الجمعة. نوفمبر 22nd, 2024

بحث واعداد: خولةكلاحشي باحثةفي العلوم السياسيةوالاتصال السياسي في مركز الدراسات الاستراتيجية الأمنيةوالعسكرية.

التدقيق اللغوي:منى بوسيف باحثة بالمركز الدّولي للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية

مراجعة:الدكتورة بدرة قعلول

ظاهرة الانعكاس القاعدي الشعبي تكتسح العالم وتونس البلد الرائد في التحول نحو الديمقراطية المفتوحة.

المخطط:

1 ما بعد الدّيمقراطية

2 ما بعد الأحزاب السياسية

3ما بعد تنظيم الإخوان

4 النموذج التونسي معيار جديد للديمقراطية المفتوحة

صورة للفنان التّشكيلي بيكاسو تجسّد الديمقراطيّة في المرأة “ربّة الديمقراطية” حسب الفكر الأثيني الإغريقي والسّلام في الحمامة البيضاء 

لطالما أشادت ثقافة التنوير بالإله الاكبر والأعظم للحكم والإمامة، فكانت الديمقراطية[1]نظاما مقدسا يسبح بحمده المسبحون ويتعبدُ الناس طقوسهُ وتباشيرهُ، لكن بات من الجلي للعيان أُفول إشعاع هذا الاله باختلاف أصنامه [2]، والتي أصبحت على مشارف الاضمحلال و التهجين الى الإنوقراطية Anocracy مبدئيا.

وبالرغم من أن مؤشرات الديمقراطية في العالم[3] تؤكد أن لها الأغلبية و الاستحقاق في التطبيق إلا أن الواقع السياسي يثبت أنها ليست بنظام سياسي مطلق[4] ،وذلك إستشهادا بأكبر المؤلفات والفلاسفة[5] وبناء عن تقييم إبستيمولوجي للاتصال ودوره السيكولوجي الجديد في الانتخابات في مختلف أنحاء العالم والتي دعمت صحّة الانتقادات الدمقراطية كأحسن نظام سيئ في العالم ، كي نستنتج على التواليأننا على عتبة عصر ما بعد الديمقراطيات، تسود فيه شعبوية دغمائية وغوغاء الميديا.

ليس من المبالغة أن نقول أن الديمقراطية أصبحت ديناعلمانيّا حديثا، بإمكاننا إذا  أن نطلق عليها الدين الأكبرفي العالم.”لكن أهناكديمقراطيات فعلا،ألا يجب تحطيم صنم الديمقراطية بماهي المقابل الدلالي الوحيد للاستبداد؟ هل يكمنالخطأ في الديمقراطية كنظام أم في ممارستها ، أم أنها وهم ورياءٌ منذ البداية؟ وكيف يمكن وصفها بسلطة شعبٍ، بات الشعبُ نفسه كارهها؟ وكيف يستحوذ الإعلام الاجتماعي بخطابه الايديولوجي ليسرق النفوس ويتحايل على العقول؟

وتبعا لذلك، بات الاجماعُ قائما على وجود خللٍ جيني محققٍ لا يمكن درأهُ بهذا النظام فتنوعت الدراسات و البحوث حول أزمة الديمقراطية[6] التي لا تفسد للود قضية ،غير أن ما يجرمه البعض وينعته بالظلامية والرجعية هو”الفكر المعادي للديمقراطية Anti-democratic thought. وبعيدا عن هذا السّجال العقيم المتعلق بالإيمان والتجريم والعقاب تبقى النتيجة واحدة “ما بعد الديمقراطية”[7].

فما الخير المرجو من الديمقراطية الحالية؟ وهل هي حقا نموذج عالمي شامل؟ وما هو البديل؟

1 ما بعد الديمقراطية

“ما بعد الديمقراطية” عنوان كتاب لإيمانويل يذكّرنا حتما بكتابه السابق «ما بعد الإمبراطورية» الذي أثار ضجة كبيرة. إن المؤلّف يجمع في تحليلاته بين دراسة الظروف الراهنة التي تمرّ بها المجتمعات الصناعية الغربية المتقدّمة وبين دراسة المسارات التطورية التي عرفتها على المدى الطويل.

