عادل الحبلاني: باحث بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية بتونس
تعيد الأزمة الأوكرانية الروسية إلى واجهة المشهد السياسي الدولي والعلاقات الدولية من وراءه, صراع وتوتر بين الغرب والشرق, بما اضفى تباعا حالة من التلكؤ في المواقف الدولية خاصة منها العربية والإفريقية ودول قارة آسيا وتباين للمواقف في الداخل الأوروبي على خلفية التصويت لمشروع إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذا الأمر أنتج حالة من التعطل والإرباك في منظومة اشتغال الديبلوماسية سياسيا وأنماط فضها للنزاعات ودرأ الحرب وإيجاد الطرق الكفيلة بفض النزاع الدائر بين روسيا وأوكرانيا,إلا أنهحركها اقتصاديا(الديبلوماسية)لتصبح ورقة التفاوض التي يحتكم إليها اليوم وتدخل في حسبان الكثير من الدول إما قسريا أو استراتيجيا. فإلى جانب الغاز والنفط محركا العلاقات الدولية وورقتا الضغط الديبلوماسي اللتان يتم اعتمادهما في الكواليس ووراء الياقات البيضاء, يدخل اليوم القمح واجهة الصراع الدولي ويقدم نفسه كورقة ضغط ديبلوماسية أو كمطية لتعميق النفوذ على دول بعينها. ولعل الحديث اليوم عن ديبلوماسية القمح هو حديث في جوهره عن الصراع الفرنسي الروسي في إفريقيا والشرق الأوسط, الذي تسعى فرنسا خاصة إلى اعتماده كمدخل من مداخل ترسيخ النفوذ على غرار الفرنكوفونية وشركاتها المتمركزة في أغلب دول إفريقيا.
أهمية القمح على المستوى العالمي
زادت أهمية مادة القمح ترافقا مع الثورة الاقتصادية التي شهدها العالم أي بداية من سنة 1870 ولئن كانت لهذه المادة من أهمية فذلك يعود إلى قدرتها على توفير الغذاء والخبز اليومي وحفظ البقاء ودرأ المجاعة, ففي شبه الجزيرة العربية كما في العراق وسوريا ولدى المصريين القدامى وأوروبا وأمريكا وروسيا وكل دول العالم تقريبا كان للقمح أهمية محلية, إلا أن التحولات الاقتصادية الكبرى التي رافقت الثورة الصناعية وتركيز الشركات العابرة للقارات وزيادة عدد سكان العالم جعلت من القمح منتج حيوي افترض توسيع رقعة المساحات المزروعة قمحا وحولته إلى مادة تجارية بامتياز تدر الأموال الطائلة على اقتصادات الدول وتضمن للدول المنتجة للقمح أمنها الغذائي وسيادتها وتخلي سياساتها الخارجية من كل تبعية بل وتحول هذه المادة في الكثير من الأحيان إلى ورقة ديبلوماسية تلعبها الكثير من الدول لتمرير سياسات أو للضغط على دول أخرى أو لفتح مجالات تجارية تنافسية. ولئن مورست هذه السياسة أو بالأحرى هذه الديبلوماسية من قبل الهند إبان الحصار الذي عاشته أفغانستان وحرمانها من الاستيراد, إلا أنها كانت ذات صبغة تجارية أكثر منها سياسية تصب في خانة رفع حجم واردات الهند وتحقيق مآرب ربحية, ولم تأخذ طابع الحدة والصراع المعلن والضمني إلا بين فرنسا وروسيا في إفريقيا وشمال المتوسط.
