مع اكتمال رسم الملامح الاولى “للنظام العالمي الجديد” خلال العقود الاخيرة تحضر القارة الإفريقية كأبرز المحطات العالمية تفاعلا مع عمليات التحول التي يشهدها العالم ، وأكثرها تأثرًا بالتداعيات وتتضح هذه الإشكالية راهنًا في وقت تتنوع فيه التحليلات التي تستشرف تكوُّن “نظام عالمي جديد” متعدّد الأقطاب تبرز فيه الصين وروسيا في مواجهة “القطب الأوحد”؛ أي الولايات المتحدة وبغضّ النظر عن السياقات التاريخية والقضايا التي عرفتها القارة و تعايشت معها كالحروب الاهلية و الصراعات القبلية و القضايا الامنية والسياسية و الارهاب كذلك قضية المناخ و الامن المائي و الغذائي و الفقر وانتشار المجاعة التي تسببت في الأوبئة و الأمراض ؛ فإن إفريقيا التي تعاني من انفجار ديمغرافي تواجه نتائج الاضطرابات العالمية الحالية، كما يتضح مثالًا في تآكل اقتصاد افريقيا في العديد من الدول الإفريقية حيث يخيم الموت و الجوع على قارة توازي نصف قوت العالم ؟
الجزء الاول: اقتصاد إفريقيا والنظام العالمي الجديد
أفريقيا تلك القارة التي تملك باعا طويلا في التاريخ الاقتصادي، حيث ظهرت أولى التجمعات البشرية بها، وكذلك النشاط الاقتصادي كنتاج لهذه التجمعات مع بدأ ظهور الصيادين والمعادن الثمينة ، فهي من تتصدر العالم في إنتاج الكاكاو ونواة النخيل والفانيلا كما تعتبر إفريقيا منتجا رئيسيا للموز والبن والقطن والفول السوداني والمطاط والسكر والشاي ويربي الإفريقيون أكثر من ثلثي جمال العالم ورصيدا هاما من قطاع الماشية والأغنام في العالم كما تجلب أساطيل الصيد على طول السواحل الأفريقية كميات كبيرة من الاسماك المتنوعة وخيرات البحر وما الى ذلك من منتجاته كالزيوت و النباتات البحرية و المعادن الثمينة اما الغابات و الصحاري فقد جعلت منها مصدر ثراء للصيد وتجارة العاج و الخشب و المواد الأولية .
لقد شهدت القارة عصراً ذهبياً في الاقتصاد والسياسة والثقافة قبل ان تتحول الى مستعمرة قارية عانت ابشع واسوء تاريخ استعماري في الذاكرة البشرية واليوم لزالت معظم دول أفريقيا تعتمد على تصدير المواد الخام دون تصنيع، وعائدات التصديرهذه تتوقف على تقلبات أسعار السلع الأساسية وهذا الأمر يزيد مواجهة القارة السمراء من احتمالية مواجهة الصدمات الخارجية وتقلبات الأسواق،
تعاني القارة السوداء من مشكلات وعقبات مصيرية يتداخل فيها الإرث التاريخي والحضاري مع ذيول الحقبة الاستعمارية للدول الأوروبية في القارة، والكوارث الأخرى ذات المسببات المختلفة فكان اهمها الحرب الروسية الاوكرانية ودور إفريقيا في تشكيل الخريطة الجغراسياسية الجديدة ، والصراع الدولي، ومكانة حقوق الإنسان وحرياته فيها، إضافة إلى علاقاتها الدولية وانحيازها الداعم اما لمصالحها الخاصة او لمصلحة الاقوى ؟
لقد ادت الحرب الروسية ضد أوكرانيا الى قلب الاقتصاد العالمي رأسا على عقب ، ويُوقن بعض الخبراء أن روسيا والصين تُكوِّنان، “نظامًا عالميًّا جديدًا” لوقف النظام أحادي القطب وهيمنة الولايات المتحدة؛ مما أدَّى إلى حزمة عقوبات ضد روسيا مِن قِبَل الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي واليابان وغيرها، وهي عقوبات ألحقت الضرر بالعديد من الدول الإفريقية التي عانت من الارتفاعات العالمية في الأسعار كما يتعمّق الاستنفار الاجتماعي ضد الحكومات الإفريقية التي دعمت روسيا في الحرب ووفقًا لمنظمة الغذاء والزراعة العالمية “الفاو” فإن نصف دول إفريقيا 54 دولة تعتمد على واردات القمح من روسيا أو أوكرانيا، كما أن روسيا موردا رئيسا للأسمدة إلى 11 دولة إفريقية على الأقل يأتي ذلك فيما تعاني الدول الإفريقية من اضطرابات في سلاسل الغذاء و الامدادات وارتفاع أسعار السلع والمنتجات الأساسية ومخاطر “عواقب كارثية” إذا استمر الوضع.
