الأثنين. أكتوبر 7th, 2024

lاعداد : فاتن الجباري قسم البحوث والدراسات القانونية

مراجعة-الدكتورة بدرة قعلول

المقدمة:

الاحتياطي الإستراتيجي، يعني احتفاظ الدولة بكميات كبيرة تصل لتغطية احتياجات البلاد خلال فترة الازمات .وبشكل عام يتوقف حجم الاحتياطي الإستراتيجي على حجم التحديات التي تتعرض لها الدول مما يزيد من كميات الاحتياطي الإستراتيجي، فكلما كانت هناك احتمالات لمواجهة صعوبات عالمية في الإمدادات، أو انتظار تقلبات حادة في الأسعار، تؤدي إلى زيادة سعره في السوق الدولية لجأت الدول عالية الاستهلاك لمثل هذه الاحتياطيات.

لذلك تحرص الدول الكبرى التي توجد بها طاقة استهلاكية عالية  على وجود منظومة قواتعسكريةتلجأ اليها ، لكي تؤمن استمرار تدفق احتياجاتها دون أن تمر بأزمات، تؤدي إلى تعثر نشاطها الاقتصادي، أو تعرضها لموجات عالية من التضخم.، لما يعكسه الأمر من أهمية تتعلق بالأمن القومي للبلاد .

لطالما بقي ملف الثروات الطبيعية في تونسمنذ سنة 1956، أحد أهم الألغاز التي لم تسمح الأنظمة المتتالية بالخوض فيها، فما لبثت الأجهزة الدعائية الرسمية تروّج لفقر تونس من الثروات الطبيعية وأن الثروة الوحيدة هي القدرات البشرية العلمية.

لقد رسخت الدولة الوطنية في أذهان جلّ التونسيين فكرة مفادها أن تونس بلد نام محدود الثروات لم تهبه الطبيعة ثروات كثيرة على غرار جارتيه ليبيا والجزائر الغنيتين بالنفط والغاز فكل ما يملكه التونسيون، مثلما كان يردد بورقيبة، هو ”المادة الشخماء” والتي تعني الذكاء واستخدام العقل .. هذه النظرية اقنعت التونسيين وحتى العالم ، لكن جانبا اخر من العقول بقي يبحث حول الحقيقة .

لم يجر تناول الثروات الطبيعية التي من المحتمل أن تكون تونس تمتلكها فحتى البرامج المدرسية في مادة الجغرافيا  لا تقدم الكثير بخصوص الإحصائيات الرسمية لنسب الثروات الطبيعية التي تزخر بها البلاد التونسية حيث يتم الاكتفاء بالإشارة إلى أن تونس بلد يشرف على البحر الابيض المتوسط ، ويعتمد السياحة كمصدر أساسي للدخل الاقتصادي إلى الحد الذي بات الكل يردد أننا بلد فقير يعيش على  عائدات السياحة والقليل من الفلاحة والكثير من الديون الخارجية ؟

نهب الثروات الوطنية بما فيها البترول تطور بإشكال مختلفة ودخل على خط السنوات الاخيرة رجال المال والفساد ممن انخرطوا في المنظومة الدولية الاستعمارية المهيمنة على مقدرات الشعوب. وهو ما زاد في اثارة الحساسية وخلق رأي عام تتصاعد نقمته بحدة. لكن المشكل اليوم يكمن  في اليات مكافحته  وفي مواجهة المطبات  المعقدة التي تتلاعب بمقدرات الدولة وبثرواتها الطبيعية كعنصر سيادي مملوك للشعب التونسي وللأجيال القادمة.

 بعد 2011 سعت الجماهير الشعبية الى تحريك الراي العام الوطني بشعارات استفزت الطيف السياسي كشعار “وينو البترول ” … ، لتطالب بفتح ملف التنقيب عن النفط ومراجعة عقود الشركات النفطية، والكشف عن الكميات الحقيقية التي تنتجها البلاد منه. كانت الحملة تطالب بالشفافيةولكنه نقاش غلبت عليه الحسابات السياسية بين قوى تعتبر أن في تونس ثروات كثيرة من بينها النفط، وأنها بلد غني لكنه لا يملك السيطرة الكاملة على ثرواته، وقوى تعيد نفس قانون اللعبة القديم  وهي أن تونس لا تملك غير ذكاء أبنائها.انها “نظرية” بورقيبة للرد على خصومه السياسيين.

يسري الاقتصاد العالمي خلال العام 2022 وهو في وضع ضعيف جدا فاق كل المقاييس و التوقعات فمع اعلان الحرب  الدولية بين روسيا واوكرانيا في اسوء تغيير تاريخي عالمي منذ الحرب العالمية الثانية و ازمة تغير المناخ العالمي و ثقب الاوزون و الانحباس الحراري   تتجند اغلب الدول في قمة عالمية لمواجهة انتقام الطبيعة وارساء سياسات بيئية وتنموية للحفاظ على الارث الطبيعي الانساني و المخزون الثرواتي المشترك كاحتياطي استراتيجي يقف درعا بين الانسان وآفة الفناء .

تقف تونس اليوم أمام تحديات كبيرة فهي مهددة بالعطش والتصحر، والنضوب شبه الكامل لاحتياطي المائدة المائية و المحروقات وامنها الغذائي. والمعضلة الأساسية تكمن في الإرادة السياسية والخيارات الاقتصاديةالتنموية لحكام البلاد. فالنخب المهيمنة لا يبدو أن لديها تصورات واضحة وعملية للحلول، بل ليس ثمة ما يدل على أن لها تصور حقيقي للازمة الراهنة  وتصور آخر للتصرف في الموارد الطبيعية غير جلب الاستثمار الأجنبي وإيجاد أسواق لتصدير الفائض. وحتى الأحزاب والقوى المعارضة والنقابات فهي لا تتطرق لهذا الملف، وإن فعلت فعادة ما يكون الكلام شعاراتياً للاستغلال السياسي البحت .

