الأربعاء. أكتوبر 30th, 2024

ظلت ديناميكية الادماج والاقصاء و “برهان سالوت” السمتان الجوهريتان اللاتان تحركان تاريخ العلاقات الدولية, وظل الخوف من التهديدات الخارجية ومن تعاظم سلطة الامبراطوريات والدول هو العامل الذي صقل العلاقات الدولية ونحت معالم نظام العالم في فترات مختلفة من التاريخ, فخوف روما من قرطاج هو ما صقل وحدة الجمهورية الرومانية, وخوف الدول الغربية وأمريكا من النظام الشيوعي الذي اجتاح العالم من المحيط إلى الخليج هو ما نحت معالم النظام العالمي ذو القطب الواحد والبعد الليبيرالي الواحد. لكن سقوط نظام الامبراطورية الرومانية لم تكن أسبابه متعلقة بقرطاج  بقدر ما هي أسباب تتعلق بفساد المؤسسات السياسية و الاقتصادية والعسكرية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية, الأمر الذي يجعل من فكرة العدو الخارجي محل تساؤل وتشكيك, كذا الشأن اليوم للنظام العالمي الذي تقوده أمريكا لأكثر من قرن والذي أنبنى على فكرة الخوف والتهديد القادم من النظام السوفييتي الشيوعي, حيث أن انهيار النظام الشيوعي في أعقاب الحرب الباردة لا علاقة له بانهيار وتآكل النظام العالمي في الوقت الراهن, الأمر الذي يضع موضع احراج بنية النظام الليبرالي نفسه, إما من جهة بنيته الداخلية وإما من جهة سياساته الخارجية وتصوراته للعلاقات الدولية ويجعل العودة على مقولات النظام الليبرالي على غرار الحرية والديمقراطية   أمرا في غاية من الأهمية سيما في ظل النتائج الكارثية التي وصل اليها العالم اليوم من حروب ونزاعات وانتهاكات لأمن الدول والشعوب, ويجعل التساؤلات على السياسات الاقتصادية والمالية أمرا في غاية من الأهمية خاصة في ظل حالة التأزم والانحصار السابق للانفجار على خلفية الفقر والتهديد للأمن الغذائي العالمي, بما يجعل تباعا قيمتي الأمن والسلام العالميين كمقولتين نادت بهما الأنظمة الليبيرالية محل تساؤل بدورهما في ظل ممارسات تتناقض مع جوهر وبنية النظام الليبرالي نفسه.

كيف يمكن تشخيص الوضع العالمي الحالي انطلاقا من معطيات سياسيه و اقتصادية ؟

هل يعود تهافت النظام العالمي الحالي بقيادة أمريكا إلى بنيته الداخلية أم إلى سياساته الخارجية ؟

وهل أن عودة القوى الاقليمية والدولية على الساحة الدولية محملة بحزمة من التصورات الجديدة للنظام العالمي سياسيا واقتصاديا وديبلوماسيا  هو ما جعل النظام العالمي الحالي يعيش هذه الاهتزازات الكبرى ؟    

تتأكد يوم بعد يوم حالة التعطل السياسي والديبلوماسي الدولي وتتفاقم بالتوازي الأزمة الاقتصادية العالمية وتجتاح العالم حالة من التوترات والنزاعات والحروب الداخلية والخارجية وتتنامى تباعا التنظيمات الارهابية بوتيرة متسارعة وتتكالب الأنظمة الغربية على فتح الجبهات واثارة الأزمات من أجل السيطرة على موارد الطاقة من خلال دعم أنظمة واسقاط أخرى, في الوقت الذي يحاول فيه النظام العالمي الذي تقوده أمريكا أن يواصل بسط نفوذه على العالم من خلال مزيد عولمة النموذج الليبيرالي الاقتصادي والسياسي وتحرير السوق والتجارة العالمية عبر مزيد ترسيخ المؤسسات والشركات العبر قطرية ومتعددة الجنسيات أملا منها في مزيد ترسيخ مقولات الحرية والسلام والأمن, إلا أن مثل هذه الشعارات والقيم الجوهرية في ذاتها والتي يمكن اعتبارها مطالب كونية حادت أمريكا والغرب عن ترسيخهما ويعود ذلك إلى سببين جوهرين, يتعلق  السبب الأول ببنية النظام نفسه ويتعلق الثاني بالسياسات الخارجية والعلاقات الدولية التي تعيش حالة من عدم الاستقرار لأكثر من قرن :

ضعف البنية الداخلية للنظام الليبيرالي المعولم :

