عادل الحبلاني : قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية
بعد الاعلان الامريكي وحلفائها عن الفوز الساحق على التنظيمات الارهابية وخاصة داعش والهزيمة الكبرى في العراق وسوريا وخسارتها لأكثر من 90 بالمائة من “ميادينها” و”معسكراتها” ساد اعتقاد بأن تنظيمي داعش والقاعدة وكل التنظيمات الارهابية الأخرى على اختلاف تسمياتها قد انتهت خاصة في ظل الهزائم التي لحقتهم في سوريا والعراق كما في شمال افريقيا وغيرها واليوم يستفيق العالم والمختصين في المجموعات الارهابية بأن الهزيمة كانت لجولة وليس لحرب على الارهاب وتنظيماته وها هي هذه التنظيمات تتحرك اليوم وخاصة منذ نهاية 2022 وبداية 2023 ورجعت تستقطب وتخطط لعمايلاتها الميدانية وكذلك تستقطب في جميع ارجاء العالم لتولد اجيال جديدة من الارهاب وربما لأسماء جديدة للتنظيمات الارهابية في مناطق جديدة في العالم الذي أصبح يشهد تحولات جيوسياسية جديدة.
ذلك أن طبيعة مثل هذه التنظيمات هي بالأساس طبيعة عقائدية وأيديولوجية لا يمكن القضاء عليها بمجرد القضاء على قياداتها ولا حتى أعداد كبيرة منها، ويعود ذلك أيضا إلى كونها شبكة عنكبوتية متداخلة ومتفرعة على أكثر من جهة وفي أكثر من دولة.
بالإضافة إلى ذلك فهي تنظيمات تحت الطلب أي أنها قابلة للتوظيف من قبل وخدمة الأجندات الاقليمية والدولية حفاظا منها على تواجدها واستمراريتها، ولعل المثال الأبرز والذي لا يمكن أن يمحى من صفحات التاريخ، الدعم الذي قدمته أمريكا “المثل الأعلى التمثيلي للديمقراطية”، لحركة طالبان لمواجهة الاتحاد السوفياتي والمد الشيوعي…
فتنظيم داعش إلى جانب كونه صناعة أمريكية وفق العديد من الشهادات الاستخباراتية والتحليلات السياسية هو صناعة أمريكية و اليد التي تستعملها أمريكا داخل اطار الحرب بالوكالة وتنفيذ الأجندات وتحقيق المصالح الأمريكية.
ولعل اعادة ظهور تنظيم داعش اليوم سيما في خضم التحولات العالمية الكبرى التي أتت على تحطيم صرح وبنية النظام الدولي في شكله القديم، خاصة وأن التحولات اليوم خرجت من طور الصراع بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي لتدخل طور جديد يتمثل أساسا في تغيير بنية النظام العالمي شكلا وجوهرا.
لذلك فإن عودة تنظيم داعش وزخم الحركات الارهابية وتعددها وخاصة انتشارها تقريبا في أغلب دول العالم (على غرار القارة الافريقية وأوروبيا وآسيا وحتى أمريكا اللاتينية) ليس بالظهور العفوي أو هو تعبير عن التعافي الحركات الارهابية، بقدر ما هو ظهور مرتبط أساسا بانخراطه في الصراع الدولي لا من منطلق الوعي بضرورة التموقع بل عملا بتحقيق المهام الموكلة إليه والمتمثلة أساسا في هدم وتقويض البنى الجديدة التي ترسمها العديد من الاطراف الاقليمية والدولية وادخال حالة الفوضى العارمة في كل نقاط التحول والتغير التي تمس من النظام العالمي الذي يقوده الغرب وخاصة أمريكا.
القاعدة وداعش صناعة المخابرات الأمريكية
لم تكن السياسة الخارجية الأمريكية يوما سياسة تهدف إلى تكوين علاقات دولية تقوم على أساس المصالح المشتركة والاحترام السيادي المتبادل لذلك دائما ما كانت السياسات الخارجية الأمريكية تهدف إلى خلق التوترات والنزاعات وصناعة كل الأدوات التي من شأنها خدمة المصالح الأمريكية، حيث وبالعودة على تاريخ هذه السياسات تستوقفنا أحداث مهمة تتمثل أساسا في الدعم الأمريكي للحركات المتطرفة، حيث يرى “كريكاي تشينكو” الباحث في السياسات الأمريكية أن تنظيم القاعدة كما تنظيم داعش هما صناعة أمريكية بامتياز ويستشهد الكاتب بما قامت به وكالة الاستخبارات الامريكية في سنة 1970 والمتمثل أساسا في صناعة الإخوان المسلمين ودعمهم بكل الوسائل السياسية ليكونوا بمثابة السد المنيع أمام انتشار الفكر الشيوعي في المجتمعات العربية ويؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة الأمريكية قد دعمت الارهابيين في كل من أفغانستان وأندونيسيا وباكستان وليس بالخفي كما يقول كريكاي تشينكو أن أسامة بن لادن هو وليد المخابرات الأمريكية والتي تعني حرفيا ” قاعدة البيانات” المتألفة من ألاف المتطرفين الاسلاميين الذين تتعامل معهم أمريكا.
