فرنسا لا تفلت الفرصة من أجل الرجوع في السباق “الهيمنة” على الدول الافريقية وخاصة مستعمراتها القديمة وبالرغم من التوتر في العلاقات فهي لا تزال تبدي اهتماما كبيرا لما يحصل في بعض دول الساحل على جميع المستويات وخاصة الأمنية والعسكرية والسياسية، حيث ترى أن ذلك يفرض تداعيات مباشرة على أمنها ومصالحها.
وفي هذا السياق، كشف انتشار قوات عسكرية فرنسية على حدود تشاد والسودان “بدون ترخيص”، في جوان الجاري، الغطاء عن عددٍ من الدوافع الفرنسية في مثل هذا التواجد العسكري، سواء ما يخص منها أهمية تشاد كـ”مرتكز للنفوذ”لها في منطقة الساحل، أو ما يتعلق بالتنافس مع روسيا حول هذا النفوذ، لا سيما مع انتشار مجموعة “فاجنر” في الجوار الإقليمي لتشاد.
ومن أهم العوامل التي تدفع فرنسا الى هذا التواجد العسكري على الحدود السودانية التشادية هي :
- أهمية التشاد كمرتكز للنفوذ الفرنسي في الساحل:رغم تعمد الحرس الجمهوري التشادي توقيف القوة الفرنسية، التي كانت تتجول قرب مدينة أدري الحدودية مع السودان، في 18 جوان الجاري، بالتزامن مع الجولة التي كان يقوم بها الرئيس محمد إدريس ديبي، لضمان الإغلاق الفعال للحدود مع السودان، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة مصلحة مشتركة تجمع بين باريس ونجامينا، وتتعلق بإضعاف المعارضة التشادية التي تشير اتجاهات عديدة إلى أنها ليست بعيدة عن الصراع العسكري في السودان.
- الحدّ من التداعيات السلبية للصراع السوداني على الأمن واستقرار النظام في التشاد: تسعى فرنسا إلى الحد من ارتدادات الصراع العسكري في السودان، والتي ترى أنها سوف تُحدث حراكاً إقليمياً في الجوار الجغرافي للسودان، خاصة تشاد، التي أعلن رئيسها محمد إدريس ديبي منذ اليوم الأول لاندلاع الصراع وقوفه مع الجيش، وأغلق حدوده الشرقية مع السودان. وخاصة مشكلة اللاجئين السودانيين في تشاد، التي طالبت المجتمع الدولي، في 24 جوان الجاري، بالتدخل من أجل مساعدتها في مواجهة هذا التدفق المستمر الذي ينتج أزمة إنسانية كبرى، حيث بلغ عدد اللاجئين السودانيين الذين وصلوا إلى تشاد، منذ بداية شهر جوان الجاري، نحو 115 ألف لاجئ، ليصل عدد اللاجئين في تشاد إلى نحو 800 ألف لاجئ 60% منهم سودانيون.يعني أن القتال الدائر في السودان يمكن أن تكون له نتائج كارثية على الداخل في تشاد، الذي يعاني بدوره من أزمات سياسية وأمنية واجتماعية والخوف كذلك من تحرك مجموعات الارهاب وخاصة بوكوحرام المتواجدين في بحيرة التشاد وغيرها من التنظيمات الارهابية التي ستسغل الفرصة للعودة للنشاط.
- تأكيد التواجد الفرنسي في إطار التنافس الدولي: نظراً لاشتراك السودان في حدوده مع سبع دول، ولأنه محور تقاطع مصالح وتطلعات متعددة من قوى دولية على رأسها روسيا، لذا فإن أكثر ما تخشاه باريس هو الانعكاسات السلبية على الاستقرار الإقليمي إذا اشتد الصراع العسكري في السودان، بما يمكن أن يُفيد منافسيها، لا سيما روسيا التي يمكن أن تسعى لاستغلال ذلك لتعزيز موقعها في مواجهة الضغوط والعقوبات التي فرضت عليها من جانب الدول الغربية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 فيفري 2022.
الخلاصة:
يُمكن القول في النهاية إن فرنسا التي كانت تحتفظ بقواعد عسكرية قرب العاصمة نجامينا في إطار ما كان يُطلق عليه عملية “إبيرفييه”، قبل أن يتم استبدالها في أوت 2014 بعملية “برخان” التي اتخذت من تشاد نقطة انطلاق لتنفيذ عملياتها في مالي والساحل الأفريقي، تسعى إلى الحفاظ على تواجدها العسكري في تشاد من أجل حماية مصالحها في منطقة نفوذها التقليدي، فضلاً عن دعم الحكم الانتقالي في هذا البلد، في مواجهة الحركات المتمردة من المعارضة التشادية.
ومن ثمّ يبدو أن “المصالح المشتركة” هي ما تقود التقارب بين نجامينا وباريس، حيث تُدرك باريس أهمية تواجدها العسكري هناك، خاصة في ظل الصراع الجيوسياسي متعدد المناحي في السودان، الذي تخشى فرنسا من أن يُصبح مُعقداً أكثر من وضع ليبيا التي تراجعت فيها فرنسا لحساب التنافس الدولي، خاصة مع إيطاليا.