التحولات العالمية الكبرى وبروز روبل الغاز والبيترو- يان
يعيش العالم اليوم مجموعة من التحولات السياسية والاقتصادية الفارقة في التاريخ والغير مسبوقة من حيث التسارع, ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى ترهل وشيخوخة النظام العالمي الذي تقوده أمريكا لأكثر من قرن ويسيطر فيه الدولار على مجمل العمليات المالية والتجارية والطاقية, وبدرجة ثانية لتعافي العديد من القوى الاقليمية والدولية على غرار روسيا الاتحادية والصين الشعبية وبعض الدول التي غيرت من سياساتها الخارجية تجاه قوى الهيمنة على غرار السياسات الخارجية السعودية, أما بدرجة ثالثة فقد استطاعت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أن تفتح الباب أمام إعادة انتاج معادلة جديدة لا تتأثر برهاب عقوبات قوى الهيمنة وسياسات التضييق وخنق اقتصادات الدول المناوئة, حيث استطاعت روسيا أن تسقط مشروع العقوبات وقلبت السحر على الساحر من خلال اشتراط بيع الغاز والنفط بالروبل الروسي واستطاعت تباعا أن تفتح لنفسها اسواق اخرى لا تحتكم للدولار كعملة موحدة وكونية لبيع الغاز والنفط, الأمر الذي جعل بالنتيجة أركان البيترودولار تهتز وتهتز معها أركان السياسة الخارجية الأمريكية.
إن التبادلات الطاقية خارج اطار اتفاقية بريتون وودز وما لحقها في سنة 1973 شكل اليوم عدوى لبقية الدول المنتجة للطاقة كما للدول الأكثر استهلاك لها على غرار الصين والهند والدول الآسيوية, وبشر بنهاية القطب الواحد سيما في ظل مشارفة الدولار حافة الهاوية وظهور مفاهيم جديدة على غرار روبل -غاز والبيترو – يان. وحيث ان فهم الشيء والقوى والعوامل المؤثرة فيه هي أفضل طريقة للتنبؤ بديمومته من عدمها, فإن العودة على أصول نظام البيترودولار وربطها بالأحداث والسياقات التاريخية العالمية القديمة وفهم المتغيرات المعاصرة هي الطريقة الأمثل لاستشراف إن كان نظام البيترودولار سينتهي أم أنه على حافة الجرف الصخري وستحل محله نوع جديد من المعاملات أم أن العملات التبادلية ستتعدد بالتوازي مع تعدد الأقطاب الذي يشهده العالم اليوم.
اتفاقية بريتون وودز وظهور مفهوم البيترودولار
جاءت اتفاقية بريتون وودز كاتفاقية هادفة إلى وضع الخطوط الكبرى لتحقيق استقرار الاقتصاد العالمي الذي عاش حالة من الانهيار الكلي بعد الحرب العالمية الثانية وذلك من خلال بحث تثبيت أسعار صرف العملات الأخرى أمام الدولار الذي يعتبر وقتها العملة الأكثر وثوقيه سيما في ظل الازدهار الذي تعيشه أمريكا وخاصة تملكها لأكبر احتياطات الذهب في العالم, الأمر الذي جعل بالنتيجة قيمة عملات الدول الأخرى مربوطة بالدولار فيما عرف وقتها ب” قاعدة الصرف بالدولار الذهبي”, مقابل تقديم الولايات المتحدة وعودا للدول 44 التي شاركت في المؤتمر الذي دام لأكثر من 22 يوم والذي عقد في فندق جبل واشنطن بمنطقة بريتون وودز, والقاضي بتحويل أي دولار تحصل عليه البنوك المركزية في البلدان الأخرى إلى ذهب من حيث القيمة. وتم بموجب هذا الاتفاق توحيد صفوف 44 دولة تمخضت عن مخرجات حواراتها إبانها :
– تأسيس مجموعة البنك الدولي.
– تأسيس صندوق النقد الدولي.