وذلك في منظور محاولة فهم الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة وأفق تطور البنى الاجتماعيةالتي تتغير مع التحولات العالمية،ويؤكد “إيمانويل”على «السمة الدينية» للأزمة الحالية في مجتمعات معنية”كالشرق الأوسط وشمال افريقيا”فقد لعب المكوّن الديني دورا «بنيويا» في هذه المجتمعات واعتمدت معظمها على الأحزاب ذات الوازع الديني، كما يؤكد الكتاب على شيوع «نزعة تشاؤمية» على المستوى الثقافي تعود إلى «حالة الجمود» التي تعيشها المنظومات التربوية والأخلاقيّة وكلها مفاهيم عامة وواسعة تقبل التأويل وتتلون حسب “النسيج المجتمعي والثقافي”، وليس النظري أو القانوني، أي استنادًا لمفاوضات اجتماعية متكررة، تحدد نتائجها اختيارات سياسية، تتبع الأحكام الأخلاقية لأعضاء تلك المجموعات، في سياق ثقافي معين، وفي لحظة تاريخية مُعينة.

فهذه المفاهيم والتصوراتلا يمكن أن تُولد داخل المجال النظري المُجرَد، وإنما هي وليدة الواقع السياسي، حيث تعتمد على “تسويات مؤقّتة أو ظرفيّة” بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، ويتم التوصل إليها عبر الصراع داخل المجال السياسي.

…تثير شكوكا حول تلك المجموعة الكاملة من المفاهيم المترابطة التي أصبحت متصلة بما أطلقنا عليه بأريحية الإنسانية الليبرالية مثل: الاستقلال الذاتي، السموواليقينوالسيطرة والوحدةوالشمولية والنظام والعولمة والاستمرارية والغائية، الهرمية والتجانس والتفرد والمنشأ.ليندا هتشن، شعرية مابعدالحداثة1988.

وإذا كانت وفاة الديمقراطية الاجتماعية مؤكدة، فلن تكون الديمقراطية الاستبدادية الوريث المناسب. كما أنه لا وريث لها يمكن اعتباره أخلاقيًا أو مستدامًا بحسب التطورات العالمية الحالية التي تقوم على “اللاإنسانية”.

فإساءة استخدام الديمقراطية ليست بالشيء الجديد[8]،فقد أصبح من السهل على مستبدي اليوم أن ينجحوا في ركوب موجة الديمقراطية دون تبعات على مستوى القانون الدولي الوهن،وهذا الفصل بين الديمقراطية والمعايير الدولية التي تعطيها المعنى، يساعد على إقناع الأوتوقراطيين بأن مجرد عقد إنتخابات بغض النظر عن الظروف المحيطة بها كافٍ لضمان الحصول على لقب الديمقراطيةوتسهل مهمتهم، حين يُسمح بأن تحل التلميحات البسيطة بالديمقراطية محل احترام لكل حقوق الإنسان مُجتمعة.

كما نقف اليوم أمام متغيرات البيئة الاتصالية السياسية التي تحول فيها الأفراد الى مصادر إنتاج “الاخبار”يتفاعلون مع المجريات و الاحداث، يحكمون على المعاني والقيم والحقائق ، يستنبطون في المضامين الإعلامية ، يشاركون في الحياة العامة وصناعة الرأي و يؤثرون في المجال العام “كمصانع جديدة” للتعبئة الاجتماعيةفي السياقات الديمقراطية الماكرة[9] ،والتي تمتاز بقوة التأثير والتفاعل الحيني والفوري[10] بأخلاقيات متهاوية دون أخلاق [11]، فالإعلام الاجتماعي حالة من التَّنْجيم الدائم [12]وكأنّ المسـألة لم تكن يوما قَطُ عدا الحرية [13]،أليس من واجبنا اليوم قراءة المتغيرات بعقل نقدي لكي لا تهدم الحضارة والقيم[14] ولا تسود الفوضى التي لا مجال لأخلقتها[15].

