الخميس. ديسمبر 26th, 2024

اعداد صبرين العجرودي: قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية

تكتسب وسائل الاعلام أهمية كبيرة، تزايدت بشكل ملحوظ  في عصر العولمة والتطور التكنولوجي، ويعود ذلك للدور الذي تلعبه في تكريس التغيرات الاجتماعية عن طريق خلق أنساق ومجالات مختلفة من التفاعلات بين الافراد والبنى الاجتماعية تُساهم بدورها في تحريك  كل ما هو ثابت من الافكار والتمثّلات الاجتماعية والصّور الذهنية، لذلك لا تعد المنظومة الاعلامية بنية مستقلة بذاتها أو غير مرتبطة ببقية النّظم الاجتماعية التي تمارس بدورها جملة من الوظائف داخل المجتمع، وعند الاشارة الى هذه النّظم فيجدر علينا القول بأنّها يمكن أن تكون مادية أو غير مادية، رئيسية أو فرعية … وفي جميع الاحوال فإنّ هذه النّظم تتفاعل فيما بينها لتنتج نظاما اجتماعيا ما، فهي الآلة التي تقوم بتنظيم المجتمع وتساهم في توجيه الانشطة وكافة الادوار الاجتماعية  التي يقوم بها الافراد لتحقيق حاجياتهم وضمان استمرارهم، وبما أنّ هذا النّظام الاجتماعي يوجّه تصرّفات الافراد وتفاعلاتهم فيما بينهم، يمكن اعتباره جملة من القواعد والمعايير والضوابط التي تحكم تفاعلات الافراد فيما بينهم.

 لذلك فإنّ الاعلام كمؤسسة اجتماعية أو منظومة اجتماعية تمارس دورا ليس بالهين في بناء الافكار والتمثلات المتعلّقة بمختلف النّظم الاخرى، سواءً كانت اقتصادية أو ثقافية او سياسية، وهو ما ساهم في خلق موجة اهتمام كبرى بهذه المؤسسة بالوقوف عند أساليب ووسائل عملها، نظرا في أنّ هذه العناصر لم تعد مجرّد آليات تؤدي وظيفة اجتماعية ما أو تعتبر جزءَ من مسار اجتماعي، إنّما تستبطن جملة من القواعد، الواجب مراقبتها حتى تتناغم وطبيعة المنظومة الاخلاقية المراد الحفاظ عليها.

وبالتالي يمكن القول أنّ الاعلام ليس الا جزء من النسق الحضاري شأنه شأن بقية النّظم الاخرى، التي تعكس نماذج التفكير  والتصرفات التي نلاحظها في نشاطنا الاجتماعي اليومي،  وتتفاعل هذه النظم فيما بينها حتى تحقّق غاية اجتماعية ما، وهو ما يندرج في إطار العلاقة بين المؤسسة الاعلامية والمؤسسة القضائية.

فيما تتمثّل هذه العلاقة، وما هي العناصر التي تحكمها او تحدّدها؟

عن التكامل بين القضاء والاعلام

يشير الباحثون، الى أنّ الاعلام كنظام اجتماعي أو مؤسسة اجتماعية تضطلع بدور بالغ الاهمية داخل المجتمعات، وهو “ترسيخ الديمقراطية” ، إذ اعتبر الاديب “فيكتور هوغو” أنّ المجتمعات لا يمكن اعتبارها ديمقراطية إلاّ إذا تضمنّت قضاءً مستقلا واعلاما حرّا. ولتحقيق هذه الديمقراطية تتفاعل المؤسسة القضائية والمؤسسة الاعلامية بالتكامل والتعاون فيما بينهما، حيث يقوم الاعلام باستغلال فعالية دوره في التأثير على الجمهور المتلقي حتى يسلّط الضوء على التجاوزات  والإخلالات القائمة في المجتمع ويجلب الانتباه لها وبناءً على ذلك فإنه يعزّز دور العدالة، ولكي يؤدي هذا الدّور بأكثر فعالية يقوم القضاء استنادا لطبيعة دوره دستوريا بحماية حريّة الصحافة.

