اعداد عادل الحبلاني : قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية
يطرح الاتفاق المبرم بين تركيا وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة والذي تكمن فحواه في تفعيل البروتوكول الممضى في 2022 بين أنقرة وحكومة الدبيبة، والقاضي بتمكين تركيا من التنقيب على الطاقة من نفط وغاز داخل الأراضي والسواحل الليبية، جملة من الاحراجات والأسئلة الحارقة حول شرعية هذا الاتفاق ووجاهته في ظل تفكك وتشظي السلطة في الداخل الليبي بين عديد الفاعلين.
وفي ظل غياب لشرعية واحدة وموحدة للموقف السياسي الليبي الجامع من هذا الاتفاق، كما يسمح لنا بالتساؤل عن المواقف الدولية ومواقف دول الجوار من هذه الخطوة التركية في الداخل المغاربي، ويفضي بالضرورة إلى الوقوف على موقف الخارجية التونسية سيما وأنها تتشارك و(الدولة) الليبية حدود بريه وبحرية ولها من المصالح الاقتصادية والتجارية والأمنية ما يدفعها إلى الإدلاء بدلوها في هكذا اتفاق، هذا إذا ما سلمنا بأن السياسة الخارجية للدولة التونسية لها من السلوكيات والدراية المعرفية بأدبيات العلاقات الدولية ومدى تأثير الدول وتأثرها بمحيطها الخارجي على قاعدة أن المصالح القومية والعليا للدولة تقوم أساسا على السياسات الداخلية الناجعة والسياسات الخارجية المثمرة التي تلعب فيها الأداة الديبلوماسي دور المرونة والصلابة في الآن نفسه وتؤكد من خلال ممثليها عن السياسات الخارجية لدولها مع مراعاة طابع الخصوصية لكل دولة.
على ما ينص الاتفاق المبرم بين حكومة طرابلس وأنقرة؟
هل يملك هذا الاتفاق من الشرعية ما يكفي لتحويله إلى موقف ليبي جامع أم أنه مجرد مكافئة لتركيا مقابل ما قدمته من دعم عسكري لحكومة طرابلس ؟
ماهي أهم المواقف الدولية من هذه الخطوة وخاصة دول الجوار ودول الحر الأبيض المتوسط ؟
هل سجلت الخارجية التونسية موقفا من هذا الاتفاق ؟ وكيف يمكن معاينة ضعف السياسات الخارجية وماهي الأسباب والعوامل التي ساهمت في حالة التقهقر هذه في ظل متغيرات إقليمية ودولية كبرى ؟
“هذه المذكرات هي مسألة بين دولتين تتمتعان بالسيادة، وهي مكسب للطرفين وليس للدول الأخرى الحق في التدخل في هذه الأمور”.
جاء هذا التصريح لوزير الخارجية مولود شاوش أوغلو خلال مؤتمر صحفي مع نظيرته الليبية نجلاء المنقوش في أعقاب إعلان التوقيع عن مذكرة تفاهم بين حكومة طرابلس وأنقرة, تسمح بتمكين تركيا من التنقيب على المحروقات ( غاز ونفط) برا وبحرا من قبل شركات تركية, حيث يسمح هذا الاتفاق بتأكيد حقوق تركيا في مناطق واسعة على الأرض وفي وشرق البحر المتوسط, كما ينص الاتفاق على تعزيز التعاون بين البلدين في الجوانب العملية والفنية والتقنية والقانونية والتجارية في مجال الهيدروكربونات، بالإضافة إلى التنصيص على تعاون الطرفين بناء على قوانينهما المحلية لتحقيق أهداف المذكرة من طريق تبادل المعلومات والخبرات وعقد المؤتمرات والندوات المشتركة والمعارض وزيادة التعاون بين القطاع العام والخاص ووتطوير المشاريع المتعلقة الاستكشاف والإنتاج والنقل والتنقيب والتجارة للنفط والغاز، وفق الإجراءات والقوانين المتبعة في ليبيا، ناهيك على تبادل الخبرات والتدريب وضرورة ضمان المصالح المشتركة والجدوى من عمليات الاستكشاف والتطوير وزيادة الإنتاج للبلدين، وتأسيس شركات مشتركة بين المؤسسات النفطية والمؤسسة التركية ودعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
وجاءت ردود الفعل الداخلية الليبية وردود فعل دول الجوار رافضة رفضا تاما لهذا الاتفاق، في ظل حالة من التفكك والانقسامات وأزمة سياسية داخلية خانقة بين عديد الفرقاء جعلت من أغلب مؤسسات الدولة تعاني تعطلا صارخا وتهدد بمنزلقات خطيرة تقوض السلام بين مكونات المجتمع على اختلاف مشاربها السياسية.