فيما تسعى السياسات المتقدمة الى وضع برامج استراتيجية  بديلة حيال الازمات العالمية وتطوير منظوماتها الوطنية نحو حماية احتياطاتها الاستراتيجية وحماية المخزون العام امام التقلبات الاقتصادية مسخرة بذلك جميع امكانياتها المتاحة ومواردها البشرية من خبراء ومختصين لإدارة الازمة وارساء تفاعل اقليمي دولي حقيقي ضمن التعاون الاممي المشترك والانخراط نحو تجربة بشرية حقيقية

تغرق النخب  التونسية والإعلام وحتى الرأي العام  نحو مسائلاخرى  تغلب عليها النزعة السياسية …لا جدوى منها ، لكنه قد يحرم من هذا “الترف” الفكري عندما تستنزف المياه الصالحة للشرب وللفلاحة، فيعطش ويجوع، وعندما لا يجد موارداً لتوليد الطاقة الكهربائية أو عندما يصبح الهواء الذي يتنفسه مشبعاً بالتلوث والأمراض امن البشرية ؟

الشركات الأجنبية : نصيب الأسد من ثروات تونس

تقع الجمهورية التونسية في قلب القارة الإفريقية وتطل على البحر الأبيض المتوسط الذي يحدها من جهتي الشرق والشمال وتحدها الجزائر من الغـرب وليبيا من الجنوب الشرقي والصحراء من الجنوب. تبلغ مساحتها 163,610 كم² ويبلغ عدد سكانها حسب آخر الإحصائيات لسنة 2022 بنحو 12,029,707 نسمة، وذلك بنسبة 0.151% من إجمالي عدد سكان العالم.

مكنها موقعها الاستراتيجي من ربط علاقات اقتصادية مباشرة مع بلدان الإتحاد الأوروبي وشمال إفريقيا والشرق الأوسط فاتسمت بذلك علاقة تونس مع محيطها الخارجي بالتفتح باعتبارها همزة وصل في ميدان المبادلات التجارية لاسيما أنها قد اختارت منذ الثمانينات تحرير اقتصادها وإدماجه في الاقتصاد العالمي.

يرتبط “النمو الاقتصادي” بمداخيل الناتج من تصدير المواد الأساسية الخام مثل الفوسفات والثروة السمكية والمنتوجات الفلاحية.. لكن النمو المتأتي من تصدير الثروات الطبيعية لم يحقق تنمية مستقلة.

  • تونس وازمة الطاقة

لا تمتلك تونس سلطة فعلية لها على قطاع الطاقةباعتبارها بقيت مقيدة بعقود أبرمت تحت الحماية الفرنسية والأمر ينطبق على اتفاقيات الاستقلال الداخلي المبرمة في 3 جوان 1955، فمن بنودها أن تلتزم الحكومة التونسية بعدم مراجعة هاته الاتفاقيات سواء النفطية منها أو الثروات عموما إلا بموافقة الطرف المقابل بمعنى أنّه حاليا أكثر من ثلث العقود النفطية في تونس لازالت تحت سيطرة منظومة قانونية للأمر العلي وذلك منذ سنة 1948 أي قبل الاستقلال بعشرية كاملة، وهذه العشرية كانت تحضر فيها فرنسا لضمان تواجدها الاقتصادي الدائم في تونس بعد خروجها العسكري، أي بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما تمّ فعلا بمقتضى اتفاقية جوان 1955”.ظلّ تغوّل الشركات الأجنبية وسيطرتها على القطاع وتسلّطها على نصيب الأسد من ثروات تونس، الأمر الذي دفع منظمات وجمعيات إلى المطالبة بضرورة مراجعة الاتفاقيات التي وقعتها الدولة منذ عقودٍ خلت (الاتفاقيات الاقتصادية المضمنة لاتفاقية الاستقلال الداخلي في 3 جوان 1961) والتي ورطّت في تبِعاتها أجيالا.

 فيما كان احتياطي تونس من النفط يبلغ  حوالي 450 مليون برميل، وهذا المخزون يمكن استغلالها على مدى 16 عامًا بمعدل 27 مليون برميل سنويًا، سنة 2019، كما بلغ الإنتاج الجملي للغاز 2100 مليون متر مكعب في نفس السنة. ويبلغ الإنتاج الجملي للغاز المسال في تونس 400 ألف متر مكعب سنة من السنة نفسها وينتج حقل “نوّارة” لإستخراج الغاز الطبيعي: 2.7 مليون متر مكعب من الغاز أي ما يعادل نصف الإنتاج الوطني و17% من الاستهلاك الوطني من الغاز. وتنفق تونس على دعم المحروقات نحو 1.9 مليار دينار كما يبلغ احتياطي تونس الغاز الصخري بـ 1708 مليار متر مكعب،…الا وانها سجلت خلال العام الحالي  ارقام جد متدنية بلغ الإنتاج الوطني للنفط إلى موفى شهر فيفري 2022 حوالي 0,29 مليون طن مكافئ نفط مسجلا بذلك انخفاضا بنسبة 11 % مقارنة بنفس الفترة من سنة 2021 حيث بلغ 0,33 مليون طن مكافئ نفط.كما أن استخراج الغاز الصخري جوبه برفض وخاصة من مكونات المجتمع المدني نظرا للتأثيرات الكبيرة على البيئة ونسبة التلوث العاليةاستنادا الى معطيات تضمنتها النشرية الشهرية الصادرة عن وزارة الصناعة حول “الوضع الطاقي”،

من الضروري وان تعيد السياسة المعتمدة بلورت استراتيجياتها من جديد من خلال  تأسيس هيئات رقابية للاهتمام بمسألة الطاقة،  ان مواجهة الفساد في المجال الطاقي قد يتقلص من خلال الانضمام إلى منظمة الشفافية الدولية للصناعات الاستخراجية، وإعادة تفعيل انخراط تونس في منظمة الدول العربية المصدرة للنفط لأن تونس لم تلغ عضويتها في هذه الاتفاقية بل هي معلقة منذ سنة 1986.