يشترك وسائل الاعلام والقضاء في غاية رئيسية وهي ضمان حقوق الانسان، ذلك يفسّر عمليا التكامل والتعاون المتبادل بينهما، ولن يحدث ذلك ما لم يكونا ملمين بحدود دورهما ومتطلباته وواجبات ومستحقات كل منهما، ذلك يعكس ضرورة التوازن بين عنصرين أساسين وهما “حرية الصحافة” المرتبطة بالعديد من المكونات والعناصر التي يلعب القضاء دورا مهمّا في تأسيسها، و “استقلال القضاء” والذي بدوره يؤدي وظيفة بالغة الاهمية في تكريس حرية الصحافة والاعلام، ويندرج ذلك في إطار تحقيق هدف أوحد، وهو الديمقراطية.

خلل في القيام بالأدوار الاجتماعية

في حال اضطلاع كل من هاتين المؤسستين بدورهما الطبيعي في تبادل الدّعم، فإنّ الديمقراطية أمر مضمون التّحقق، إلاّ أنّ تونس في السنوات الاخيرة شهدت جملة من التّوترات الاجتماعية في سعيها لتحقيق انتقالها الديمقراطي، كان ذلك على خلفيّة الخلل الذي أصاب ممارسات الفاعلين الاجتماعيين في وسائل الاعلام وفي المؤسسة القضائية، حيث لم تعد تؤدي وسائل الاعلام دورها الطبيعي في دعم العدالة، وهو ما انطبق ايضا على المؤسسة القضائية. وفي الحقيقة يرجع هذا الضّعف الى العديد من الاسباب، التّي من أهمها وعلى رأسها التّغيرات السياسية الحاصلة في تونس وأزمة الثقة الناتجة بين الفاعلين السياسيين، حيث لم تعد الجهات الفاعلة في المؤسسة الاعلامية والقضائية تعمل باستقلالية، بل أصبحت تؤدي وظيفتها بدعم من الاحزاب والمؤسسات السياسية، جعلها تنحرف عن أداء وظيفتها الاجتماعية، ويبيّن ذلك التداخل الفوضوي بين المؤسسات والنّظم الاجتماعية، وانتقالها من التكامل والتبادل والتعاون، الى التصادم وتضارب المصالح ممّا أدى الى عرقلة تونس عن المسار الصحيح والنأي بها عن تحقيق النّظام الديمقراطي. وقد كان لذلك الكثير من التأثيرات الاجتماعية الاخرى في بقية النّظم الثقافية والاقتصادية وغيرها التي بدورها تعثّرت في تأدية وظائفها، جعل المجتمع التونسي في منزلق خطير يشوبه انعدام المصداقية.

  • مثال: التخفي السياسي الحزبي وراء الإعلام التونسي 

استهدافا للرأي العام وسعيا للتأثير وتوجيه الآراء خاصة منها الانتخابية تسعى مختلف الأطراف السياسية لانتهاج أسلوب التخفي وراء البنى أو المجالات المؤثرة في الرأي العام للوصول إلى السلطة والحكم و بسط النفوذ السياسي، فالتخفي وراء الديمقراطية يمثل خطرا على عملية الانتقال الديمقراطي في تونس و وذلك أخطر حتى من الانظمة الديكتاتورية المباشرة، بحيث يتم إيهام المجتمع بكذبة  الديمقراطية تحت غطاء التعبير والحريات حتى يخال الأفراد أنهم فعلا تحت ضلال الديمقراطية  وهو ما يحاول اعتماده بعض السياسين بعد الثورة التونسية  اعتمادا على مالهم و هذا ما يبرر اتساخ الإعلام بالمال السياسي (الرشوة مثلا) والسياسة بحيث يكون خاضعا لتوجهات معينة .

يُلاحَظ في المشهد الإعلامي التونسي تشوشا سياسيا خاصة في الفترة ما قبل الانتخابية من خلال تمرير نقاشات وبرامج وتقارير إخبارية في باطنها تخدم اطراف سياسية، بحيث أن اخلالات المشهد الإعلامي والانقسامات السياسية بين مختلف القنوات التلفزية  باتت شديدة الوضوح  و هو ما يشير إلى وجود فوضى عارمة في المجال الإعلامي التونسي ليس فقط في السنوات ما قبل 2011 وإنما من زمن النّظام الموحد وصولا إلى فترة حرية التعبير والتعددية السياسية المزعومة.