ورغم ما يبدو من إجماع كلامي على “لا نهاية التاريخ الديمقراطي”، يبدو أن التاريخ انتهى فعلا في الممارسة الدولية العالمية، وأنه لم يعد ثمة مستقبل متصور يُلمح للديمقراطية الليبرالية الغربية.لكن بدل أن تكون نهاية التاريخ سعيدة ملفوفة بالحريات الورقية وحقوق الانسان المزعومة، تبدو في الواقع دخولا على مرأى الأعين وراحة الضمائر إلى سجن مؤبد، سجن “اللابديل”.

مبدأ اللابديل[16] يبدو ساري المفعول، وإن لم يحض بقبول أكثر مما كان نصيب نهاية التاريخ من القبول. رفض أيديولوجي جامع لفكرة اللابديل ولانتهاء التاريخ، لكن مع التسليم الفعلي الجامع بالقدر نفسه بأن الديمقراطية نفسها تتآكل مع ضمور أبعادها المعيارية المتصلة بالعدالة من جهة، والتعميم العالمي من جهة أخرى.

وبالطبع فإن الإصرار على “الديمقراطية القحة” ليس هو الإختيار الوحيد لالتزام المجتمع الدولي بحقوق الإنسان فمن الأهمية بمكان رد الفعل إزاء الفظائع الجماعية والاهتمام بحقوق الإنسان للحالات المتطرفة، بل أيضاً على الحكومات التي ما زالت تستخدم الإجراءات القمعية لمنع أي تحدٍ لحُكمِها بحيث تبقى الآليات والإجراءات هامة ، لكن مع أزمة في الأحزاب والنقابات، وتراجع مستوى التعبئة السياسية، واغتراب متصاعد للأحزاب السياسية[17] يبقى من الوجيه البحث عن أسس جديدة أكثر قوة وفاعلية.

ولتفادي هذه اللعبة، ولمنع إساءة استخدام “الديمقراطية” ، فقد قاد إلى ما قد تصح تسميته “بالمنعطف الجينوقراطي”[18]، أي حكم الشعب، أو حكم الأكثريات الثقافية، الإثنية أو الدينية أو القومية أو العرقية.

فيبدو أن مضمون “الديمقراطية” هو الجينوقراطيّة، ضرب من القومية الجديدة تؤكد على الجذور الثقافيّة والعرقيّة والدّينية “المجتمع الأوروبي، النموذج الأوروبي”. ولعل ما جعل ذلك ممكنا هو أن الانتصار المزعوم للديمقراطية الليبرالية، لم يكن انتصارا لها على اللاديمقراطيّة واللّاليبراليّة، على الدّيكتاتورية أو الشموليّة أو الاستبداد، بل هــــو أساسا انتصار لفكرة الغرب على غيره، أي أن هناك عنصر جينوقراطي سلفا، برغم من أن الديمقراطيةلها جذور أقدم بكثير من أثينا واكتشفت و أنيرت أولا في الشرق في أراضي سوريا والعراق وإيران بظهور الحكم الشعبي الذّاتي لأول مرة في التاريخ إلاّ أنّها وُئدت في نفس المناطق وبُعثت من جديد بحلّة أوروبية[19].

نموذج الدّيمقراطية المفتوحةالتي تقوم على التعاون اللاّمركزي

لذلك، ورغم ما يبدو من تعارض بين أطروحة فوكوياما [20]وأطروحة صاموئيل هنتنغتون [21]، فإن ما يجمعهما من تمركز حصري حول الغرب، وضع الأولى الفلسفية والعامة، في خدمة الثانية العملية والثقافية و الأكثر أهمية هنا يطرح التساؤل ما البديل للعالم العربي المُقتاد، الذي يتميز بخصوصيات بنيوية قاعدية مختلفة.