إن اختزال العلاقات بين أفراد المجتمع في المصالح الذاتية وتحقيق المنافع الفردية المدفوعة بغريزة الأنانية  ليس الا ضرب من ضروب عدم الدراية الفعلية بمقومات الحياة المجتمعية, ذلك أن بنية النماء الاقتصادي والاجتماعي من وجهة نظر الانثروبولوجيا السياسية وعلم الاجتماع  هي أكبر من مجرد اختزالها في النفعانية الفردانية وهي مسألة على قدر كبير من التعقيد والتركيب وليست مرتبطة بالأساس بما هو اقتصادي فحسب بل هناك مؤثرات أخرى وعوامل أكثر تجذرا على غرار المحدد الثقافي والمؤسساتي والسياسي والمجتمعي, الأمر الذي خلق داخل المجتمع الليبيرالي ونموذجه الغربي مفهوم الفردانية الذي وسم طبيعة المجتمعات خاصة في الداخل الأمريكي والغربي ومثل عائقا امام النسيج المجتمعي والقيم المجتمعية على غرار قيم التضامن والتآزر, وأثر تباعا على ثقافة المجتمعات الأخرى بأن خلق حالة من الاغتراب الثقافي والحضاري ومثل تهديدا أمام الخصوصيات والعادات والتقاليد والأديان واللغة ومناهج التعليم وغيرها من القيم المتأصلة في ذهنية الشعوب وارثها التاريخي, الأمر الذي خلق ردود فعل عنيفة تتعارض تماما مع التنميط و النمذجة, أي صهر كل المجتمعات داخل نمط واحد وتغييب كل  المعتقدات والمؤسسات التقليدية التي وحدت المجتمعات لعقود طويلة، مثل سيادة الدولة والقومية والدين والعرق والأسرة والقبيلة وغيرها من الخصوصيات.

بالإضافة إلى ذلك يعاني النظام الليبيرالي من الداخل لا من حيث البنية بل من جهة اجراءات المحافظة عليها مشاكل متعددة, حيث يعيش اليوم اهتزاز للركائز التي تأسس عليها, والمتمثلة في التمزق الذي يعانيه حلف الناتو بسبب الخلافات حول تشارك الأعباء بين أعضاءه, وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي, وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أغلب الدول الأوروبية, ناهيك عن الخلافات الداخلية حول قضايا المناخ والأزمات المالية والجوائح والتضليل المعلوماتي عبر الإنترنت ونزوح اللاجئين والتطرُّف السياسي.

كل هذه العوامل الداخلية التي تبين ضعف بنية النظام العالمي, بالإضافة إلى المشاكل الجوهرية الأخرى التي أتينا على ذكرها سلفا, رافقتها سياسات خارجية ظالمة وجائرة, جعلت من فقدان الثقة في النظام العالمي مزدوجة, أي من داخل النظام نفسه ومن خارجه خاصة وأنه أصبح يمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.   