  • الوقود الاحفوري: الصندوق الأسود؟

خلال السنوات الاخيرة  اثير الجدل حول حقيقة الاحتياطي الوطني من المحروقات والارقام الرسمية  الغير المعلن عنها . لعل هذا الملف هو الأكثر غموضاً بما يتعلق بالموارد الطبيعية في تونس، ذلك ان الحكومات التونسية المتعاقبة منذ الاستقلال تخفي الحجم الحقيقي لإنتاج النفط والغاز الطبيعي.  فكيف تتوسط تونس بلدين من كبار المنتجين للمحروقات في العالم (الجزائر وليبيا) في المقابل  تشير السلطات الرسمية الى مؤشر ضعيف جدا لنسب الانتاج تجعل تونس في المرتبة 48 عالمياً في النفط بإنتاج قارب 65 ألف برميل في اليوم (120 ألف في بداية الثمانينات الفائتة)، والمرتبة 53 في الغاز بإنتاج يتجاوز 3 مليون متر مكعب في اليوم .لقد بدأ استغلال حقول النفط والغاز في تونس منذ الستينات، ويتركز أغلبه في المناطق الصحراوية ومنطقة خليج قابس (الجنوب الشرقي)، ويتوزع ما بين حقول برية وبحرية و تشرف “المؤسسة الوطنية للأنشطة البترولية” على قطاع النفط في حين تعتبر “الشركة التونسية للكهرباء للغاز” المعنية الأولى باستغلال الغاز الطبيعي لإنتاج الطاقة الكهربائية والتدفئة.

يقدر الاحتياطي التونسي بحوالي 400 مليون برميل من النفط، وحوالي 65 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. وحتى مطلع الثمانينات الفائتة كانت تونس تحقق الاكتفاء الذاتي على مستوى المحروقات بفضل إنتاجها والضريبة التي تحصل عليها من أنابيب الغاز الجزائرية التي تعبر تونس باتجاه إيطاليا. لكن منذ أواخر التسعينات الفائتة بدأ العجز الطاقي يتفاقم تدريجياً حتى وصل بعد الثورة إلى ما يقدر اليوم بقرابة 59 بالمئة من الاحتياجات. ومع تدني قيمة العملة الوطنية والارتفاع المتزايد لواردات البلاد من المحروقات، أصبحت الفاتورة باهظة جداً.

وعلى الرغم من نسب الفقر المرتفعة في البلاد والتي تصل إلى حدود 30 في المئة من السكان، فلدى تونس ثرواتها ويقصد  بالثروات الطبيعية تلك التي تمتلك قيمة تبادلية وتحويلية عالية في الأسواق العالمية على غرار النفط، المناجم، الطاقات المتجددة، المياه، والمنتوجات الفلاحية. كما تشير أرقام وزارة الصناعة التونسية أن إنتاج تونس المرتبط بالنفط وصل خلال سنوات تلت إلى حدود 70 ألف برميل يومياً، و جرى أكثر من 750 عملية تنقيب عن النفط. لكن 115 منها فقط أدت إلى اكتشاف آبار لها قابلية للاستغلال، ويحوز حقلي “البرمة” و”عشتارت” في جنوب البلاد على ما نسبته 85 في المئة من إنتاج النفط في البلاد، ويصنف البترول التونسي من قبل خبراءالنفط على أنه الأعلى جودة في العالم. يباع هذا الإنتاج في السوق العالمية خاماً، في حين تستورد البلاد المنتوجات النفطية الأقل جودة، ليعاد تكريرها في معامل تكرير النفط في بنزرت وفي صفاقس. وتحتاج تونس لاستهلاكها الداخلي إلى حوالي 90 ألف برميل يومياً 40 بالمئة منها  كانت تُغطّى عن طريق الإنتاج المحلي في حين يتم استيراد البقية أما بخصوص الغاز الطبيعي فيصل الإنتاج إلى 56 ألف برميل يومياً.

تحتكر الشركة البريطانية للغاز (British Gaz) إنتاج الغاز من خلال استغلالها لحقلي “حنبعل” و”عشتار” وهي تغطي 60 في المئة من الاستهلاك المحلي. في حين توفر الجزائر الباقي، فيُشترى منها جزء وتعطي الجزائر جزءاً آخر مجاناً مقابل استعمالها الأراضي التونسية لتصدير الغاز نحو إيطاليا.

كانت تونس تحقق الاكتفاء الذاتي على مستوى المحروقات بفضل إنتاجها، وبفضل الضريبة التي تحصل عليها من أنابيب الغاز الجزائرية التي تعبر تونس باتجاه إيطاليا. لكن منذ أواخر التسعينات الفائتة بدأ العجز الطاقي يتفاقم تدريجياً حتى وصل بعد 2011 إلى ما يقدر اليوم بقرابة 59 بالمئة من الاحتياجات.