حدود العلاقة بين وسائل الاعلام  والقضاء

من المؤكد أنّ العلاقة بين مختلف الانظمة الاجتماعية  والتكامل بين مؤسسات المجتمع والدّعم المتبادل فيما بينها لا يكون هامشيا، بل تحكم وظائف كل من هذه المؤسسات والنّظم قواعد تجعلها تحقّق غاياتها، ومن أجل تحقيق معادلة  الديمقراطية، تشتغل وسائل الاعلام والقضاء ضمن متغيّرين ثابتين لا يمكن تجاوزهما بأي شكل من الاشكال، وهما “حرية التعبير” و”الحق في محاكمة عادلة”، حيث يقع الموازنة بينهما من خلال اشتغال الاعلام في نطاق الحرية التي يحدّدها القانون (حرية تداول المعلومات أو بما يمكن التعبير عنه بتكريس علانية القضاء) في حدود المعايير الاخلاقية والضوابط القانونية، حتى تعمل الاخيرة بقدر كافي من الاستقلالية بناءً على عدم تدخّل وسائل الاعلام في دور القضاء، فتعزيز العدالة لا يعني تداول المعلومات التي يجب أن تكون مثلا في غاية من السرية.

في هذا السياق، يجب حماية القضاء من التأثيرات الخارجية الناجمة عن مختلف المؤسسات من بينها وسائل الاعلام، إلاّ أنّ وصولها الى المعلومات القضائية ذات المصلحة العامة يعد شرطا أساسيا يندرج في إطار أحقيتها في حرية التعبير لتكريس الديمقراطية من خلال جعل الجمهور المتلقي مواكبا لكل التّطورات الحاصلة في الشأن العام حتى تبقى السلطة القضائية خاضعة للمساءلة المجتمعية، وذللك يأتي في إطار الديمقراطية الاجتماعية حيث يُسمحُ للمواطن بالمشاركة في الحياة العامة عن طريق مراقبة سير المؤسسات الاجتماعية وعملها، وينطبق ذلك أيضا على المؤسسة القضائية، وتعد انسيابية المعلومة والاتصال شرطا رئيسيا في تحقيق ذلك.

إلاّ أنّ حريّة الاعلام والصحافة تقف عند عتبة المحاكمة العادلة وقرينة البراءة، من خلال ضوابط  قانونية محكمة تحدّد كيفية التناول الاعلامي لمختلف القضايا والجرائم، وعلى ضوء ذلك فإنّ حرية الصحافة ليست مطلقة، لذلك يقع تحديد عملها في إطار النجاعة والايجابية لتحقيق غاية الديمقراطية والشفافية، فهناك بعض الجرائم التي تتطلّب السرية المطلقة خاصّة منها المتعلّقة بسلامة الافراد وسمعتهم، الأمن القومي… كجرائم الاغتصاب والتّحرش الجنسي ضدّ القصر (طبقا للمرسوم عدد 115 لسنة 2011 في الفصل 60). في هذا السياق لا يُسمح للصحافة بالحصول على هذه المعلومات خاصّة وأنّ ذلك لن تكون له سوى تداعيات وتأثيرا ت سلبية على منحى العدالة والحياة الاجتماعية للأشخاص وبالتالي وسيكون بعيدا جدّا عن الغاية الرئيسية.

إذ يعد مبدأ علانية القضاء مبدأ اجرائي يقر بضرورة إعلان الاجراءات القضائية والنطق بالأحكام سواءً في المسائل الجنائية أو المدنية، إلاّ أنّ ذلك أيضا ليس مسموحا في الحالات التي ينص عليها القانون.

الضوابط القانونية المنظّمة للعلاقة بين الاعلام والقضاء

تضمن المادة (19) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الحق في حرية التعبير، ووفقا لذلك تشير الى أنّ “لكلّ شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها الى الآخرين بأيّة وسيلة ودونما اعتبار لحدود”.

تنص المادة (19) أوّلا (1) على أنّ لكل انسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقات، وثانيا (2) التماس مختلف المعلومات والافكار وتلقيها ونقلها الى الاخرين دون حدود  وبأي وسيلة من الوسائل، كما أشارت المادة في فقرتها الثالثة (3) الى أنّ هذا الحق المذكور في الفقرة (2) من هذه المادة مقيد بجملة من الاستثناءات والمعايير المحددة بنص قانوني بشرط أن تكون ضرورية (أ) لاحترام حقوق الاخرين وسمعتهم، (ب) ولحماية الامن القومي  أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة

وبذلك فإنّ المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، الى جانب ضمانها للحق في حرية التعبير، فإنّ القيود المفروضة على هذا الحق أيضا قامت بإخضاعها لجملة من الشروط  الصارمة المرتكزة على قدر الضرورة والتناسب (صلة قوية بين القيد على التعبير والمصلحة التي يمكن أن تتضرّر والاثار السلبية الناجمة عن ضررها)  بأن يكون القيد له أهداف وغايات ومصالح ضرورية  وحاجة اجتماعية ملحة ومحدّد  ضمن نصوص قانونية واضحة ودقيقة.

