي رسم السياسة النقدية بمعزل عن الأجهزة الأخرى للدولة. ففي حال التضارب بين السياسية النقدية وسياسة الميزانية، وتمسك كل من البنك المركزي والحكومة بموقفهما، فالنتيجة  الحتمية شلل اقتصادي يصيب البلاد وهذا فعلا ما يقع في تونس ولهذا الموضوع أصبح حارقا وخطيرا ويجب معالجته.

فنظرية البنك المركزي المستقل لا تؤدي بالأساس إلى التحكم بالتضخم والأسعار ولكن تناغم البنك مع منظومة مؤسسات الدولة هي التي تسمح بالوصول لهذا الهدف.

وضعية البنك المركزي التونسي اليوم:

أن منظومة التشريع المالي الحالية لا تسمح حقيقة بمجارات واقع السياسة العامة بالبلاد فكل منها “يرقص على نغماته الخاصة”،فهذا الواقع الذي يتحكم به ويتلاعب بأهم ركائزه ومقدراته “وحش الاقتصاد الموازي” الذي يلتهم كل شئ دون أن يكون للدولة نصيب من عائداته التي يصفها الخبراء بالعائدات الخرافية أي ما يضاهي نسبة 80 بالمائة فيما يشابه الاقتصاد الوطني وناتج داخلي خام لدولة في حد ذاتها.

 فسوق الصرف الموازية هو نتيجة للاقتصاد الموازي الذي يتعامل بالنقد عند الاستيراد والبيع خارج المسالك القانونية، وبالتالي فهو يحتاج لعملة يشتريها وعندما تتوفر العملة يمتهن بيعها وتصبح هي في حد ذاتها تجارة، فمن أسباب ظهور السوق الموازية للعملة في تونس هو قانون الصرف الذي يمنع العديد من التحويلات وهذا ما يخلق قانون صرف مواز، وكل ما هو مواز فيه إضرار كبير جدا بالاقتصاد المنظم.

كما أنّ  العامل الأساسي في تراجع تصنيف تونس الائتماني راجع الى عدم وجود منظومة إصلاحية واضحة وشاملة  للمالية العمومية، ورؤيا قانونية فعلية تتجاوب ومتطلبات الاوضاع الدولية الراهنة والتغيرات الحاصلة في السوق والاقتصاد العالمي مما يزيد من مخاطر العجز المالي  وتراجع النمو الاقتصادي، وهو ما يجعل نسب التضخم مرتفعة علاوة على إرتفاع حجم المديونية وبالتالي تخلف الدولة عن سداد ديونها، وبالتالي تراجع رقم معاملاتها وتصنيفها العالمي مع صندوق النقد الدولي.

تآكل كبير لخزينة البنك المركزي:

إن الاحتياطي من العملة الصعبة في خزينة البنك المركزي يتآكل  في المقابل تونس لديها ثلاثة أنواع من الالتزامات:أولًا ضرورة التزود بالمواد الأساسية من الغذاء وغيره بما فيها الأدوية  وضخها بالأسواق التونسية،

كذلك توريد الطاقة ومواد التجهيز والمواد الأولية اللازمة للإنتاج، 

ثم تسديد الديون الخارجية.

كما ان الاقتصاد الموازي في العملة أو في أي مجال آخر لا يحترم القوانين ولا يساهم في منظومة الجباية والاستثمار والتضامن الاجتماعي وينافس بشكل غير قانوني الاقتصاد المنظم لأن السوق الموازية للعملة لها علاقة مباشرة بتسعيرة العملة، أي أنه عندما يرتفع التضخم تتراجع قيمة الدينار وبالتالي ترتفع قيمة العملة وبذلك ترتفع قيمتها أيضًا في السوق الموازية، ولهذا فالدولة التونسية وهياكلها القانونية ملزمة لإيجاد الحلول ليس العقابية إنما الصلحية والتشريعية.

السوق الموازية أصبحت متواجدة في كل مكان وخاصة في تونس العاصمة والساحل و بن قردان  قابس والجم  وعلى الحدود وفي المعابر ومن وجهة نظرنا ان انتشار سوق العملة السوداء ليس له علاقة بضعف القوانين أو غيابها لأن القوانين موجودة وتجرم هذه العمليات غير القانونية وتنص على عقوبات لكل مخالف بل ان  ترسانة هذه القوانين على كثرتها لا تتسم لا بالجدوى ولا بالفاعلية حيث تثبت التجارب اليوم في الانظمة المقارنة  وان الاقتصاد الموازي والذي يوجد في الكثير من دول العالم قد استفادت منه هذه الدول، كإعادة  تقنينه وارجاع عائداته المالية الضخمة وادخالها مباشرة في خزينتها الوطنية، وذلك من خلال تغيير قاعدة التشريع الصرفي والمالي بهذه الدول، حيث يصبح الاقتصاد الموازي شكلا من اشكال الاقتصاد الرسمي بعد اجتثاث كل عنصر غير مشروع في هذه الصيرورة او السلسلة الاقتصادية وتطويعها او إعادة هيكلتها ضمن الاقتصاد الرسمي على ان يتم  إحداث لجنة تفقد محايدة لتفقد البنك المركزي وزارة المالية، مكاتب الصرف والادارات التابعة للديوانة والبنوك الاخرى… 

By Zouhour Mechergui

Journaliste