الفساد الاسودكان متمركزا في عملية اسناد الرخص رخص التنقيب والاستغلالالتي  تُمنح لشركات بعينها رغم وفرت العروض الدولية لتونس، اكتشف ذلك في قضيتي “حقل الشرقي” البحري، ومصفاة “الصخيرة” فقبل  (2011) مُنح حق استغلال الأول لشركة “بيتروفاك” البريطانية في ظروف مشبوهة، ثم تبين بعد سقوط بن علي أن أحد أصهاره سهّل حصول الشركة على الرخصة بعد أن تلقى رُشَى قيمتها مليارا دولار من أحد كبار مديريها. أما مشروع بناء مصفاة “الصخيرة” ففازت به قطر سنة 2007 لكن تمّ تعطيل المشروع نظراً لخلافات سياسية وصفقات فساد كبيرة عطلت المشروع .

الفساد في هذا القطاع لا يتعلق بحجم الإنتاج بل بعقود ورخص الاستكشاف والاستغلال فخلالسنة 2018 تم الكشف عن استمرار شركة بترولية في التمتع بامتيازات التنقيب والاستغلال لحقل “المنزل” البحري بالمنستيررغم انتهاء صلاحية الرخصة فيديسمبر 2009. كذلك فيما يتعلق بتقارير الخبراء والمستشارين حول تقديرات الاحتياطي المتوفر عند استكشاف حقل ما هذا المعطى الأخير مهم جداً فالدولة تعتمد عليه لتقديرعائداتها المالية ،المرابيح و مصاريف الإنتاج و الضرائب والرسوموهي امتيازات تحددها طبيعة العقود و الاجراءات بين السلطات التونسية و المستثمر الأجنبي .عقود النفط من اكثر العقود التي تحتاج الى مراجعة قانونية تامة ذلك ان مجال المحروقات من القطاعات الاستراتيجية الحساسة التي تعول عليها الدول في فرض سيادتها الوطنية على الثروات و الموارد الطبيعية

تكمن المشاكل الأخطر في سياسات استغلال الثروات الطبيعية من الوقود الأحفوري التي يغلب عليها سوء التصرف وغياب الاستراتيجيات الواضحة. في بداية عهدها باستغلال النفط والغاز الطبيعي، اعتمدت  الدولة التونسية  على سياسة الشراكة مع شركات أجنبية لاستخراج الوقود الأحفوري وتكريره وتسويقه، و هو خيار مفهوماً نظراً لعدم توفر الإمكانيات المادية والتقنية  التي تعتمد في التنقيب و الاكتشاف. بعد عقدين أو ثلاثة  اصبح لدى تونس مؤسسات عمومية تعنى بالدراسات والتنقيب والنقل والتكرير كما اصبح هناك رصيد بشري حضي بمستوى تعليمي محترم حيث برز لديها جيل  من المهندسين والخبراء والكفاءات المختصة وهنا امكن للدولة التونسية الاستغناء عن الخدمات التي تقدمها الشركات الاجنبية التي تجني ارباحا طائلة من جراء خدماتا التنقيب التي تقدمها في اطار عقود شراكة مجحفة مع الجانب التونسي  وهنا كان من المفترض  على الدولة وان تسيطر على كامل المراحل من الاستكشاف وصولاً إلى التسويق لكن  ما حصل هو العكس تماما  إذ اتجهت الدولة منذ التسعينات إلى  تعهيد اللشركات الأجنبية بشكل شبه كامل كما أنها تخلت للقطاع الخاص عن جزء من الخدمات التي كانت تحتكرها، وهو ما جعل من هذه الشركات الاجنبية تحصل على نصيب الاسد من الاحتياطي الاستراتيجي للدولة .

يحذر مختصون في الميدان وفقا لدراسات متخصصة  بان موارد تونس من النفط ستنضب قبل حلول منتصف القرن الحالي، وسيصبح العجز الطاقي شبه كامل ولو لم يتم اكتشاف واستغلال حقول وآبار جديدة،.   تم اقتراح استغلال الغاز الصخري (“الشيست”). فحسب الدراسات الأولية، هناك منطقتان تونسيتان غنيتان بالغاز الصخري والبترول الصخري:  في كل من تطاوين و القيروان ، ويقدر المخزون القابل للاستغلال بقرابة 600 مليار متر مكعب. يبدو أن الدولة سائرة في هذا الطريق على الرغم من اعتراض الكثيرين على التكلفة البيئية والمائية لاستخراج هذا النوع من الموارد. لكن الحل الحقيقي يتمثل في الاعتماد أكثر فأكثر على الطاقات البديلة، فهي متجددة وتكلفتها المادية على المدى الطويل أقل من المواد الطاقية التقليدية، والأهم أنها صديقة للبيئة. لتونس إمكانيات كبيرة في مجال الطاقة الشمسية (أكثر من 3000 ساعة مشمسة في السنة وأكثر من 100 كم مربع من الأسطح القابلة لتركيز معدات تخزين الطاقة)، وبدرجة أقل طاقة الرياح. وتسعى الدولة إلى رفع مساهمة الطاقات البديلة في إنتاج الكهرباء إلى نسبة 30 بالمئة في سنة 2030 عوضاً عن نسبة 3 بالمئة الحالية، لكن السياسات الحكومية ما زالت غير واضحة والإجراءات بطيئةفي هذا المجال

المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية :  تغرق في الديون

تعيش المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، منذ ما يقارب العامين، وضعا ماليا معقّدا، إذ فاقت قيمة العجز المالي آخر سنة 2020، 900 مليون دينارا، في حين لا تتجاوز قيمة السيولة لديها نهاية العام الماضي 20 مليون دينار لتدخل هذه الشركة من جديد في حالة شبيهة بما يعرف بـ “السلسلة الغذائية” .
مع نهاية سنة 2020، وصلت قيمة مستحقات المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية لدى الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعات التكرير إلى ما يقارب ألفي مليون دينار ، حيث تدين المؤسسة للشركة المذكورة بأكثر من 1200 مليون دينار، وهو مبلغ شراءات شركة التكرير من النفط الخام الذي تزودها به المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية. ديون الشركة التونسية للكهرباء الغاز تراكمت إلى أكثر من 650 مليون دينارا، وهو قيمة شراءات “ستاغ” من الغاز التي توفره لها المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية..
وصلت قيمة الديون المتخلدة لدى حرفاء الشركة التونسية للكهرباء والغاز 2400 مليون دينارا، ففي سنة 2020، وتمثل قيمة ديون الإدارات العمومية والشركات الخاصة، وهي بالأساس الفنادق والمؤسسات السياحية، 70 بالمائة من قيمة تلك الديون أي ما يعادل 1680 مليون دينارا.
تعجز شركة “عجيل” عن تسديد ديونهاوذلك بسبب تراكم مستحقاتها لدى الإدارات ولدى شركات النقل البري، وهي بالأساس الشركة التونسية للسكك الحديدية والشركة الوطنية للنقل بين المدن وشركة نقل تونس، ولدى شركات النقل الجوي وهما شركة الخطوط الجوية التونسية وشركة الخطوط التونسية السريعة.

لم تضع الحكومات المتعاقبة أية استراتيجيات عملية تفكك ذلك التسلسل الكارثي الذي يهدد شركات عمومية كبرى بالإفلاس، بل اعتمدت على حلول وقتية مثل التدخل لتسديد ديون بعض تلك الشركات وهو ما حصل في شهر أوت من العام 2011، حيث تدخلت الدولة لتسديد مبلغ مائتي مليون دينار، قيمة متخلدات شركة عجيل لدى شركات النقل، كما تدخلت الدولة في العام 2017 من أجل تسديد ديون المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، لكن ديون تلك الشركات تراكمت من جديد وأصبح وضعها المالي أشبه بصخرة سيزيف.
أدى العجز المالي الذي تعاني منه المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية سنوات 18 و19 و2020، إلى عجزها عن خلاص التزاماتها المالية مع شركات بترولية تشاركها في حقول النفط، وهي بالأساس شركتي “سيتاب” (الشركة التونسية الإيطالية للبترول) و”سي أف تي بي” (الشركة الفرنسية التونسية للبترول)، ليتسبب هذا العجز في تأخر القيام بأشغال في الحقول التي تشاركها المؤسسة التونسية مع الشركتين المذكورتين، اللتين تملك الدولة حصة في كل منهما.

تواجه المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية أخطارا قد تؤدي إلى افلاسها، فهي مهددة بحرمانها من حصصها في الإنتاج في الحقول النفطية التي تتشارك فيها مع شركات بترولية أخرى، بسبب عجزها عن تسديد التزاماتها المالية في تلك الحقول، ويمكن أن يؤدي عدم دفعها الضرائب إلى تجميد حساباتها البنكية.
تعي كل الحكومات المتعاقبة الوضع المالي الصعب الذي تعانيه المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، والتي تمثل الدولة في مجال الإنتاج الطاقي، لكنها في المقابل ترمي في كل تسوية اجتماعية بالمؤسسة في أتون الصراع لإخماد التحركات والذي تجني منه المؤسسة ثمارا مرة. وتدفع “إيتاب” سنويا مليون دينار لفائدة جمعية اتحاد تطاوين إضافة إلى الأجور السنوية لعمال شركات البيئة والغراسة في قبلي وتطاوين والتي تبلغ قرابة 40 مليون دينار سنويا.

أصبحت المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية عبئا على الدولة، أو أريد لها أن تكون كذلك، لسببين أساسين هما غياب خطط إنقاذ فعلية للمؤسسة وفشل المؤسسات العمومية أو تغافلها عن استخلاص حقوقها من الجهات العمومية أو الخاصة

 الفسفاط : تراجع مكانة تونس العالمية

يعتبر الفسفاط أهم ثروة طبيعية منجمية في تونس، سواء من حيث العائدات المالية أو حجم الاحتياطي المتوفر، كان الفوسفات يساهم بحوالي 5 في المئة من الناتج الخام وقرابة 10 في المئة من قيمة الصادرات، وكانت تونس من ضمن أكبر خمسة منتجين ومصدرين عالميين لهذه المادة.للفسفاط مكانة خاصة في تاريخ البلاد الحديث. فمنذ تواجد سلطات الاستعمار الفرنسي  ساهمت مناجم الفوسفات في بناء الحركة العمالية النقابية التونسية وإسناد الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة للاستعمار، ثم لعبت دوراً هاماً في توفير الموارد المالية لبناء تونس ما بعد الاستقلال.

منذ  ثمانينات القرن الماضي تم اكتشاف وجود كميات هامة من الفوسفاط في منطقة المتلوي بقفصةلم تتأخر السلطات الاستعمارية كثيراً بالشروع في نهب هذه الثروة فمنحت سنة 1897 ترخيصاً لشركة فرنسية لاستكشاف واستغلال الفوسفات شرط التكفل بمصاريف مد خط حديدي بين المناجم وميناء صفاقس. باشرت “شركة الفوسفاط والسكك الحديد بقفصة” أنفاق المناجم الباطنية في  كل من المتلوي، الرديف ، و أم العرائس والمظيلة ، لينشأ الحوض المنجمي.