لم يخرج مفهوم ديبلوماسية القمح أو نفط الكرملين الجديد للعلن إلا سنة 2017 بعد إعلان روسيا انها أصبحت المنتج الأول للقمح في العالم وتعبيرها عن قدرتها على توفير هذا المنتج الحياتي لبقية دول العالم الصديقة, الأمر الذي سمح بإبرام اتفاقيات تجارية هامة لهذه المادة في كل من آسيا وإفريقيا على وجه الخصوص وسمح بتشابك المصالح بين روسيا الاتحادية ودول أخرى على غرار السعودية ومصر وليبيا ولبنان وبعض الدول الإفريقية التي أعادت توجيه البوصلة وفتحت منافذ تجارية أخرى خلافا لعلاقاتها التجارية القديمة مع المستعمر الفرنسي على غرار مالي, وسمح بدوره ببناء علاقات ثقة بين العودة الروسية على الساحة السياسية العالمية والعديد من الدول التي تعاني من أدران ووطأة الاستعمار الغربي بأشكاله المتعددة, وحيث أن السّياسات الخارجية وسياسات الدول لا تهدف إلاّ لبناء استراتيجيات من أجلإحكام النفوذ أو لخلق علاقات ودية, فإن القمح الروسي تحول إلى ورقة ديبلوماسية مزدوجة القيمة, تسعى من جهة إلى خلق علاقات تجارية مع بقية دول العالم ومحاولة إنهاء السيطرة الغربية على دول إفريقيا وشمالها وهدم منطق القطبية الأحادية, وتمثّل من جهة اخرىورقة للضغط على الدول اللاّصديقة عند اشتداد الأزمات الديبلوماسية الدولية, ولعلّ المثال الأبرز على ذلك الأزمة الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها على أغلب دول العالم وقرار مجلس الأمن بإدانة روسيا على خلفية الحرب مع أوكرانيا, حيث ظهر إلى جانب النفط والغاز الروسيين منتج القمح كورقة روسية هامة جعلت من العديد من الدول وبخاصة دول إفريقيا وشمالها إما تلتزم الحياد وإما ترفض التصويت أو تتجاوز قرار مجلس الأمن في جوهره.
مثل هذه المتغيرات في جوهر العلاقات الدولية وتزامنا مع الأزمة الأوكرانية الروسية والانتفاض الغير معلن على قرار مجلس الأمن من قبل دول بعينها بالإضافة إلى أزمة الغذاء العالمية والصحية والأزمة الطاقية التي خلفتها النزاعات في العديد من المناطق, جعل الحديث عن ارتسام معالم جديدة للعلاقات الدولية أمرا وجيها وجعل تباعا القوى الاستعمارية القديمة والدوائر المالية التابعة لها تبحث لنفسها عن اعادة تموقع داخل خارطة جغراسياسية جديدة مطلبا ملحا, وحول بالنتيجة منتج القمح من ضرورة حياتية إلى ورقة ديبلوماسية تلعب اليوم على وجه الخصوص في إفريقيا وشمالها.
صراع ديبلوماسيات القمح بين فرنسا وروسيا
خرج صراع ديبلوماسية القمح بين روسيا وفرنسا للعلن في أعقاب انفجار مرفأ بيروت الذي تلته زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون ليعلن عن مبادرة من قبل مزارعي الحبوب الفرنسيين لدعم لبنان من حاجياتها للقمح علما وأن لبنان تعتمد على أكثر من 50بالمئة من واردات قمحها من روسيا,وفي أواخر مارس 2022 في الوقت الذي استوردت فيه مصر حوالي 80 بالمئة من حاجياتها للقمح من روسيا وأوكرانيا (قبل الأزمة ), دخلت فرنسا على الخط معلنة على لسان وزير ماليتها دعم فرنسا ووقوفها إلى جانب مصر لحصولها على حاجياتها من القمح, وعلى الرغم من أن هذا الدعم في ظاهره مساعدة بقية شعوب العالم إلا أن في باطنه ليس إلا ورقة ضغط تعتمدها فرنسا لإعادة بسط نفوذها في المنطقة التي بالرّغم من أنّها تمثّل 6 بالمئة من سكان العالم إلا أنها تستهلك ثلث الواردات العالمية للقمح علاوة على استراتيجية المنطقة بالنسبة للغرب ولفرنسا على وجه الخصوص, ففي مصر كما في لبنان وتونس وليبيا وإفريقيا تسعى فرنسا إلى فرض نفسها كبديل للأمن الغذائي للمنطقة وللقمح الروسي, ولعل مبادرة FRAM التي أعلنت عنها فرنسا والتي تهدف
-حسب مخرجات إجتماع وزير أوروبا والشؤون الخارجية ووزير الزراعة والأغذية والوزير المنتدب المسؤول عن التجارة الخارجية حول تنفيذ مبادرة الغذاء ومهمة المرونة الزراعية (FARM) من أجل الأمن الغذائي للبلدان الأكثر ضعفاً- إلى منع الآثار الجانبية على الأمن الغذائي العالمي للحرب ( التي شنتها روسيا في أوكرانيا) (وفق نص البلاغ ) وعدم تحول المنتجات الزراعية تحت أي ظرف من الظروف إلى سلاح حرب وبسط نفوذ,ليست إلا مبادرة ومحاولة فرنسية أوروبية لترسيخ تواجدها في المناطق الأكثر تضررا من الأزمة الأوكرانية الروسية, وليست تباعا إلا ورقة ديبلوماسية تمارسها فرنسا لتقدم من خلالها نفسها على أنها الشريك الأفضل لإفريقيا.
