يقول الاكاديمي الامريكي المعاصر “كارل دويتش” في تعريفه للقوة في ابسط معانيها: هي القدرة على السيطرة في صراع ما والتغلب على العوائق وفي هذا المعني يطرح “لينين” قبل الثورة الروسية قضية مركزية في السياسة هو السؤال المكون من كلمتين” من؟ ومن؟” بمعني من سيكون سيد العمليات والأحداث ومن سيكون ضحيتها؟
اللوبيات الاجرامية الرسمية ومفاصل الدولة العميقة .
بعد الاطاحة بمعظم الأنظمة التي كانت تعتبر دكتاتورية في نظر قوى الضغط الدولية ، اتجهت الفصائل الحكومية التي تركت ضعيفة وواهنة تحت استقطاب الدول المتمركزة و الفاعلة في الوزن العالمي ، إلى تغيير تقنيات الاستضعاف كخير وسيلة لاستدامة الازمات في هذه الدول الثرية جغرافيا و الهزيلة سياسيا ، بل الهشة اقتصاديا وذلك من باب المفارقات …
الميليشيا هي تنظيم او جماعة مسلحة تصنعها وتنتدبها لوبيات اجرامية ثم تستخدمها في اطار وفاق اجرامي او ذئاب منفردة ، او مجموعة معسكرة تسمي نفسها جيش تشكله قوات غير نظامية يعملون بأسلوب حرب عصابات و شوارع ، يقع توظيفها او استخدامها عند الطلب او في صورة العصيان او المؤامرات او قلب أنظمة الحكم وحتى في تنظيم عمليات الارهاب و الترهيب او الاستخبار و الاختراق بمفهوم عقيدة الميليشيات.
لقد وقع تصنيفها كمنظمات مسلحة تابعة لجماعات او لأحزاب أو حركات سياسية عادة ما تكون مناهضة ، او كقوات دفاعية يقع تشكيلها من طرف سلطات الرسمية نفسها للدولة ولكنها تتحول فجأة وفق مصالح معينة متى وقع استدراجها او توظيفها من جهات اخرى كأن تكون جهة اجنبية لتتحرك بحسب المخططات المرسومة لها . كثيرة هي الانظمة التسلطية العربية التي سعت الى عدم الاطاحة بقواعدها الحاكمة بعد ربيع الثورات فكان لجوؤها إلى صناعة الميليشيات و التنظيمات الموازية المنصهرة داخل الدولة المركزية وفق تقنيات معقدة ، ضمانا لديمومتها مهما تبدلت انظمة الحكم ومتغيرات السياسة ومواجهة الظروف …
عادة ماتتحرك هذه اللوبيات الاجرامية كامتداد سرطاني مزروع داخل الاجهزة الرسمية للدولة وهذه اللوبيات تبقى غير مصنفة الا بعد تنفيذ مخططاتها ، لماذا لأن خطورتها كامنة في تغلغلها ضمن دواليب واجهزة الدولة ومهمتها رد الفعل الاجرامي باعتبارها قو غير رسمية ف يمكنها المساعدة اما على توطيد دعائم الحكم وترسيخه، وباعتبار تلك الميليشيات ذراعا خفية تتمكن بها الدولة الضعيفة أو الفاشلة من تحقيق مآربها في سحق خصومها وقمعهم من غير أثر واضح خلفها او انها مستدرجة لصالح جهة اخرى موازية للدولة الشرعية تسمى بالدولة العميقة …
الدولة العميقة ،منذ تسعينيات القرن الماضي استعمل مصطلح الدولة العميقة للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات او المؤسسات الرسمية الدفاعية او القضائية او الإعلامية التي تجتمع على هدف الحفاظ على مصالحها ضد أي تهديد والعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه بما يحفظ تلك المصالح المتشابكة، ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة الموازية ، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة. برز بعد ذلك تلك المفهوم بتعريفات مشابهة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية مع إنشاء الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية، وبدا أن الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.
تعمد ميليشيات او التنظيمات الإجرامية التي توظفها الدولة العميقة كي تحافظ على شبكات المصالح بداخلها ومن ذلك استخدام العنف في إطار حالات استثنائية خارج إطار القانون وهو ما يعرف بحالة الاستثناء، حتى وان تعلق لأمر بعمليات إجرامية ترتكبها جهات رسمية امنية باعتبار وان الدولة العميقة ذاتها لها ما للدولة الرسمية من متعلقات الأمن القومي و الأمن الخارجي وأنه هناك دائما عدو مترصد لابد من التأهب دائما لصده عن ما يشكله من تهديد لها حتى ولو كان هذا العدو من داخل فصائلها وهنا تبدأ التصفيات …، فليس بعيدا ان يقع استغلال المؤسسات الرسمية للدولة الرسمية ك المؤسسة الأمنية او الاقتصادية …لنأخذ على سبيل المثال المؤسسة الدينية التي تسيطر عليها الدولة لتبرير تلك الاجراءات من الناحية الدينية حتى يتم إضفاء طابع “شرعي – ديني” على ممارسات الدولة الأمر الذي يدفع المواطنين بالتزام الصمت .