احتلت تونس المرتبة الخامسة في إنتاج الفسفاط عالميا حتى سنة 2011، ومع ذلك فإنها تعاني اليوم خسارة وعجز في توفير فرص عمل للشباب العاطل بولاية قفصة، وقد اندلعت احتجاجات في عام 2008 فيما عرف حينها بانتفاضة الحوض المنجمي، وتلخصت مطالب الشباب حينها في توفير فرص عمل في مناجم الفوسفاط. بعدما كانت تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج الفوسفاط، أصبحت اليوم غير مُصنفة بسبب تعطل الإنتاجنتيجة الإضرابات المتصاعدة, وبات مصير شركة فوسفاط قفصة مهددا بالإفلاس، مسببا انخفاض النمو في البلاد.

تشكل مادة الفسفاط جوهر الإنتاج الفلاحي العالي التقنية، فمن خلال المغذيات التي يحتويها الفسفاط من نتروجين وبوتاسيوم، يتَعزز نمو المحاصيل الزراعية إلى درجة قصوى، كما تدخل بعض المواد المستخرجة من معدن هذه الثروة المنجمية، كالفوسفور، في الصناعات الغذائية والتجميلية، الشيء الذي يجعلها مادة مطلوبة عالميًا وتصدر تونس أكثر من 8 ملايين طن من الفسفاط سنويا وهو مادة أولية لإستخراج “اليورانيوم” لقد كان استغلال الفوسفات يُشغّل بحوالياكثر من 30 ألف موطن شغل  كما يضخ موارد ضخمة إلى خزينة الدولةكل هذه الأهمية لا يمكنها التمويه على “الضرائب” الصحية والبيئية والاجتماعية، وهي مرتفعة ومخيفة.

الثروة المائية: شبح العطش

تونس “الخضراء” تتأرجح في السنوات الأخيرة على خط الفقر المائي. هذه الوضعية الخطيرة والتي قد تتفاقم في السنوات القادمة تعود إلى عدة أسباب منها الطبيعي – المناخي وبعضها من مسؤولية البشر، حاكمين ومحكومين.

لا يتجاوز المعدل السنوي للأمطار في تونس 230 مم بحسب احصائيات صادرة عن المعهد الوطني للأرصاد الجوية . ويهمين المناخ الجاف وشبه الجاف على أغلب مناطق البلاد كما  تتوفـر في البلاد موارد مائية إجمالية تقدر بـ4.875 مليار متر مكعب، منها 2.175 مليار متر مكعب من المياه الجوفية والباقي من المياه السطحية ويقوم تخزين المياه السطحية على بنية تحتية مكونة من 40 سداً وقرابة 1000 بحيرة جبلية و400 سد جبلي، مما يمنح تونس طاقة تخزين تقارب 3 مليار متر مكعب. أما بالنسبة لوحدات معالجة المياه فنجد 16 محطة معالجة و12 محطة لتحلية المياه الجوفية المالحة ومحطة واحدة لتحلية مياه البحر. وحسب الأرقام الرسمية ل”الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه”، فإن نسبة ربط التونسيين بشبكة المياه الصالحة للشرب تبلغ 100 في المئة في المناطق الحضرية و97 في المئة في المناطق الريفيةلماذا يتهدد الفقر المائي تونس؟

تبدو الصور والمشاهد المقبلة من تونس حول وضعية السدود صادمة وتبعث على الانشغال بشأن مستقبل المياه في البلاد، بخاصة بعد إقرار السلطات بقرب نضوب عدد من السدود وتراجع مخزونها، ما يهدد تزويد مناطق عدة بالماء الصالح للشرب، مع إمكانية التأثير السلبي على النشاط الفلاحي.
وتشهد تونس للعام الثالث على التوالي حالة من الجفاف أسهمت في مزيد من فرض الضغط على المنظومة المائية التي لم تعد تتحمل الطلب المتزايد، لا سيما في فصل الصيفوبحسب تصريحات المسؤولين التونسيين المشرفين على المنظومة المائية، فقد تم تسجيل تراجع في مخزون السدود في السنوات الثلاث الأخيرة، إذ إن المخزون عام 2019 كان 79 في المئة من طاقة التخزين ليتراجع في عام 2021 إلى 59 في المئة من تلك الطاقة.

  • خريطةالعطش تتوسع



من جانبه، يضع المرصد التونسي للمياه ، خريطة العطش في البلاد، جيث تم رصد 517 إشكالاً في المياه وأكثر من تحرك احتجاجي على خلفية انقطاعات المياه في عدد من المناطق، بعد تسجيل 381 انقطاعاً في ذروة فصل الصيف حين تزداد حاجة المواطن إلى الماء.
وتشهد تونس في السنوات الأخيرة تحركات احتجاجية من المواطنين في مناطق عدة على خلفية الانقطاعات المتكررة للمياه بخاصة في فصل الصيف حين يرتفع استهلاك المياه.

  • تراجع المخزون المائي

الأسباب الأساسية التي جعلت تونس تحت خط الفقر المائي متعددة على الرغم من تشابهها في باقي الدول العربية التي تعاني من ذات الأزمة، وهي في الأساس المناخ وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة، بخاصة في الجنوب فأسهمت في تبخر المياه بشكل كبير.
والكثافة السكانية وسوء التصرف في الموارد المائية والسياسات المائية غير الملائمة للوضع.
ووفق أحدث تقرير ، أثرت التغيرات المناخية بشكل كبير على الموارد المائية، كما أسهم الاحتباس الحراري بشكل أكبر في خفض نسبة التساقطات السنوية للأمطار ما جعل سنوات الجفاف تتوالى وهو ما زاد في انخفاض مستوى المياه السطحية وامتلاء السدود والبحيرات الجبلية.
إن ازدياد عدد السكان في مناطق عدة في تونس أدى إلى تزايد الطلب على استهلاك المياه، وهو ما سيزيد العبء على الموارد المائية المتاحة والمتسمة بالشح. كما أن سوء التصرف في الموارد المائية من قبل المصالح المختصة، أسهم بشكل كبير في تعميق أزمة الفقر المائي.الإصلاحات البطيئة وغير الجوهرية التي تعتمدها الدولة  لا تتماشى مع تسارع التغيرات المناخية وتفاقم مشكلة الاحتباس الحراري وأثرها على مصادر المياه.