2 ما بعد الأحزاب السياسيّة

الضغط يولّد الانفجار، ففي أحداث 2011التونسيّة، إضافة إلى انفجار الثورة، التي حملت معها ثورة حزبية حقيقية أفضت الى تأسيس عددا لاستهان به من الأحزابإذ وصل العدد الجملي للأحزاب في تونس الى 228 حزبا، وسهّل المرسوم عدد 87 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 الخاص بتنظيم الأحزاب السياسية، عملية إنشاء الحزب.

وتُعد التعدديّة الحزبية أحد شروط الديمقراطية الحالية وهي الضامن الأساسي لحرية الرأي والتعبير المزندقة، لكن الواقع جعل من التعددية الحزبية فوضى عارمة فتعددت الأحزاب وتفاقمت الانقسامات وتحولت تعددية الأحزاب من نعمة منشودة الى نقمة موجودة. وأصبح النشاط الحزبي وسيلة للوصول إلى السلطة ولتحقيق مصالح شخصية بدل إيجاد الحلول لمشاكل المواطن، وتحولت إلى صراع حول السلطة بدل أن تكون حول الشعب، والملفت في أغلبية الأحزاب السياسية هو غياب خط سياسي أو إيديولجيا واضحة.

و المتأمل في الحياة السياسية التونسية يلاحظ مؤشرات البنية “لأزمة التمثيل السياسي” ومنها تراجع ثقة التونسيين في النخب السياسية أو ما يسمّى “منظومة الحكم” من أحزاب حاكمة ومعارضات بما في ذلك المعارضة اليسارية واهتراء صورة السياسيين وتفضيل الاستراتيجيات الاتصالية والحضور في الميديا (الإذاعة والتلفزيون على وجه الخصوص) وبناء شبكات العلاقات المصلحية مع الميديا (مقابل العمل الميداني الذي كان يقوم به قيس سعيّد مثلًا) والاستثمار في الدعاية وفي الدعاية المضادة في الفيسبوك.

وقد ظهرت فكرة “أزمة التمثيل السياسي” في فرنسا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ثم تعاظم حضورها في الخطاب السياسي والفكري والصحفي كمدخل لفهم تحوّلات الديمقراطية والنظام السياسي. وتُحيل فكرة أزمة التمثيل السياسي على عدة دلالات منها:

  • قطيعة متعاظمة بين السياسيين والناخبين وعدم تطابق مشاغل المجتمع والنخب السياسية وتراجع الثقة في هذه النخب واهتراء صورتها وتراجع قيمة السياسة بشكل عام.
  • صعود مستمرّ للتنظيمات والحركات المناهضة لما يسمّى بـالسيستام“(anti système)على غرار حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف.
  • المكانة التي يحتلها الاتصال في العمل السياسي وتفضيل استراتيجيات الظهور في الميديا على حساب العمل الميداني والإنصات للمواطنين.
  • أمركة الحياة السياسية وتحويل الأحزاب إلى منصات لإدارة المستقبل السياسي لزعماء الأحزاب وإفراغها من روحها وتحويل وظائفها.
  • التنافر بين الخطاب السياسي وانتظارات المواطنين وشعورهم بأن السياسيين افتكوا أو انتزعوا النظام السياسي لصالحهم وهو ما يعبر عنه بـ “نزع الملكية الديمقراطي” (la dépossession démocratique).