ولما كان تنظيم القاعدة صناعة أمريكية بامتياز والخادم المطيع الذي يتلقى الدعم بالمال والسلاح فإن تنظيم داعش يختلف عن تنظيم القاعدة من حيث سياقات نشأته وقدرته على الانفلات من بين آيادي المخابرات الأمريكية حيث لم تعد قاعدة البيانات قادرة على استيعاب الأعداد الغفيرة التي انضوت تحت لواء التنظيم ولا هي بقادرة على تحديد نشاطاته ولا تحركاته التي أصبحت عابرة للقرات، إلا أن هذا لا ينفي كما يقول الكاتب قدرة الاستخبارات الامريكية على اختراق صفوف داعش واستعمالها كأدوات لتنفيذ سياساتها في الشرق الأوسط والمتمثلة أساسا في النفط والغاز من جهة وأمن اسرائيل من جهة ثانية.
إن صناعة التنظيمات الارهابية على غرار تنظيم القاعدة وداعش لا ينفصل أساسا على الصراعات الاقليمية والدولية ولا ينفصل أساسا على السياسات الخارجية الأمريكية التي تحولت من التدخلات العسكرية المباشرة كما فعلت في أفغانستان والعراق ومن قبلهما فيتنام إلى سياسة الحرب بالوكالة.
داعش أداة في يد النظام العالمي المتأمرك
يعيد التاريخ انتاج نفسه في كل مرة فهو يذكرنا اليوم بأن تنظيم داعش لا يختلف تماما عن تنظيم القاعدة من حيث الأجندات التي تحركه، فكما جاء تنظيم القاعدة في سياق محاربة المد الشيوعي، فإن تنظيم داعش اليوم يتنزل داخل اطار مواجهة أمريكا للتغيرات التي طرأت على النظام العالمي والتحولات التي اتسعت رقعتها خاصة بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي تعتبر المسمار الأخير في نعش حلف الناتو.
بالإضافة إلى عودة التنين الصيني كقوة اقتصادية وقوة اقتراح تعاونية توجها طريق الحرير والسياسات الخارجية المرنة لجمهورية الصين الشعبية، ناهية عن الاستفاقة الدولية والرفض المعمم للنظام العالمي الذي تقوده أمريكا ومن وراءها الغرب.
هذه العوامل الاقتصادية والعسكرية وخاصة المتعلقة بتغير سياسات وتصورها لنظام عالمي جديد، دفعت العديد من الأطراف الدولية إلى إعادة داعش إلى واجهة الساحة الدولية باعتباره الأداة الأكثر عنفا ووحشية عملا بمقولة الفوضى الخلاقة التي تحاول من وراءها هذه الاطراف انقاذ ما يمكن انقاذه من شتات النظام العالمي بعد أن كانت طرفا رئيسيا في التحالف الدولي لمواجهة التنظيم، ولعل انتشار التنظيم في أماكن استراتيجية ومتعددة حيث التواجد الصيني والروسي هو خير دليل على الدعم الذي يتلقاه التنظيم من قبل قوى بعينها للتصدي للمد الاقتصادي الصيني وضرب مشروع طريق الحرير البري والبحري بتعلة ما يسمى بتمدد الإمبريالية الصينية، حيث يمكن تفسير استهداف داعش خرسان داخل هذا الاطار الذي يكرس لفكرة الحد من التوسع الاقتصادي الصيني التي يمكن اعتبارها في التحليل الأخير سردية من سرديات الخارجية الأمريكية والغرب عموما وليست كما يدعي الكثيرون تطورا لافتا في خطاب التنظيم بل لها دلالات أكثر من ذلك تتمثل أساسا في استهداف المشاريع التي تندرج في مبادرة الحزام والطريق، والمقدرة بالمليارات من الدولارات، الأمر الذي يؤكد بالضرورة أن تنظيم داعش ليس الا اداة لمواجهة التوجهات الاقتصادية العالمية الصينية بإيعاز من صانعيه وداعميه وغلق المنافذ أمام التواجد الروسي في المناطق الحيوية على غرار إفريقيا والشرق الأوسط.
لا يقتصر هذا التوجه في نشاطات داعش وتحركاتها على داعش خرسان فحسب بل هو آخذ في مزيد التجذر في كل من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وبالتحديد أين تتواجد الشركات الروسية والصينية وكل ما يتهدد النظام العالمي الذي تقوده القوى الغربية وعلى رأسهم أمريكا ومن المتوقع في سنة 2023 أن تزداد العمليات الارهابية للتنظيم والتي ستكون موجهة خاصة نحو غلق المنافذ أمام المشاريع الاقتصادية الصينية والروسية وذلك من خلال هز كل الاركان الأمنية خاصة في افريقيا التي تعرف حالة من التدهور الأمني والغياب الكلي تقريبا لمنظومات أمنية قادرة على حماية اقتصاداتها ومشاريعها المستقبلية, الأمر الذي يمكن أن يذهب بروسيا والصين إلى تأمين مشاريعها بالتعاون مع الشركات الأمنية الخاصة ودرأ كل ما تقدم عليه هذه التنظيمات.
الخلاصة:
يبدو أن التحولات العالمية الحاصلة اليوم سوف تكون لها تبعات غير محمودة خاصة في ظل تعنت القوى الامبريالية الكلاسيكية ورفضها لضرورة تغيير النظام العالمي والخروج من حالة الأحادية القطبية إلى منطق تعددية القرارات ومفهوم الأقطاب المتعددة، ويبدو أنه من الخطأ التاريخي أن تدعم القوى التي تنتصر للديمقراطية والحرية مثل هذه التنظيمات الارهابية، وتسخرها لأجل مصالح سياسية واقتصادية ضيقة متنكرتا لكل ما من شأنه أن ينفع المجتمع الدولي والانسانية عموما.