 لم تضع الدولة التونسية برنامجاً استراتيجياً مواكباً للتغيرات المناخية وللفقر المائي الحالي وما زالت تعمل بذات النسق الذي اعتمدته خلال السنوات الماضية من دون تجديد أو تغيير في سياساتها، بخاصة في سياسة صنع القرار وهذا ما سيعمق أزمة المياه الحالية أكثر لتتواصل مع الأجيال المقبلة”.

وفقا لتقرير صادر عن مكتب التخطيط والتوازنات المائية بوزارة الفلاحة ، بأن  تمر تونس بوضعية جد حرجة على مستوى الوضعية المائية، فالمواطن التونسي يستهلك سنوياً 420 متراً مكعباً في السنة وهي مرحلة الشح المائي”.

إدارة الثروة المائية أيضاً غامضة، وتثير الغضب والاحتجاجات الاجتماعية فبعض مدن الشمال الغربي و الوسط التونسي تعاني من العطش بينما هي تحوي المائدة المائية الأكبر في البلاد  فتشير الأرقام إلى وجود 30 سداً من الحجم الكبير لها قابلية تجميع لما مقداره 1.85 مليون متر مكعب في السنة، إضافة إلى 250 سداً صغيراً و750 بحيرة توفر سنوياً وتباعاً ما مقداره 0. و 1.5 مليون متر مكعب من احتياطي المياه. تضمن هذه البنية التحتية توفير 70 في المئة من الماء الصالح للشرب، ومن مياه الري. لكن السؤال الأهم هو كيفية توزيع الموارد المائية؟ وفي أي قطاعات يتم استغلالها؟ وما الذي يجعل تونس على الرغم من مواردها المائية الكبيرة “مهددة دائماً بالعطش”؟

أحد المشاكل الرئيسية في وفرة المياه يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي تتبناها السلطة. فقد اتجهت منذ أواخر الستينات الفائتة إلى التعويل على اقتصاد “خفيف” ومتنوع قوامه تصدير الفسفاط والمواد الفلاحية والصناعات التحويلية الخفيفة والسياحة الشاطئية منخفضة التكلفة. وفّر هذا الخيار الشغل والعملة الصعبة، لكن كانت تكلفته البيئية، وخاصة المائية، مرتفعة.حتى طاقة الاستيعاب المحدودة هذه غير مضمونة، فالكثير من السدود التونسية تفقد نسبة كبيرة – تصل إلى 40 في المئة من قدرتها على التخزين – بسبب ترسبات التراب والتقصير في التنظيف والصيانة.

أما المشكل الرئيسي الثاني فيتعلق باستنزاف الثروة المائية بسبب السياسات الاقتصادية التي تتبناها السلطة. ويتمثل المشكل الرئيسي الثالث في شبكات توزيع المياه الصالحة للشرب والري. في المناطق الحضرية لا يطرح توزيع المياه مشكلة كبيرة، إذ تتولى “الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه” ربط المنازل والمحلات والمصانع بالشبكة العمومية. لكن مسؤولية ربط المساكن والأراضي الفلاحية خارج المدن بشبكات المياه متروكة إلى ما يسمى بالمجامع أو الجمعيات المائية، وهي بمثابة مجالس فيها ممثلين عن أهل المنطقة المعنية يشرفون على محطة ضخ مياه تعمل بالكهرباء، ويتولون استخلاص الفواتير وصيانة المعدات. لكن، لا خبرة للمشرفين على هذه المجامع ولا تكوين لهم يسمحان بإدارة وحدات بمثل هذه الأهمية، مما يتسبب بإهدار كميات مهولة من المياه. كما أن توزيع المياه بين الأراضي الفلاحية عادة ما يتأثر بالولاء السياسي والمحسوبية والانتماءات. وحسب الأرقام الرسمية فإن هناك فقط 400 جمعية “نموذجية” (من جملة 2500 جمعية) مما يعني ببساطة أن أكثر من 80 في المئة من الهياكل التي تتحكم في توزيع أكثر من 80 في المئة من المياه لديها مشاكل تتراوح ما بين نقص الصيانة، وسوء التصرف وصولاً إلى الفساد.

الدولة تتخلى عن ثرواتها: لمن؟

  • اتفاقية الملح

شكلت اتفاقية استغلال الملاحات سنة 1949 مصدر غموض كبيرمنذ إبرامها مع شركة فرنسية، وقد منحت الشركة احتكار الملح مقابل ضريبة بسيطة على الأرض لم تتجاوز الفرنك الفرنسي الواحد لكل هكتار في العام خلال تلك الفترة  وفق ما تقضي المادة 11 من الاتفاق المبرم بين الطرفين باستغلال الشركة لسباخ تونس، وبقيت شركة الملح خارج أي منافسة.