  • القيد على وسائل الاعلام

طبقا لما تضمنه المادة (19) من حق في حرية الراي والتعبير، تعتبر وسائل الاعلام ركيزة أساسية في ضمان ذلك، من خلال دورها في “تلبية حق المواطن في الاعلام والمعرفة” وهو الدور الطبيعي الذي تمارسه وسائل الاعلام في المجتمعات الديمقراطية، إذ أنّها استنادا لهذا النّظام الديمقراطي تمارس دوها بفعالية كبيرة وتساهم ايضا في تعزيزه، ويحيل ذلك الى التكامل بينها وبين الديمقراطية.

بناءً على ذلك، ينطبق مبدأ القيد على حرية التعبير وخصائصه (الغاية من القيد، اختبار الضرورة والتناسب، المصلحة العامة) على العمل الصحفي، فإلى جانب ضمان الدستور مبدا حرية التعبير والاعلام والنشر (الفصل 13) وحق المواطن في الاعلام (الفصل 32)، فإنّ على الصحفي مثلا الحق بالالتزام بأخلاقيات عمله من خلال الحصول على المعلومات والحرص على الحفاظ على سرية مصادرها طبقا لما ينص عليه المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المنظّم لحرية الصحافة والطباعة والنشر.

تندرج القيود المفروضة على حرية الصحافة في إطار ضمان المحاكمة العادلة، التي تعني اعتبار كل متهم بريء طيلة فترة المحاكمة (قرينة البراءة) والتّعامل معه وفقا لذلك (تفادي تسميات “المجرم” أو “الجاني” وتوظيف “المشتبه فيه فقط” ) الى أن يُنظر في قضيته بشكل عادل وعلاني في محكمة محايدة ومستقلة تكفل له حق الدفاع عن نفسه وتثبت ادانته. لذلك يُفرضُ قانونيا على كل من المؤسسة القضائية والاعلامية تقديم المعلومات ونشرها وتداولها بالدّقة اللازمة وتفادي كل المغالطات أو التلميحات التي  تضرّ بسمعة المتهم قبل الحكم عليه وثبوت ادانته بما في ذلك هويته، إلاّ في حال كانت هوية المشتبه به وقضيته متعلّقة بالمصلحة العامة.

  • القيد على القضاء

كما أنّ على القضاء التّحفظ الشديد في تصريحاته لوسائل الاعلام، خاصّة التي يمكن لها أن تدين المشتبه  فيه أو تبرئه خلال فترة المحاكمة وقبل انتهاء التحقيقات. وفيما يتعلّق بتطبيق القانون على الوسائل الاعلامية في حال انتهاكها لحق المتهم في المحاكمة العادلة وقرينة البراءة أو تأثيرها على سير التحقيق بخصوص قضية ما، فإنّ المؤسسة القضائية لا يمكن لها اتخاذ أي اجراءات تعاقب الجهة الاعلامية ما لم تقم الاخيرة بنشر محتوى للمعلومات الممنوعة قانونيا.

بناءً على ما سبق، نستخلص بالقول:

  • تعتبر العلاقة بين الاعلام والقضاء علاقة تكامل، من أجل تحقيق هدف رئيسي وهو الديمقراطية.
  • يعزّز الاعلام عمل القضاء من خلال  دوره في تسليط الضوء على القضايا القائمة في المجتمع.
  • يساهم القضاء في ضمان حرية الاعلام من خلال ضمان شفافية المعلومات.
  • تقف علاقة التكامل بين المؤسسة القضائية والاعلامية في حدود جملة من المتغيرات المرتكزة على غايات ضرورية يحدّدها القانون بدقة ووضوح.
  • تقف حرية الاعلام عند “الحق في محاكمة عادلة” و”قرينة البراءة” (المتهم برئ حتى تثبت ادانته).
  • المجتمعات الديمقراطية تقتضي “قضاءً مستقلا” و”اعلاما حرا”.

By amine