حيث قال رئيس مجلس النواب عقيلة صالح انأي اتفاق أو معاهدة أو مذكرة تفاهم يتم إبرامها من قبل رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة مرفوضة وغير قانونية، لانتهاء ولاية حكومته وانعدام أي إجراء تتخذه منذ انتهاء ولايتها في الـ 24 من ديسمبر (كانون الأول) 2021.
من جهته أكد عبد الله بليحق الناطق الرسمي باسم مجلس النواب أن أي مذكرة تفاهم أو اتفاق أو معاهدة منبثقة عن حكومة الدبيبة المنتهية ولايتها هي بالضرورة باطلة وغير ملزمة للدولة الليبية بالإضافة إلى تأكيده على أن كل اتفاق لا يتم من خلال رئيس الدولة أو البرلمان المنبثقة عنه حكومة باشاغا التي نالت ثقة البرلمان هو اتفاق واهي وغير شرعي وليس بالقانوني، وقد أكد البيان الصادر عن برلمان طبرق وحكومة باشاغا واستنادا للمادة السادسة التي جاءت في نصوص خارطة الطريق الصادرة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي عام 2020 “ألا تنظر السلطة التنفيذية خلال المرحلة التمهيدية في أية اتفاقات أو قرارات جديدة أو سابقة بما يضر باستقرار العلاقات الخارجية للدولة الليبية أو يلقي عليها التزامات طويلة الأمد”.
أما ردود الفعل الخارجية وخاصة منها ردود فعل دول الجوار والدول ذات كبريات المصالح، فقد جاءت هي أيضا على النقيض من الاتفاق المبرم، فمن جهتها أكدت فرنسا على أن الاتفاقية لا تتوافق مع القانون الدولي للبحار، وأن الخارجية ومن وراءها الدولة الفرنسية لم تغير ولن تغير موقفها من مذكرة التفاهم هذه ذلك أنها تمس من حقوق سيادية لدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
أما اليونان فقد لجأت مباشرة إلى الأمم المتحدة, كما طالبت في خطوة تصعيدية الاتحاد الأوروبي بتسليط عقوبات على أنقرة لأن مثل هذا الاتفاق يقوض عملية السلام ويبعث على مزيد التوترات, بالإضافة إلى كون هذا الاتفاق لا يتوافق أساسا مع القانون الدولي للبحار وذلك لعدم تلاقي المناطق البحرية بين ليبيا وتركيا كما أنها لا توجد حدود بحرية بين البلدين وهي انتهاك واختراق للجرف القاري لجزيرة كريت اليونانية والغاء متعمد لبعض الجزر اليونانية من الخريطة ناهيك عن أن هذا الاتفاق حسب الخارجية اليونانية لم يتم إقراره من قبل البرلمان وليس له من الشرعية ما يجعله يرتقي إلا اتفاق أبرمته دولة ليبيا.
من جهتها أكدت مصر على رفضها القاطع لهذه الاتفاقية التي تمثل خرقا واضحا للقانون الدولي للبحار، معتبرة أن أساس هذا الاتفاق مثير للجدل وهو بمثابة المكافأة التي تقدمها حكومة الدبيبة المنتهية ولايتها إلى تركيا لما قدمته لها من جهود عسكرية ودفاعية في أعقاب الهجومات على العاصمة طرابلس، كما أكد وزير الخارجية المصري سامح شكري على أن لا مجال لقبول هذا الاتفاق لا شكلا ولا مضمونا وهو في اتصالات حثيثة مع وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس لبحث سبل الرد على مثل هذه التصرفات.
ولسائل أن يسأل عن الموقف الذي سجلته الخارجية التونسية من نص الاتفاق المبرم بين حكومة طرابلس وأنقرة
تونس: غياب الموقف
إن اللافت في هذا الحدث الذي تحركت على إثره دول جوار ليبيا ودول الاتحاد الأوروبي على غرار فرنسا واليونان، هو الغياب الواضح لموقف الخارجية التونسية، على الرغم من الاتساق التاريخي بين الدولتين وجملة المصالح المشتركة والزخم التجاري والمالي والاقتصادي وحتى السياسي والأمني والعسكري، ناهيك عن التقارب الحدودي البري والبحري، حيث يبلغ طول الحدود بين البلدين 461 كيلومتر وتمتد من البحر الأبيض المتوسط في الشمال إلى النقطة الثلاثية مع الجزائر جنوبا، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى فعالية ونجاعة الخارجية التونسية وسلوكياتها الديبلوماسية في قضايا ذات أهمية بالغة.
