الأثنين. نوفمبر 25th, 2024

عادل الحبلاني : قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية

إن كشف الحقائق داخل هذا الزخم المعلوماتي وتعدد المصادر, يبدو أمرا فيه من الصعوبة ما يجعل العملية معقدة نوعا ما, لكن هناك دائما مقاييس ووقائع تاريخية ومعطيات وأحداث يجب الوقوف عليها لاقتفاء آثار الحقيقة وكشفها وإظهار ما تمت اماطة اللثام عليه بكل الوسائل من مكينات اعلامية وشبكات تواصل اجتماعي وصفحات اخبارية وغيرها من الوسائل المؤثرة في الرأي العام العالمي بهدف توجيهه بما يتناسب مع مصالح دول بعينها. ولما كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تلاقي الادانات سواء كان ذلك من قبل الدول التي اصطفت إلى جانب الغرب وأمريكا أو من الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية, بطريقة جعلت الأسباب الحقيقية والعميقة مغيبة تماما ذلك أن العودة على بعض الوقائع التاريخية والعديد من المعطيات المتعلقة بالسياسات الغربية وخاصة الأمريكية تجاه روسيا الاتحادية سوف تكشف لنا الأسباب الرئيسية الثلاثة التي جعلت من روسيا تتخذ خطوات تصعيدية تجاه الحكومة الأوكرانية التي حولتها أمريكا إلى ساحة حرب بالوكالة لمواجهة روسيا كما تريد تحويل تايوان وبحر الصين إلى ساحة حرب لمواجهة القوة الاقتصادية الصينية, وعلى الرغم من أن الحرب هي شر ودمار ولا يمكن للإنسان العاقل قبول سفك الدماء وموت الابرياء ولا التبرير أساسا لفكرة الحرب, إلا أن التاريخ يقول دائما أن للأحداث المؤلمة جوانب مشرقة تكون نتائجها إما آنية أو بعيدة المدى, ذلك أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تمثل اليوم للمجتمع الدولي نقطة التحول في النظام العالمي أو نقطة أرخميدس التي من خلالها يمكن تقديم تصورات جديدة للعلاقات والسياسات الدولية, سيما بعد السيطرة الأمريكية والغربية على العالم لأكثر من قرن, قرن من الاستعمار والاستغلال والنهب لثروات الشعوب ومقدراتها تحت مسميات الديمقراطية وتحت شعار دمقرطة الشعوب المتخلفة عبر عولمة النموذج الليبيرالي الغربي بقوة السلاح الممثلة في حلف الناتو.

تمثل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا المسمار الأخير في نعش النظام العالمي وحجر الزاوية لمنطلقات جديدة وتصورات أخرى للعلاقات الدولية والمعاملات الاقتصادية والمالية, ذلك أن هذه الأخيرة استطاعت أن تبين هشاشة النظام العالمي وحالة الفرقة الداخلية خاصة في ظل حالة التلكؤ التي يشهدها الغرب وفي ظل التصريحات النابية بين الدول الغربية وأمريكا ومن داخل حلف الناتو نفسه.

ماهي الأسباب التي دفعت روسيا إلى اتخاذ خطوات تصعيدية تجاه الحكومة الأوكرانية  ؟

إلى أي مدى يمكن اعتبار العملية العسكرية الروسية نقطة التحول في شكل النظام العالمي ؟