يعود ظهور ديبلوماسية القمح إلى واجهة الصراع على خلفية ما توصلت إليه روسيا من قدرة على تحولها من مستورد للقمح إلى منتج ومزود أول للقمح العالمي, وما سمح لها بالنتيجة ببناء علاقات وتشابك مصالح مع دول أوراسيا (كازاخستان وبيلاروسيا وأرمينيا وقرغيزستان)ودول إفريقيا وشمالها ودول الخليج وخلق تحالفات جديدة تغيرت معها تباعا سياسات الدول النامية وخاصة سياسات الدول الإفريقية والخليجية, ولعل قرار مجلس الأمن بإدانة روسيا على خلفية الازمة الأوكرانية الروسية والتغير الذي شهده العالم في مواقف العديد من الدول العربية على غرار السعودية والإمارات وسوريا والجزائر ودول قارة آسيا وأوروبا الشرقية لهو دليل أكبر على تشابك المصالح الاقتصادية وتعمقها سياسيا واستراتيجيا وتفكك منطق القطبية الأحادية. هذا التطور الحاصل, سرعان ما أثار حفيظة قوى الاستعمار القديمة التي تراجعتنفوذها في منطقة إفريقيا وشمالها على وجه الخصوص, الأمر الذي تتطلب إعادة تموقع واستعادة نفوذ عبر ورقة القمح, ففرنسا اليوم تسعى إلى تعزيز مكانتها كمصدر أول للقمح في المتوسط وإفريقيا وتسعى إلى التأكيد على أنها الشريك المميز لدول القارة, وليس الأمر على هذا النحو أو كما يتم الترويج له من خلال خطابات ومؤتمرات الخارجية الفرنسية, بل إنه على العكس تماما من شعارات الأمن الغذائي العالمي وحملات التضامن الجمعياتية, فإفريقيا التي ترزح تحت وطئة واستغلال الشركات الفرنسية المعسكرة بالإضافة إلى الاستغلال الفاحش لثرواتها ومقدراتها الطاقية والزراعية هي أكثر القارات التي تعاني دولها المجاعة والموت من الجوع, ففي تقرير نشرته المنظمة الإنسانية البريطانية “أوكسفام” تحت عنوان ” فيروس المجاعة في تكاثر” يؤكد التقرير أن ظاهرة الجوع في بوركينا فاسو ارتفعت إلى نسبة 200 بالمئة, ذلك الى جانب أنّ الكنغو الديمقراطية والسودان سجلت ما يعادل ثلثي إجمالي عدد الأشخاص المعرضين للمجاعة في العالم, هذه العوامل وغيرها تؤكد أن السياسات الغذائية الفرنسية خاصة في إفريقيا ليست إلا ضروبا من الشعارات الفضفاضة والمفرغة من كل حس إنساني وهي في حقيقة الأمر ليست إلا ورقة ديبلوماسية تلعبها فرنسا لترسيخ وجودها في المنطقة ووضع الشروط التي تتلاءم وسياساتها الاستغلالية, وليست في التحليل الأخير إلا غطاء إلى جانب أنها ورقة ضغط بامتياز لتمرير سياسات أكثر استغلالا وانتهاكا لسيادات الدول.
خلاصة القول يحتدم الصراع الروسي الفرنسي في القارة الإفريقية وشمالها ولئن عرف في كل حيثياته صراعا حول الموارد الطاقية من نفط وغاز ومواقع استراتيجية فإنه اليوم يأخذ منحا آخر يتعلق بمصائر حياتية قد تفاقم من أزمة الغذاء العالمية وتنذر بجائحة جوع كونية.