– توقيع الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة GATT
– لعب صندوق النقد والبنك الدوليان دورا مهما في اعادة إعمار وبناء أوروبا لما لحقها في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
لكن منذ بداية الحرب الأمريكية على فيتنام وكوريا أخذت قيمة نفقات الحرب تنخر اقتصاد الولايات المتحدة وذهبت أمريكا بطريقة جنونية تبالغ في طباعة المال إما لتغطية نفقات الحرب أو لتغطية نفقات السباق الجنوني على البحوث والتكنولوجيات الفضائية ما اضطرها إلى اعتماد السندات والالتجاء للديون في الوقت الذي غمرت فيه عملة الدولار المصارف في جميع أنحاء العالم علما وأن هذه الدولارات وقتها تمثل بالأساس مطالبات على الذهب وفق نص الاتفاقية, الأمر الذي جعل من الحسم في هذا التعثر قرارا صعبا خاصة وأنه يمثل بداية تراجع الهيمنة الأمريكية من وراء هيمنة الدولار وبالتالي غياب الثقة في فكرة نظام مالي عالمي. وكانت النتائج بأن أصبح الدولار مجرد عملة ورقية وتحولت المعاملات المالية والاقتصادية وتحديد قيمة العملات يعود بالأساس إلى قوة كل دولة اقتصاديا على حدى.
إلا أن “صدمة نيكسون” لم تتواصل كثيرا فقد وجدت ضالتها في أزمة حضر تصدير النفط على خلفية حرب أكتوبر, حيث استطاعت الولايات المتحدة من جهة أن تتوسع نقديا دون عوائق خاصة بعد بطلان اتفاقية بريتون وودز, واستطاعت من جهة ثانية استثمار أزمة حرب أكتوبر من خلال اللقاء الشهير بين هنري كيسنجر والملك فيصل بن عبد العزيز في السعودية والذي تمخض عنه اقناع المملكة العربية السعودية باستخدام الدولار كعملة موحدة للعمليات المالية النفطية في مقابل ضمان بقاء آل سعود وتوفير الأمن العسكري لحقول النفط, بالإضافة إلى مد السعودية بالأسلحة العسكرية والمدفعية, وكان على السعودية وقتها استخدام نفوذها على منظمة أوبك لضمان أن جميع المعاملات ستجرى بالدولار الأمريكي، بالإضافة إلى استثمار عائدات مبيعات النفط السعودية في الأدوات الاستثمارية بالولايات المتحدة، والحفاظ على التأثير على مستويات الأسعار ومنع إجراء حظر تصدير النفط مرة أخرى.
ساهم هذا الاتفاق في ظل التزايد المستمر على النفط في خلق موجة كبيرة في الطلب على الدولار واستطاع بالتوازي تأمين تدفق الأموال وبنجاح استمرار توسع النفوذ النقدي الأمريكي لعقود طويلة, واستطاع بالنتيجة غلق المنافذ على الدول الاقليمية والدولية وخاصة روسيا والصين.
إلا أن متابعة التغيرات المعاصرة يدرك أن هذه السيطرة أصبحت ضرب من ضروب الوهم والنرجسية المرضية التي لازالت تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية, حيث وباقتفاء أثر أول التحولات الجوهرية المعاصرة يمكننا أن ندرك التحولات ممكنة الحدوث في المستقبل, حيث وفي العام 2013 وقعت جمهورية الصين الشعبية والشركة الروسية “روسنفت” للنفط اتفاقية تهدف إلى تزويد الصين بما قيمته 270 مليار دولار من النفط, وهو الحدث والاتفاق الأكثر شهودية على بداية التحولات الاقتصادية الكبرى والمسمار الأول الذي دك في نعش سيطرة البيترودولار. كيف ذلك ؟
بداية سقوط البيترودولار.