  التهديدات الغربية الأمريكية دفعت روسيا للتدخل عسكريا في أوكرانيا

لا يمكن الحديث عن الأسباب المباشرة للعملية العسكرية الروسية دون العودة على حيثيات تشكل أوكرانيا بعد أن كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي وهو الأمر الذي لا تنفك القيادة الروسية عن ذكره في كل محطاتها الاعلامية, حيث وبالعودة على تاريخ تشكل اوكرانيا نستحضر ما أقدم عليه البلاشفة, بعد انتصار الثورة البولشيفية وخاصة فلاديمير لينين الذي قام بفصل جزء من اراضي الاتحاد السوفياتي وتمزيق وحدتها, بالإضافة إلى ذلك فقد قام “خروتشوف” في العام 1954 باقتطاع شبه جزيرة القرم ووهبها لأوكرانيا, تحت ضغط القوميين وحبا في البقاء في السلطة, حيث تم التفويت في الأراضي السوفياتية لما كان يطلق عليهم الاستقلاليين وقتها, بما سمح للجمهوريات المتشكلة حديثا الحق في الانفصال عن الدولة الأم, وعلى الرغم من المراجعات التي قام بها ستالين للسياسات وأفكار لينين, إلا أن هذه المراجعات لم يتم دسترتها ولم يتم بالتالي ادراج التغييرات  ذات الصلة  في الوثائق المكونة للنظام و في دستور البلاد. ولعل ما أتى على ذكره المؤرخ الروسي بافل غوستيرين لهو أكبر دليل على حيثيات تشكل أوكرانيا والاطار والأحداث التاريخية التي ساهمت في نشأتها, حيث كان يطلق على اسم ” أوكرانيا” ” مالا روسيا”  أو “روسيا الصغيرة” وتعني كلمة أوكرانيا باللغة الروسية ” الأرض الحدودية”.

 خلافا للأسباب التاريخية التي دائما ما كانت حاضرة بطريقة ملحوظة فهنالك أسباب أخرى مباشرة متعلقة أساسا بالسياسات الغربية وخاصة الأمريكية تجاه الدولة الروسية, حيث لم تنفك أمريكا عن السعي لمحاصرة روسيا من خلال وكلاءها ضاربة بذلك عرض الحائط كل المعاهدات والتعهدات التي ابرمت بين البلدين, ولعله يمكن تلخيص هذه الأسباب في ثلاثة أسباب رئيسية وهي محاولة أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو والشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومساعيها امتلاك سلاح نووي, وحيث أنه لا يمكن اقتفاء آثار هذه المساعي بمعزل عن المخططات الامريكية والغربية تجاه روسيا سيما في ظل عودها على الساحة الدولية وقدرتها على صناعة السياسات والقرارات الدولية, فإن العودة على الخطوات التي أقدم عليها حلف الناتو هي ضالتنا في فهم الرد الروسي من جهة على أوكرانيا ومن وراءه امريكا وفهم طبيعة السياسات الأمريكية تجاه من تعتبره عدوها التقليدي روسيا وكل القوى التي يمكن لها أن تنافسها والساعية إلى تغيير ملامح النظام العالمي الذي تحكمه أمريكا لأكثر من قرن, ولعل ما يدعم فهمنا لهذه المسألة على هذا النحو هي الخطوات الأوكرانية الحثيثة  إلى الانضمام إلى حلف الناتو وفق الخطة التي أعلنت عليها كييف في العام 2000, بالإضافة امتلاك السلاح النووي والترحاب والقبول الذي لاقته هذه المساعي من قبل أمريكا وحلفاءها الأوروبيين, ويعود ذلك لما لهذا الأمر من مصالح أمريكية بامتياز تتمثل أساسا في تطويق روسيا ومحاصرتها في أكثر الجبهات تقدما.

إن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هي بالأساس عملية ضد حلف الناتو ووكلاءهم في كييف وهي أيضا تصدي لحجم الدعم بالمال والسلاح الذي تتلقاه كييف من كل الدول الغربية وامريكا… ولسائل أن يسأل هل يقدم الغرب كل هذا الدعم من مال ودبابات وصواريخ متطورة وطائرات دون طيار وغيرها من الأسلحة الثقيلة إيمانا منه بحق ” تقرير المصير” وسلمة الأراضي” وسيادة الدول على مجالاتها الحيوية برا وبحرا وجوا أم أن المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية  ولاقتصادية ومواصلة الهيمنة على العلم هي الحافز وراء هذا الدعم والتريليونات التي تنفق دون شرط وقيد ؟