منذ انخراط تونس في سياسة التعديل الهيكلي سنة 1986 ووضعها موضع التنفيذ، أعيد التفكير في كيفية التصرف في الثروات الطبيعية، وتقرر تشجيع السلطات العمومية على التصرف المباشر بها لفائدة المستثمرين الخواص. فكان من نتائج هذا القرار التفريط سنة 1998 بأربعة مصانع مختصة في إنتاج الإسمنت الرمادي، وهي معمل “الإسمنت الصناعي التونسي” لصالح شركة إيطالية و”إسمنت جبل الوسط” لمجمع برتغالي، و”إسمنت النفيضة” لمجمع إسباني و”مصنع إسمنت قابس” لمجمع برتغالي، والتفريط بمصنع إسمنت أبيض بجهة القصرين لفائدة مجمع برتغالي. السياسة ذاتها طبقت في قطاع الموارد المائية، حيث تخلت الدولة عن التصرف في المياه لفائدة “مجمعات التنمية الفلاحية” المكونة من منتخبين خواص الشعار المرفوع في هذا الصدد هو دعم المقاربة التشاركية، لكن النتيجة كانت مزيداً من الفساد داخل تلك المجمعات، ومزيداً من إهدار الموارد المائية نتيجة سوء التصرف، ويتم ذلك على حساب الفلاحين الصغار. في السياق ذهبت الدولة إلى منح عقود طويلة الأمد لشركات استغلال النفط والتنقيب عنه، لكن كل المعطيات تشير إلى أن العلاقة التعاقدية بين الدولة وتلك الشركات لا تتسم بالشفافية، ولا أحد يعرف كيف تُمنح عقود الاستغلال. حتى التشريعات تبدو غامضة.

غياب سياسة عمومية للتصرف بالثروات الطبيعية يجعلها موضع مزايدات سياسية من ناحية، وحقلاً من حقول الفساد والمحسوبية من ناحية أخرى. والفساد هنا لا يتعارض كثيراً مع أجندات رأس المال العالمي الذي يبحث عن مزيد من الربح.

  • القمح التونسي الكنز المهدور

تتفاقم هواجس الخبراء من تكرار الحكومة التونسية لأخطاء سابقة فيما يتعلق بجمع محصول الحبوب  خلال المواسم القادمة وتخزينها،  هذا في خظم ما يشهده العالم من وتيرة الحرب المتصاعدة بين اوكرانيا التي كانت تزود العالم بسلاسل الامداد الغذائي سلة العالم من جهة وموجة الجفاف المستمرة  بتونس منذ سنوات،وصفقات الفساد بخصوص بنك البذور ك اهم مورد وهو ثروة من ثروات البلاد   خاصة وأن الدولة  في أمسّ الحاجة إلى تعزيز كفاءة سلسلة الإنتاج في ظل تفاقم القلق من عدم جدوى الخطط الاستراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي.

تطرح المشكلات اللوجستية وقلة المخازن تخزين الحبوب جدلا واسعا داخل الأوساط الاقتصادية التونسية في كل مرة ينطلق فيها موسم الحصاد، وذلك بالنظر إلى عجز الدولة عن تحديث طرق معالجة سلاسل الإنتاج وتقليص كميات إهدار المحصول ذلك وتتصاعد الدعوات لوضع خطة تكبح التوريد وتمنع إهدار الإنتاج.

تفتقر  منظومة البذور والشّتلات، في غياب استراتيجيّة وطنيّة مكتملة العناصر في المجال، إلى هيكل تسند إليه مهمّة متابعة مؤشّرات الأداء. ويقتصر دور الإدارة العامّة لحماية ومراقبة جودة المنتجات الفلاحية بالوزارة المكلّفة بالفلاحة على أعمال الرقابة الميدانية ومراقبة عمليات التوريد والتصدير مع غياب مصلحة صلب المندوبيّات الجهويّة تعنى بالمهام المذكورة. كما سُجّل نقص في الأعوان المكلّفين بمراقبة عمليات الإنتاج والتثبيت بلغت نسبته 58 %.

وتمّ الوقوف أيضا على محدودية آليات النهوض بالمنظومة حيث لوحظ غياب التأطير القانوني لإنتاج البذور والشتلات المحوّرة جينيّا وكذلك البيولوجيّة. كما اتّضح اقتصار مداولات اللّجنة الفنية للبذور والشتلات على النظر في مطالب الترسيم والحماية دون التطرّق إلى مشاكل المنظومة والإجراءات الكفيلة بتطويرها.

ولا تطالب الإدارة العامّة لحماية ومراقبة جودة المنتجات الفلاحيّة أصحاب المستنبطات النباتية المحمية بتسديد المعاليم السنوية المستوجبة على مراقبة حقول إكثار البذور ومعاليم الحماية وهو ما لا يسمح بتوفير موارد إضافية لحساب أموال المشاركة الخاص بحماية النباتات والتي من شأنها تمويل برامج تأهيل المنظومة. ولوحظ غياب نظام معلوماتي فعال  يمكّن من إدراج البيانات المتعلّقة بالمنظومة ومتابعتها مما أثّر في نجاعة التصرّف فيها. ويتعيّن تعزيز دور الهياكل المعنيّة بالرّقابة على المنظومة والإسراع بإعداد خطّة متكاملة للنهوض بها مع إيجاد الأطر والآليات للتنسيق بين مختلف المتدخلين والحرص على تدعيم دور اللجنة الفنيّة للبذور والشتلات والمستنبطات النباتيّة.

 ***

المراجع المعتمدة

المعهد الوطني للاحصاء

دائرة المحاسبات

وزارة الطاقة والصناعة و المناجم

 الشركة الوطنية للكهرباء و الغاز

 المعهد الوطني للأرصاد الجوية

وزارة الفلاحة و الصيد البحري

الإدارة العامّة لحماية ومراقبة جودة المنتجات الفلاحيّة

By Zouhour Mechergui

Journaliste