لا يمكن أن تمر الاتفاقيات النفطية المبرمة خارج إطار البيترودولار وكأنها مسائل وأحداث عادية, فمنذ الاتفاق التاريخي بين روسيا والصين والقاضي بتزويد جمهورية الصين الشعبية بحاجاتها من النفط, مرورا بقبول دول اوبك صفقات نفط بعملات أخرى خلافا للدولار, بالإضافة إلى الاتفاق الهندي الايراني على تسويه المبيعات النفطية بالروبية الهندية, بدأ العالم يشهد تحولات جيوستراتيجية كبرى وإن اختلفت مشاربها وتوجهاتها إلا أنها تجتمع على ضرورة القطع مع منطق القطب الواحد ومنطق الهيمنة الأحادية التي كرست لها العديد من العوامل والظروف التاريخية والتي كانت نتائجها الاقتصادية والمالية كارثية على اقتصادات العديد من الدول.
يدخل العالم اليوم مرحلة جديدة تزامنت أساسا مع الاضطرابات الجيوسياسية على أكثر من صعيد وفي أكثر من منطقة, فمن الاضطرابات الجيوسياسية في الشرق الأوسط إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا, نشهد اليوم تحولات كبرى خاصة في ما يتعلق بمجال الطاقة من نفط وغاز, حيث استطاعت روسيا على الرغم من حزمة العقوبات التي وجهتها قوى الهيمنة القديمة, فرض اطار نقدي جديد لبيع النفط والغاز الروسيين واشترطت الروبل بديلا للدولار وخلقت على مستوى المعاملات والتجارة والمبيعات الطاقية ما يسمى اليوم بروبل الغاز, لتفتح الباب على مصرعيه أمام أنماط جديدة من التعاملات المالية في مجال الطاقة, وتحول هذا الحدث إلى عدوى ايجابية انتهجتها العديد من الدول خاصة الصين والدول الخليجية, حيث اتفقت الصين مع قطر على أن تكون الأخيرة مركزاً لتخليص المعاملات باليوان الصيني ووافقت الإمارات العربية المتحدة والصين على اتفاقية جديدة لتبادل العملات, وعقدت شركة أرامكو للنفط السعودية وشركة البترول الصينية صفقة توريد خام بقيمة 7.88 مليون برميل, تكمن تفاصيلها في توقيع مصفاة التكرير الصينية المملوكة للقطاع الخاص Zhejiang Petroleum (ZPC) و & Chemical Co صفقة شراء مع شركة النفط السعودية المملوكة للدولة أرامكو السعودية لتوريد 1.08 مليون طن ، أو 7.88 مليون برميل من النفط الخام باليوان الصيني, لتأخذ هذه العدوى أبعادا أكثر واقعية وممارستية وتحيل العالم والمعاملات الدولية في مجال الطاقة إلى امكانيات تجارية أخرى تقطع مع هيمنة البترودولار وتفتح الأفق أمام التعددية النقدية, ما يجعلنا ندرك بالنتيجة وواقعيا أن الحديث عن سقوط البيترودولار أمرا واقعيا, وأصبح الحديث عن تعددية المعاملات المالية في مجال الطاقة من نفط وغاز خارج اطار البيترودولار مسلمة من مسلمات المعاملات الدولية, واستطاعت وتيرة الاحداث المتسارعة في العالم والتي رافقتها أزمات دولية أن تحدث تحولات كبرى في التصورات الجيوسياسية للعديد من الدول وراكمت المراجعات السياسية للعديد من الدول و خاصة دول الخليج خلق تحولات كبرى في العلاقات الدولية, حيث تمكنت السعودية والامارات وقطر الخروج من عباءة واشنطن لتفتح لنفسها آفاقا ديبلوماسية وتشاركية تعاونية جديدة مع روسيا الاتحادية ودول آسيا وخاصة منها دولة الصين وتفتح للعالم العديد من النوافذ التي أغلقت لأكثر من قرن, وبشرت بنهاية البيترودولار ونهاية الغطرسة الأمريكية على العالم وتكرس لما يعرف اليوم بتعدد الأقطاب.
يشهد العالم اليوم مفاهيم جديدة على غرار روبل الغاز والبيترويان, ليتحول معها المشهد الجيوسياسي العالمي نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب يسعى المقيمين على المساهمة في ترسيخه إلى خلق علاقات دولية ندية تقوم على تحرير أسواق الطاقة من لوبيات وكارتالات البيترودولار.