وتلعب روسيا، كما يتضح لخبراء الشأن الدولي ، دورًا يشبه كثيرًا سياسات فترة الاتحاد السوفياتي حيث اثار ذلك إعجاب كثير من قادة القارة الإفريقية وشعوبها، وارتكزت سياسات روسيا على حلفاء الاتحاد السوفييتي الأفارقة، حيث تقوم سياسات روسيا الخارجية في إفريقيا بالأساس على العلاقات الرسمية بين الحكومات والدول بشكل واضح، حيث اعتبر الرئيس الروسي مؤخرًا خلال اجتماعاته مع الرئيس السنغالي ورئيس الاتحاد الإفريقي في دورته الاخيرة ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي إلى “أن روسيا اصبحت في مرحلة جديدة من تطوير علاقاتنا مع الدول الإفريقية”، وأن ذلك أظهر نتائج إيجابية وأن روسيا طالما كانت في صف إفريقيا ودعمتها ضد الاستعمار، كما أنها لم تكن يومًا ما قوة استعمارية في إفريقيا ولقد مثل ذلك بالنسبة الى كل من امريكا والاتحاد الاوروبي وان “موسكو لا تزال تملك القوة الدبلوماسية التي تمكنها من تحدي الغرب في الوصول لقلوب وعقول الحكومات الأفريقية”.
تواجه افريقيا اليوم أزمة ثلاثية الأبعاد هي الغذاء والطاقة والتمويل. فمع العواقب الاقتصادية لأزمة روسيا-أوكرانيا فإن ثمة إشارة للقادة الأفارقة لإعادة التفكير في وضع سياسات تعويض الاستيراد وذلك بالتعويل على القدرات الذاتية لها و انشاء سوق مبادلات بين دول القارة كسوق بينية لتامين حاجياتها من السوق او بناء استراتيجية انتاج تكون قادرة من خلالها على الاستغناء على الاستيراد الزائد وافريقيا قادرة على ذلك لأنها تمتلك الأراضي العملاقة القابلة للزراعة.
وفي ظل احتمالات وقوع مجاعات في الساحل والقرن الإفريقي أشارت عدة تقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما من المنظمات والمؤسسات الأكاديمية إلى أن اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء ستكون أكثر تأثرًا بالأحوال العالمية الأكثر حدة وخفض معدلات الانفاق الأجنبي على الاقليم كما ان ارتفاع أسعار الوقود والغذاء سيِؤدي بحياة اكثر نسبة من السكان الذين تعرضوا للفقر ويكونون أكثر هشاشة إزاء أحوال متغيرة على نحو غير متوقع ومنها على سبيل المثال احتمالات وقوع عصيان مدني نتيجة للارتفاع الصاروخي لأسعار الغذاء والوقود، لا سيما في ظل البيئة الراهنة من حالة عدم الاستقرار السياسي المتصاعد. ومن جهة أخرى فإن الدول الإفريقية تعاني بالفعل في سبيل تحقيق جهود التعافي بعد عامين من كوفيد-19.