 لا يتعلق الأمر البته بتلك الشعارات التي لا تظهر إلا عند تهديد المصالح الأمريكية والغربية, فالمسألة تعود من جهة للمصالح الأمريكية الغربية المنشودة, والتي يمكن تلخيصها في مصالح اقتصادية متعلقة أساسا بالإمكانيات الطاقية من نفط وغاز وأورانيوم ومعادن نفيسة تتوفر عليها أوكرانيا, بالإضافة إلى وفرة زراعية وفلاحية تمثل خطوط تزويد للسوق الأوروبية خاصة من مادة القمح, ناهيك عن كونها سوق استهلاكية كبيرة للدول الأوروبية, أما من جهة ثانية واستراتيجيا بالتحديد فيندرج هذا الدعم في إطار تحويل أوكرانيا إلى شوكة في ظهر روسيا وذلك بمجرد انضمام كييف إلى حلف الناتو, الأمر الذي يعني خلق جبهة متقدمة لمحاصرة روسيا على حدودها بما يضيق الخناق على كل تحركاتها سيما بعد خروجها للساحة الدولية خاصة بعد الأزمة السورية والليبية وقدرتها على احباط المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وحتى في الداخل الافريقي وتمكنها من قلب معادلة الغاز في حوض البحر الأبيض المتوسط وقدرتها على المحافظة على مكانتها الطاقية في العالم وفي اوروبا كمزود أول للغاز والقمح, ليس هذا فحسب بل تمكنها من فرض مقولات جديدة في النظام المالي العالمي من خلال توجيه ضربة موجعة للدولار كعملة موحدة للمبيعات النفطية مما أربك صناع القرار في واشنطن وأوروبا.

العملية العسكرية الروسية منطلق للتحولات العالمية الكبرى

 لا يمكن قراءة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا خارج سياق مخططات نظام القطب الواحد, كما لا يمكن أن نستشف نتائجها الايجابية إلا ضمن اطار يسمح بفهم الدفاع الأمريكي الغربي المستميت على حكومة كييف, حيث ومن جهة كونها مواجهة بين الغرب وروسيا على خلفية التهديد الشبه المباشر والمباشر للأمن القومي الروسي والأمن العالمي من وراءه فهي في الآن نفسه محولات دفاعية أمنية غربية لمواجهة التحولات العالمية والمحافظة عليه في شكله الحالي والذي مثلت روسيا فيها نقطة الانطلاق نحو منطلقات جديدة لتصورات أكثر انصاف في العلاقات الدولية وخاصة أكثر احترام, ولعل نقطة الانطلاق هذه وان تجلت ارهاصاتها الأولى من خلال محاولات متفرقة للعديد من الدول التي لم تعد تقبل النظام العالمي في شكله الأمريكي الغربي ونموذجه المعولم لأكثر من قرن, فإنها اليوم تمثل واقع حقيقي وعيني يمكن ملاحظته في السياسات الجديدة للعديد من الدول على غرار دول الخليج ودول آسيا وأمريكا اللاتينية والعديد من الدول الافريقية التي أعادت توجيه بوصلتها من جديد بما يسمح لها بتحقيق مصالحها ومصالح شعوبها, وإذ نقتفي آثار هذه التحولات التي شكلت فيها روسيا نقطة أرخميدس للنظام العالمي, فإننا ننطلق من جملة من المعطيات التي تؤكد حجم هذا المنجز على الرغم من الآثار السلبية للحرب بوجه عام, حيث تسقط المعاملات المالية في قطاع الطاقة من عرش “البيترودولار” إلى صيغ جديدة ومعاملات مالية بالعملات المحلية على غرار” البيترويان” و”الروبل يان” حيث تجلت علاقات تبادلية مالية طاقية جديدة بين دول الخليج وروسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية بالإضافة إلى دول أخرى على غرار ايران والعديد من الدول الافريقية التي انخرطت في هذه المقولات الجديدة, كما يبقى الحدث الفارق في التاريخ المعاصر هو اشتراط روسيا امدادات الغاز للداخل الأوروبي بالعملة الروسية وهو الأمر الذي كسر فعليا الهيمنة الأوروبية من جهة وزعزع وأربك عملة الدولار كعملة موحدة و عابرة للحدود, أما على الصعيد الاقتصادي فقد استطاعت هذه العملية فتح الباب أما اتحادات اقتصادية جديدة وشراكات أخرى بعيدة عن منطق الاكراه والاستغلال الاقتصادي والتجاري وفرض الهيمنة الاقتصادية بقدر ما تهدف إلى تكريس الاحترام والنفع المتبادل وهو ما تجلى خاصة في الشراكات الاقتصادية بين روسيا والعديد من الدول الافريقية التي بلغ فيها حجم المعاملات 20 مليار دولار, ناهيك عن الشراكات القوية التي أبرمت مؤخرا مع كل من مصر والجزائر وافريقيا جنوب الصحراء وموزنبيق وزامبيا والغابو, حيث مشروع المحطة النووية في مصر بقيمة 25 مليار دولار و مشاريع تعاونية في مجال الطاقة مع الجزائر علاوة على الاستراتيجيات الأمنية المشتركة, أما إفريقيا جنوب الصحراء فإن الاتفاقيات المبرمة في مجال المعادن والطاقة بقيمة 3 مليار دولار, في حين تعمل شركتا “إكسون موبيل” وشركة “آر إن إكسبلوريشن” -اللتان تتبعان “روس نفط”- في إنتاج الغاز في شمال موزمبيق وتقدر حجم الاحتياطات بنحو 2.2 تريليون متر مكعب… هذه الخطوات التي ساهمت فيها العودة الروسية على الساحة الدولية وأكدتها العملية العسكرية الروسية استطاعت أن تكسر طوق الدولار ووفرت للعديد من الدول فضاء واسعا للإفلات من قبضة الدول الغربية وخاصة أمريكا نحو توجهات جديدة على غرار منظمة البريكس التي تستطيع داخلها الدولة الساعية للانضمام إلى اعتماد عملاتها في التعاملات التجارية والاقتصادية.