كذلك الامر حينما تعمد الميليشيات الموظفة أمنيا داخل الجهاز الموازي الى افتعال الجرائم وحتى الجرائم الماسة بأمن الدولة او الحوادث الارهابية لأجل تحقيق غايات ومصالح مركزية بالنسبة لها من ذلك قد تعمد الى تحريك سيناريوهات ارهابية في اطار الضغط من اجل الزيادة في حجم النفقات والتمويلات العادية المعتمدة ضمن تعاون دولي مشترك في اطار منح داخلية وأجنبية من ذلك عمليات حفظ السلام التابعة للولايات المتحدة او المنح المسندة من طرف برنامج الولايات المتحدة في اطار مكافحة مخاطر الإرهاب الدولي … فهي تعتبر نفسها حامية لمجموعة سياسية أو عرقية أو دينية أو عائلية محددة، بافتراض الثغرات التي يعتقد أن الدولة غير قادرة أو غير راغبة في سدها باعتبارها “قوى لملء الفراغ أو كأوصياء ”.
جهاز اجرامي فميليشيات أم تنظيمات الإرهابية؟
يعتبر الباحث” ماتيو بوجليس” في حديثه عن التحديات الأمنية الهجينة المعاصرة في توضيح الاختلاف بين الميليشيات او التنظيمات الإجرامية وبين التنظيمات الإرهابية وان صفة الميليشيات المسلحة تكاد تقترب من التنظيم الإرهابي لكنه ينبغي التفريق بين الاثنين، ففي الوقت الذي تكون فيه الميليشيا هي اقرب للنظام الحكومي وتتحرك وفق إرادة الدولة في اغلب الأحيان فان التنظيم الإرهابي هو أيضا جماعات مسلحة إلا إنها لا تلتقي مع الدولة من قريب أو بعيد بل ان عقيدتها تتمركز بالذات من أجل القضاء على النظام الرسمي بما يعني “الدولة ” بحسب الوضع الجيوسياسي الذي تكون فيه .
التنظيمات الإرهابية والمتمردة وتشكيلات حرب العصابات هي جماعات مسلحة، تسعى بنشاطٍ امني ما للإطاحة بالدولة واستبدالها في حين تسعى العصابات او الميليشيات الإجرامية المنظمة أو العصابات إلى ضمان استمرارية وجود كينونتها داخل الدولة العميقة هذا ويعتقد بعض الأكاديميين أن الميليشيات تمثّل شكلًا خاصًا من أشكال العنف المنظم الذي يسعى إلى اكتساب الشرعية السياسية. وبناءا على تجارب دولية عدة اظهرت وانه يمكن ان يقع تفويض العنف او ارتكاب الاغتيالات والتصفيات ومختلف اشكال الاجرام الخطير بشكلٍ غير رسمي لهذه الأجهزة المكلفة حتى وان دفعها الامر الى ان يكون الفعل الإجرامي ذاته قد اخذ صبغة ارهابية بما ينسبه الى تنظيم إرهابي ما وهو شكل تكتيكي يجنب الجهة المكلفة تجنب المساءلة واستبعاد الشبهات و التورط … وهو اسلوب متطور تنتهجه الدولة العميقة كنوع من الاستخدام المقنع .
خلاصة القول هي أننا أمام تكتل وشبكة معقدة من العلاقات والتداخل بين أجهزة ومجموعات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية ومدنية ودينية لمقاومة أي تغيير يطرأ من شأنه أن يهدد المصالح الحيوية التي يتوقف عليها وجود الدولة العميقة والقائمين عليها للحفاظ على المصالح الاقتصادية و ديمومة ان تكون متمركزة ضمن الأمن القومي و الخارجي والسيطرة على السوق الداخلية، والحروب وقلب الأنظمة السياسية الحاكمة خصوصا متى كان النظام السياسي المتمركز في اعلى هرم الدولة سائرا ضد مصلحة الدولة العميقة التي تمثل القيادة المستبطنة .
تم اعتماد المراجع التالية :
-علي جلال معوض، مفهوم القوة الناعمة وتحليل السياسة الخارجية
-المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ”الميليشيات المسلحة: عوامل الظهور، المخاطر والمعالجات”
– ماتيو بوجليس، استجلاء مفهوم المليشيات : نموذج للتحديات الأمنية الهجينة المعاصرة