قد يبدو واضحا الآن عزوف الناخبين عن المؤسسات السياسية التقليدية في مختلف أنحاء العالم، لكن هل من الممكن أن ينهض النظام الديمقراطي من دون أحزاب سياسية؟

تُعتبر المؤشر الأقوى لأزمة التمثيل السياسي في تونس في عدم الإقبال الكبير على التصويت أي المقاطعة (l’abstentionnisme). إذ يبلغ العدد الجملي للناخبين المسجلين قرابة 7 ملايين و74 ألف أما العدد الجملي للأصوات المصرح بها في الانتخابات الرئاسية بلغ 3 ملايين 372 ألف، إضافة إلى العدد الجملي للأوراق البيضاء الذي يقدر بـ 24 ألف ورقة هو مؤشر على أن عددًا لا يستهان به من التونسيين  غير راضين على كل المترشحين بما في ذلك الفائزين.إضافة إلى مئات الآلاف من التونسيين الذي يرفضون التسجيل للانتخابات، حيث لم يروا سببًا وجيهًا للمشاركة فيها رغم أنها الآلية الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية التونسية بما أنها ديمقراطية تمثيلية. 

في المقابل، لا يبدو أن الإعراض عن الاقتراع يمثل مشكلًا مطروحًا على الأجندة العامة أو في النقاش العام في حين أنه يمثل المؤشر الأخطر لتشخيص أمراض الديمقراطية التونسية وهو لا شك أكثر أهمية من التصويت العقابي أو ما يسمّى “الانقلاب على منظومة الحكم والنخب المتصلة بها[22].”

وتبعا، استمرت أهمية الأحزاب السياسية في التدهور، وأدت انتخابات 2019 إلى صعود الرئيس قيس سعيّد، الذي رفض الانضمام إلى أي حزب سياسي أو تشكيل حزب خاص به. كرجل قانون، قام بحملة بناء على سمعته “صورته التسويقية Image de Marque”،وشهدت الانتخابات علىالمزيد من خسارة النفوذ الحزبي، حيث تم تقاسم المقاعد بين واحد وعشرين حزبًا، لم يكن لمعظمها نفوذ قط.

“الديمقراطيةالبرلمانية، كما نعتقد، هي غير عادلة، تؤدي إلىالبيروقراطيةوالجمود، وتقوض الحرية والاستقلال والمشاريع، وتؤدي بالضرورةإلى الخصومة والتدخل وفي الخمول والصرف الزائد. والأمر ليس كذلك لأن سياسيين معينينقد فشلوا فيتأدية وظائفهم- أو لأن الحزبالخطأفي السلطة- بل لأن النظام يعمل هكذا”

كتاب ماوراء الديمقراطية لفرانك كارستن وكارل بيكمان

لكن طغاة كثيرين يتلهفون على إضفاء الشرعية على أنفسهم بثمن زهيد. إذا أمكنهم عقد انتخابات متوجة بالإخلالات والإفلاتفسوف يفعلونوكأن أزمة الأحزاب تتحول إلى أزمة للديمقراطية. تتمثل الخطوة الأولى العاجلة نحو استعادة بعض الثقة في الديمقراطية عن طريق فرض تخفيض كبير في عدد الأحزاب السياسية، من خلال وضع حد للتمثيل، كما هو الحال في معظم الديمقراطيات البرلمانية أو استبدالها بهيكل بنيوي آخر يقوم مقامها لكن ليس بنفس الطقوس والمبادئ الجافة. 

فبالإضافة إلى الأحزاب السياسية، فالديمقراطية الحيوية النشيطة تتطلب باقة واسعة من الجمعيات والمنظمات الكفيلة بتحريك الناس تجاه دعم تفضيلاتهم السياسية ولكي تُسمع أصواتهم. ولهذا السببتمثل منظمات المجتمع المدني هدفاً مألوفاً لكن بحلة جديدة داعمة للديمقراطية عوضا للأحزاب والسياسيين الصُفر.

ومن الجدير بالذكر أن حملة “قيس سعيد” للمزيد من المراقبة لتمويل الجمعيات قد تمثل البذرة الأولى نحو قطف ثمار الديمقراطية بجوهرها الجديد وفي صورة هيكلية غير الأحزاب السياسية التقليدية.