ضعف السياسة الخارجية التونسية
لن نخوض في تنوع السياسات الخارجية للدول بقدر ما سوف نأخذها في شكلها وتعريفها الشامل باعتبارها جملة نشاطات الدولة الناتجة عن اتصالاتها الرسمية مع مختلف فواعل النظام الدولي وفقا لبرنامج محكم التخطيط ومحدد الأهداف، يهدف إما إلى تغيير سلوكيات دولة ما بما يجعل من المصالح مشتركة وإما إلى المحافظة على الوضع الراهن في العلاقات الدولية حسب ما تمليه وتفترضه التغيرات والأحداث العالمية، علما وأن الدول تتأثر بالبيئتين الداخلية والخارجية.
انطلاقا من هذا التعريف الشامل وعملا بمقولتي التأثير والتأثر سوف نحاول البحث في مدى قدرة السياسة الخارجية التونسية أن تتحول من منطق الحياد والوقوف على نفس المسافة إلى قيم جديدة تعتمدها السياسة الخارجية المعاصرة والتي طورت العديد من مفاهيمها وآليات اشتغالها وسلوكياتها بما يتناسب مع المتغيرات العالمية والاقليمية ومصالحها الخارجية التي تأثر بالضرورة على المصالح الداخلية للدولة، ذلك أن اليوم على السياسة الخارجية للدولة إعادة استساغة وصناعة سياستها الخارجية عبر الفهم والدراسة الدقيقة والتأثيرات المباشرة والغير مباشرة للخروج بمواقف سليمة من جهة كونها لا تشكل أزمات ديبلوماسية مع دول أخرى ومن جهة كونها لا تشكل ضررا على الداخل، وقد يكون المثال على ذلك الأزمة الدولية المفاجئة أو الحرب بين دولتين، حيث يجب أن يكون الموقف الخارجي قائم على دراسة وفهم معمق لحيثيات ما يحصل لبناء موقف من حدث دولي ما، وهو عكس ما حصل حيث صوتت تونس (أمام الجمعية لصالح قرار ادانة روسيا)، موقف اعتباطي وغير مدروس وملم بحيثيات ما يحصل بين الغرب وروسيا.
ولكنه في الآن نفسه هو موقف جاف ليس فيه من التفكير ما يكفي للامتناع عن التصويت، وذلك تعبير حقيقي عن ضعف الخلفية التفكرية للسياسة الخارجية للدولة التونسية التي لم تسطع إلى اليوم توفير المعلومات الضرورية وتحديد الوجهة الأكثر نفعية لها في الداخل والخارج، الأمر الذي جعل مواقفها ثابتة (بالمعنى السلبي) وغير حيوية وديناميكية وغير قادرة على اتخاذ مواقف بديلة لما عهدناه من حياد والنأي بالنفس.
إن السياسة الخارجية للدولة التونسية إلى جانب كونها تعاني ضعفا، فهي لا تعمل انطلاقا من تصورات استراتيجية تقوم على التحضير وتحديد المعايير الرئيسية وفهم وتحديد المتغيرات ورسم الأهداف طويلة وقصيرة المدى, لكي تتخذ القرارات والمواقف الصائبة والأكثر صلاحية، التي يسبقها تحديد البدائل قبل اتخاذ أي خطوة، بقدر ما تتحرك داخل أفق سياسي ضيق وكلاسيكي يجعلها دائما غير قادرة على صناعة القرارات في محيطها القريب وغير قادرة على التأثير في محيطها البعيد.
كل هذه العوامل وغيرها تجعل من الخارجية التونسية دغمائية إلى حد ما، حيث ستظل تتقبل الصدمات دون ردود فعل ومواقف تاريخية يمكن تسجيلها، وستظل تباعا دائرة مصالحها منحصرة داخل اطار علائقي آخذ في التفكك كل يوم أكثر. وما حالة السكوت التي تتسم بها الخارجية والدولة التونسية من وراءها في ما اتفقت عليه حكومة طرابلس وانقرة من تنقيب على المحروقات برا وبحرا، دون تسجيل أي موقف للخارجية التونسية التي تتشارك وليبيا حدودا برية وبحرية ومصالح اقتصادية وعسكرية وأمنية، إلا دليل على حالة الركود الفكري والديبلوماسي الذي تعانيه تونس منذ 2011 إلى اليوم.