العلاقات الدولية وسياسات الاكراه الليبيرالية  

لم تكن السياسات الخارجية الأمريكية الغربية التي رافقت انتصار النظام الليبيرالي في أعقاب الحرب الباردة وتفرده بقيادة العالم تهدف إلى ترسيخ قيم الديمقراطية والحرية وإحلال السلام والأمن العالميين كما جاء في أدبيات وفلسفات النظام نفسه, بل كانت تقوم أساسا على ثقافة احكام السيطرة على العالم و عولمة نموذجها بكل الوسائل الممكنة, حيث أسست لهذا الغرض والمشروع العالمي الأطر القانونية والمؤسساتية وقامت  بتوظيف منظمة التجارة العالمية و صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كوكلاء للتوسع الرأسمالي وتمت السيطرة على كل مجالات الطاقة واحلال البيترودولار كعملة موحدة لكل مجالات الطاقة وتم  إغداق المساعدات الغربية على الدول التي قبلت بهذا النظام وإغراقها بحجم هائل من الديون وفق خطة مارشال التي وضعها الغرب من أجل تكوين فيديرالية اقتصادية قادرة على انشاء سلسلة من التحالفات من المحيط إلى الخليج, في مقابل شن الحروب على الدول المناوئة والغير متعاونة من خلال حلف الناتو العصى الغليظة للنظام الغربي. ولعل ما قامت به أمريكا في كل من فيتنام وافغانستان والعراق خير شاهد على جرائم النظام الليبيرالي وسياساته الاستعمارية التي طالت العديد من الدول بطريقة مباشرة عبر أداة الحرب أو بطريقة غير مباشرة عبر دعم الانقلابات واسقاط الأنظمة واحلال محلها أنظمة متعاونة, فالسياسات الخارجية الأمريكية الغربية لا تقوم على أساس ثقافة احلال السلم والأمن العالميين وترسيخ كل القيم السياسية والانسانية بقدر ما كان الهدف من وراء هذه السياسات هو المحافظة على النظام العالمي بشكله الحالي سيما وأنه استطاع لأكثر من قرن المحافظة على ديمومته وثباته في وجه كل محاولات زعزعته. ولئن يعتقد الكثيرون بأن النظام الليبيرالي هو النظام الأفضل لقيادة العالم على الرغم من الهناة التي مر بها, إلا أن هذا الادعاء ليس الا ضربا من ضروب التلميع, ذلك أن الذهنية التي يتأسس عليها النموذج الليبيرالي  الغربي تقوم أساسا على خلق الأعداء منذ ظهور النظام الشيوعي إلى يوم الناس هذا, ولعل أفضل الامثلة التي يمكن ان نسوقها ههنا هي فكرة محاربة الارهاب, ألم يتعاون النظام الغربي مع حركة طالبان في أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفياتي, ألم تدعم أمريكا والغرب تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا للمحافظة على الفوضى في بلاد الرافدين واسقاط نظام بشار الأسد في سوريا, أليست فكرة خلق العدو في السياسات الخارجية الغربية فكرة متأصلة  ومحملة بتبريرات التدخل العسكري وتنفيذ السياسات وتحقيق المصالح ذات الطابع الاقتصادي البحت في الدول التي تتوفر على النفط والغاز والمعادن النفيسة, ألم يتم دك ليبيا بالطائرات والاسلحة ذات الدقة العالية من طرف حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي وتقاسم مقدرات الشعب الليبي من نفط وغاز, ألم تدعم الانقلابات في افريقيا السمراء واسقطت نظم وحلت محلها نظم أخرى تأتمر بأمرة الغرب.

 كل هذ العوامل والأحداث والانتهاكات والحروب وسمت السياسات الخارجية الغربية وحولت الأمن والسلم الدوليين وقيمتي الديمقراطية والحرية إلى مجرد شعارات ومقولات جوفاء مفرغة من كل معنى, وخلقت حالة من النفور وعدم الثقة في النموذج الغربي الذي اعتقد في نهاية التاريخ, غير أن الواقع اليوم يفتح نافذة لتاريخ جديد يمكن استقراءه من خلال التغيرات والاحداث  العالمية و من خلال معاينة  حالة التصدع التي يعيشها الغرب من الداخل  و انطلاقا من معطيات بعينها تبشر ب سقوط وتهاوي النظام  العالمي خاصة بعد عودة النظام الروسي كقوة سياسية و عسكرية ونووية والصين كقوة اقتصادية وتجارية وعسكرية والعديد من الدول الخليجية كمنافذ جديدة لسياسات وعلاقات دولية أكثر انصافا وعدلا وأمن وسلم.          

 الصين وروسيا فاعلان أساسيان في تغيير وجه النظام العالمي

   يشهد العالم اليوم تغيرات محورية وجوهرية, ساهمت في ديناميكيتها وتسارعها العديد من الأحداث التي تعبر في جوهرها عن رفض نظام الحوكمة العالمي ومناهضة سياساته الخارجية التي تقوم أساسا على الاقصاء والمخادعة والانفراد, وقد استطاعت العديد من الدول على غرار الصين وروسيا اضرام النار في ثوب النظام العالمي, حيث استطاعت الصين  من جهتها بعد فترة كبيرة من الغياب العودة على الصعيد الدولي من خلال احكام السيطرة على ” نقاط الاختناق” أي السلع والخدمات وتقديم البديل الاقتصادي الذي يقوم على ثقافة الرابح رابح وعلى المصالح المشتركة والمتبادلة, الامر الذي سمح بمزيد توطيد علاقاتها مع بقية دول العالم واستطاعت في ظرف وجيز أن تأصل للثقة المتبادلة بينها وبين العديد من الدول الافريقية والعربية والاوروبية, الأمر الذي سمح بفتح نافذة أكبر وأرحب للعلاقات الاقتصادية العابرة للدول, ولعل توقيع العديد من الدول على اتفاقية  طريق الحرير البري والبحري هو خير دليل على ارتفاع حجم الثقة التي تكتسبها الصين يوم بعد يوم, فالسياسات السلمية والمرنة المدعومة بديبلوماسية الحوار التي تعتمدها الصين في علاقاتها الدولية وفي مجمل سياساتها الخارجية وإن تثمن ما توصلت اليه جمهورية الصين الشعبية من تقدم وترحاب من العديد من الدول, فهي في المقابل تسحب البساط من تحت أقدام النظام الرأسمالي العالمي المتوحش, حيث أخذت الصين من الحوار بديلا للحرب ومن التنمية المشتركة  بديلا للنهب ومن الأمن العالمي غاية الغايات, ومن سيادة الدول على أراضيها برا وبحرا وجوا ومن عدم التدخل في قراراتها الوطنية والسيادية قاعدة لكل علاقاتها الدولية وثقافة لسياساتها الخارجية, ومن احترام عادات الشعوب وتقاليدها ودياناتها وارثها الحضاري قاعدة أخلاقية توسم سياساتها الخارجية, الأمر الذي مثل بالنسبة للعلاقات الدولية وللدول التي ذاقت ذرعا من سياسات النظام الليبيرالي الغربي, بوابة جديدة لعلاقات اقتصادية وتجارية عادلة ومنصفة بعيدا عن منطق النهب والاستنزاف. هذه العوامل مرفقة بثقافة سياسية صينية سلمية خلقت مفاهيم جديدة في العلاقات الدولية وفتحت الباب لبداية كتابة تاريخ جديد واستطاعت أن تأكد ان التاريخ لم ينتهي بعد و أن سيطرة الامبراطورية الليبيرالية لأكثر من قرن لم تكن إلا سيطرة عسكرية تقوم على النهب والاستنزاف وقوة الشوكة وشن الحروب وافتعال الأزمات.