لم تعد افريقيا تحقق قدرًا كبيرًا من المنافع الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التي تملك سواحل بحرية خصوصا في القطاعات المتعلقة بالصيد و الملاحة البحرية مثلا ذلك ان ما تمتلكه من موارد بحرية اصبحت تمثل اساطيل للصيد الصناعي تابع لدول اجنبيه كبرى ومنها الصين بموجب اتفاقيات ومعاهدات وهذه الدول التي تمارس استغلالا جائر للصيد تكاد من خلاله الاستحواذ على الثروات البحرية حتى ان الدول الافريقية المعنية لا تمتلك المعلومات الكافية حول الاحتياطات من المنتوجات البحرية خصوصا في وضع اعتمدت فيه اغلب الدول على ما يسمى بسياسات التقشف وهو ما يهدد المخزون الاستراتيجي لدول افريقيا النامية والفقيرة التي ليس لها على ما يبدو أي خطوات لمواجهة الازمات العالمية المتحورة
الجزء الثاني : افريقيا بين الفرص و التحديات : جيل جديد من التنمية
الصناعة الإبداعية والثقافية في إفريقيا ،يرى خبراء أفارقة ضرورة أن تساهم إفريقيا بقدر أكبر في تطوير قطاعات لم تُستغل على نحو كامل حتى الآن في إفريقيا؛ مثل الصناعات الإبداعية والثقافية التي تمثل واحدة من أهم القطاعات الأسرع نموًّا في العالم، وتملك قدرة على توفير فرص عمل ونموّ اقتصادي في عصر التحول الرقمي، ورغم ذلك فإنها لا تحظى بالاهتمام الكافي في القارة الإفريقية ومن أجل زيادة نصيبها في النمو والتجارة العالمية وتعزيز اندماجها في الاقتصاد العالمي يجب على إفريقيا استغلال “اتفاق منطقة التجارة الحرة القارية لإفريقيا” التي يمكن أن تكون مغيرًا للعبة في الإسراع بالتحول الهيكلي والنمو بالقارة ككل.
كما يؤكد اغلب المهتمين بالشأن الدولي وان الصناعات الإبداعية الإفريقية ” تعد منجم ذهب للقارة ” ويكون ذلك من خلال استغلال تراث إفريقيا الثري وقوتها الإبداعية لدى شبابها على نحو يمكن أن يُفْضِي إلى نهضة ثقافية وتحولات اقتصادية في منطقة التجارة الحرة. وسيكون للصناعات الإبداعية والثقافية القدرة على دعم النمو الاقتصادي وتعميق التكامل الاقتصادي عبر تقوية تقارب ثقافي بين دول القارة”. وأن الصناعات الإبداعية والثقافية تتسم بأنها صناعة نمو في “الفنون والثقافة والتراث” بالنسبة لأفريقيا خصوصا في ضل العولمة والتكنولوجيات الجديدة التي أدت إلى تسارع التفاعلات الثقافية بين الدول، يمكن أن تُعمّق نموّ الصناعات الإبداعية والثقافية الإفريقية عندما يمكن التحوّل الرقمي والقوة الابتكارية للشباب الإفريقي العالم من إعادة اكتشاف إرث إفريقيا الثقافي الغنيّ وجمالها الفرنكفوني .
مع الوضع العالمي المتغير هناك حاجة ملحة لمراجعة السياسات الاقتصادية لدول افريقيا النامية واعادة النظر في سياساتها الخارجية حيال الازمة العالمية او “النظام العالمي الجديد” الذي تستصدره روسيا والصين ويقول الخبراء: إن روسيا محدودة للغاية بحدودها الاقتصادية العالمية بالرغم من طموحاتها في قيادة العالم، ولا يمكنها البروز عالميًّا إلا من خلال التحالف مع قوة مثل الصين التي قضت سنوات طويلة في التوسع وفرض سياساتها الاقتصادية عمليًّا في أرجاء العالم.
وبالرغم من الانتقادات فإن الصين، التي يبلغ عدد سكانها 1.5 بليون نسمة، تعتبر قوة اقتصادية. ولها دبلوماسية استراتيجية تعاونية مع الدول الخارجية، وحققت مكانة كبيرة كقوة عظمى متفوقة على الولايات المتحدة التي بدا نفوذها في التراجع وقد واجهت الصين بالفعل تحديات كبرى وانتهزت فرصًا مميزة لتقوية مكانتها لا سيما من حيث التجارة والاستثمار، ومن الأهمية بمكان حاليًا لدى القادة الأفارقة أن يقوموا بالبحث عن استثمارات مستدامة في مجالات الزراعة والصناعات التكنولوجية المتطورة والطاقة البديلة والنظيفة مع شركائهم الأجانب.
كذلك تسعى اليابان اليوم الى بناء علاقات عالمية جديدة وتركيز نظام اقتصادي جد قوي ومناطق استثمار حيث يمكن ان تكون القارة الأفريقية فرصة سانحة ونموذجية انطلقت بقمة “تيكاد” التي احتضنتها البلاد التونسية مؤخرا وهي ” ندوة طوكيو الدولية للتنمية في افريقيا” وذلك من خلال تعزيز تنمية يقودها الفارقة بنفسهم .