ويبقى الجانب الأهم في ما أتت عليه العملية العسكرية الروسية, هو الجانب السياسي والأمني, حيث ولأول مرة منذ أن تأسس حلف الناتو نجده يعيش حالة من الارباك وعدم القدرة على التدخل العسكري كما فعل ذلك في سوريا وليبيا ومن قبلهما في العراق, فإلى جانب الفرقة الداخلية لدول أعضاء الناتو في ما يتعلق بالتمويلات العسكرية, فإن تصريحات القادة العسكريين الروس وخاصة تصريحات فلاديمير بوتين الملوحة باستعمال اسلحة الدمار الشامل والاسلحة النووية في حين أقدم الناتو على التدخل المباشر, ناهيك عن القدرة الصاروخية وخاصة الصواريخ البالستية  والصواريخ طويلة المدى علاوة على أسلحة الدمار الشامل وطائرة “نهاية العالم” والأسلحة النووية التكتيكية والغواصات, جعلت من الغرب يتراجع بطريقة غير مسبوقة ويحول فكرة التدخل المباشر الذي إعتاده حلف شمال الأطلسي مع الدول الضعيفة إلى فكرة تسليط حزمة من العقوبات الاقتصادية, التي وفق العديد من الخبراء الاقتصاديين فشلت فشلا ذريعا خاصة وأن العديد من الدول وخاصة الصين ودول الخليج والعديد من الدول من شمال افريقيا وغربها  كسرت هذه العقوبات من خلال محافظتها على علاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية مع روسيا الاتحادية.

تمثل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا نقطة التحول السياسي والأمني في العلاقات الدولية, الأمر الذي شكل تصورات جديدة ومنطلقات كبرى لما يمكن تسميته بالتحولات العالمية الكبرى التي أتت على كل ما هو أمني وسياسي وعسكري واقتصادي ومالي بأن شكلت اللبنة الأولى لانهيار النظام العالمي الذي سيطرت عليه أمريكا والغرب لأكثر من قرن.       

By amine