استطاعت الصين اليوم عبر انتهاج سياسات مرنة وسلمية ان تتوصل إلى عقد العديد من الاتفاقيات ذات الطابع التجاري والاقتصادي وخاصة في مجال الطاقة من نفط وغاز, حيث تمكنت من توجيه ضربة قوية إلى  سيطرة البيترودولار من عقد اتفاقيات للتزود بالنفط والغاز خارج اطار هذا الاطار وبعملات نقدية محلية, حيث تمكنت من عقد صفقة تاريخية مع روسيا قاضية بتزويدها بالنفط والغاز باليان الصيني وتمكنت أيضا من عقد اتفاقيات في مجال الطاقة مع الدول الخارجية خاصة مع السعودية والامارات, الأمر الذي جعل ترسيخ مفهوم البيترويان أمرا واقعا وضربة موجعة لسيطرة الدولار الوجه المالي للنظام العالمي.  

من جهتها استطاعت روسيا العودة على الساحة الدولية كقوة عسكرية وسياسية في المشهد الدولي, ظهر ذلك خاصة في الحرب الكونية التي شنها الغرب على الجمهورية العربية السورية وقدم فيها الغرب كل أشكال التعاون والمد العسكري واللوجستي للتنظيمات الارهابية, و تمكنت فيها روسيا من خلق توازنات جديدة في منطقة الشرق الأوسط واستطاعت بعث حالة من الارباك في شكل السياسات الغربية وفي حلف شمال الاطلسي الذي عرف أولى محاولات ردعه في الشرق الأوسط برا وبحرا , ولعل الحدث الأكثر أهمية والذي يعتبر اليوم وفق العديد من التحليلات السياسية والجيوستراتيجية يتمثل أساسا في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي غيرت بشكل راديكالي وجه النظام العالمي ووضعت حدا للغطرسة الغربية على العالم وجعلت حلف الناتو يقف بحذر مشط أمام أي عملية متهورة, وجعلت النظام العالمي الأمريكي الغربي يتحول من السياسات العسكرية المباشرة إلى فرض سياسة العقوبات, والتي تعبر في جوهرها عن رقصة الديك المذبوح, حيث تمكنت روسيا من قلب المعادلة لصالحها وجعلت من نتائج العقوبات الغربية عليها تأخذ طريقا معاكسة,  تمثلت أساسا في حظر النفط والغاز والقمح على الدول التي أدانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بل واشترطت الروبل كعملة اساسية في عمليات بيع الطاقة من غاز ونفط وجعلت من أوروبا ترزح تحط وطأة شتاءها البارد.

هذا الحدث الغير مسبوق والذي يعتبر معطى سياسي على قدر كبير من الأهمية استطاع أن يبعث حالة من الارباك في الداخل الأوروبي و أمريكا, وأصبح بمثابة العدوى التي انتقلت بين العديد من الدول الفاعلة في المشهد السياسي العالمي وأستطاع تباعا أن يفتح الباب أمام طرق جديدة للمعاملات الاقتصادية والطاقية وتوجيه ضربة قاسية لاحتكارية البيترودولار. ولعل ما وسم ارتسام المعالم الجديدة للنظام العالمي والقطع مع الاحتكارية المالية والاقتصادية والهيمنة العسكرية لحلف الناتو وإن بدأت ارهاصاته الأولى بعودة القوتين الاقليميتين الكلاسيكيين روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية, إلا أن هذه الارهاصات أصبحت اليوم واقعا يضع النظام العالمي تحت الضغط ومطلبية العدل والانصاف الدوليين وتصورات جديدة للعلاقات الدولية والسياسات الخارجية التي تقوم على السلم والأمن لا كما يسوقهما النظام الليبيرالي, بل على أسس جديدة تراعى فيها الخصوصيات الثقافية والحضارية والجغرافيا والتاريخ والقوميات.

داخل هذا الاطار الجديد تتسرب عدوى القطع مع الهيمنة الغربية وتسلط النظام العالمي وتتوسع ثقافة التغيير ماليا واقتصاديا وسياسيا من نظام القطب الواحد وهيمنة العملة الواحدة وسياسة الاحتكار, إلى نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب يقوم أساسا على التعددية و حرية الدول في تحديد مصالحها بعيدا عن الوصايا و التبعية وفي حل من الاكراهات التي تسلطها الدوائر المالية واللوبيات التي يسخرها النظام الرأسمالي للمحافظة على هيمنته على دول العالم من خلال مؤسساته على غرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي يديرها  أكبر المدافعين عن النظام العالمي في شكله الحالي, ثقافة  إرادة التغيير هذه تتجلى اليوم وبشكل غير مسبوق في السياسات الخارجية والاقتصادية والمعاملات الطاقية التي تنتهجهها الدول الخليجية, خاصة بعد قبولها بعقد صفقات واتفاقيات في مجال النفط والغاز بعملات أخرى خلافا للدولار على غرار اليان الصيني والروبية الهندية وغيرها من العملات الأخرى, بالإضافة إلى توخيها ديبلوماسية وسياسة خارجية تقوم على الندية وضرورة الاحترام المتبادل قاطعة بشكل راديكالي مع سياسة الوصايا التي ظل الغرب وخاصة أمريكا ينتهجهها في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك لم يعد للنظام العالمي الغربي حاضنة سياسية في أغلب الدول التي سيطر عليها لأكثر من عقد من خلال سياسة الترهيب, ولعل المثال الأبرز على ذلك يتمثل أساسا في رفض اغلب دول افريقيا السمراء سياسات الهيمنة الغربية على اقتصاداتها وثرواتها ونهبها الممنهج لمقدرات شعوبها من خلال طرد أكبر المسؤولين من على أراضيها وايقاف العديد من الاتفاقيات الممضاة في سياق الاستعمار الغربي للقارة الافريقية.   

التقييم

كل هذه المعطيات راكمت حالة من الوعي الدولي بضرورة تغيير شكل النظام العالمي والقطع أساسا مع منطق القطب الواحد الذي اتخذ من سياسة الاقصاء قاعدة ومن الترويج والتشجيع على الاسواق الحرة والحدود المفتوحة والمؤسسات العابرة للحدود و المغيبة للقوميات والمعتقدات والدين والعرق والمؤسسات التقليدية التي وحدت المجتمعات لعقود طويلة, وتزداد حالة الوعي الدولي اليوم بضرورة قطع الطريق أمام تواصل النظام العالمي في شكله الحالي خاصة بعد النتائج الوخيمة التي وصل إليها العالم اليوم من أزمة مناخ والأزمات المالية والجوائح وقضايا اللاجئين وتنامي الحركات الارهابية والمتطرفة والجوع والفقر الذي يشهد تناميا يوما بعد يوم. ولأن النظام الليبيرالي الذي قدم نفسه على أساس أنه استثناء من خلال ادعائه القدرة على استيعاب كل الاختلافات الحضارية والثقافية والتزامه بالانفتاح وعدم التمييز بين الدول وفتح اقتصاداته أمام جميع الدول صغرت أم كبرت, فقد كشف الواقع والممارسة أن هذه الافتراضات والمقدمات ليست إلا مجرد شعارات تخفي وراءها ثقافة اقصائية ومعادية للأنظمة المناوئة والغير متعاونة معها, ساهمت في ردود فعل عنيفة موجهة ضد النظام الليبيرالي وسياساته الجائرة, وبشرت بانهياره بشكل مزدوج وذلك من جهة بنيته الداخلية وسياساته الخارجية  وأصبحت عولمة رفضه أمرا واقعا تزيد في الضغط عليه بشكل مشط خاصة بعد عودة التنين الصيني والدب الروسي وعودة فكرة القومية على الواجهة الدولية .

By amine