3 ما بعد تنظيم الإخوان

حركة النهضة هي الحركة التاريخية “الإسلامية “في تونس، وتأسست عام 1972 وأعلنت رسميا عن نفسها في 6 جوان 1981.. لم يُعترف بالحركة كحزب سياسي في تونس إلا في 2011 بعد مغادرة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي البلاد، إثر اندلاع احداث التونسية في ديسمبر 2011.

لا مجال للشك أن عددا من الأحزاب يشكل تهديدًا للديمقراطية التونسية؛ حيث أن معظم الأحزاب صغيرة جدًا، وهامشية، ومجزأة لدرجة أنها أبعد من أن تمثل مصالح ناخبيها تمثيلًا فعليا. وكذا الشأن بالنسبةلحركة النهضة، التي كانت ذات يوم حزبًا يعتمد على توجه ديني متطرف، ويتمتع بأيديولوجية واضحة، باتت تواجه أزمة زعامةوهو أول مؤشر على بداية ضعفها، و هي معرضّة للتمزق بين حملة رئيسها لإعادة بناء الحركة كـ”حزب إسلامي” وجذوره الإخوانية الواضحة، فقد كانت فكرة نهوض الإسلام السياسي فكرة لإعادة أنظمة المساعدة لخلق “إسلاموفوبيا”بدرجةقويّةواستثنائية،فقد تعلم الطغاة الأدعياء استخدام منطق “أنا أو هم” لتبرير استمرار الحكم، لكن هذا التقسيم هو في الغالب تقسيم مغلوط.

وعليه،كان حزب النهضة سنة 2011 الحزب الأكثر شعبية وكان متوقّعا أنه سيفوز بأغلبية مريحة فتم استباق ذلك بترتيب قانون انتخابي مؤقت سنّته اللجنة غير المنتخبة بل المعينة. وإلى ذلك وانطلاقا من فكرة سائدة أن الإسلاميين لا يقدمون المرأة للحكم تمّ وضع شرط المناصفة على أمل أن يقع الحزب في مشاكل ترشيح غير أن هذا الأخير راهن بكل مبادئه المتأصلة وثوابته لإعلاء شمسه بعد أفوله الطويل، فتغيرت جلابيب الإخوان إلى الحداثة وهو ما يظهر جليا في تحول صورتهم التسويقية خاصة لرئيس الحزب.

وتم الكشف عن حجم ثروة رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشى، حيث تصدر قائمة أثرياء تونس بثروة لا تقل عن 2700 مليار دينار بما يعادل (مليار دولار) فى شكل ودائع بنكية موجودة أساسا في سويسرا، وحصص في شركات موجودة خارج تونس، من بينها 3 شركات في فرنسا، وهو ما نشرته صحيفة “الأنوار” التونسية في تحقيق تحت عنوان “الأنوار تفتح ملف ثروة الغنوشى”.

ووضح التقرير أن الوساطة في تهريب الأسلحة إلى ليبيا تمثل هي الأخرى رافدا من روافد ثروة الغنوشى، الذي سهل مرور أكثر من 20 شحنة أسلحة إلى ليبيا مقابل عمولات بلغت 30 مليون دولار….

وقد عرفت الحياة السياسيّة والمجال العمومي صراعات كثيرة ومتعدّدة حول مسائل سياسية وفكرية وثقافية لها علاقة بالهويّة بين التيّار الإسلاميمن جهة أولى والتيّارات التي تسمّي نفسها بالتيارات “الحداثية” أو “الديمقراطية” وأحيانًا أخرى بين التيارات “الثورية” أو “قوى الثورة” وبين قوى “النظام القديم” فكثر العنف تحت قبّة البرلمان وانتشرت مشاهد عنيفة وكلمات مفزعة للديمقراطية في أسوء صورها.

وهو ما نتبين نتائجه اليوم من تدهور في مستوى “النخب السياسة”، فلم يعد التونسيون يعتقدون أن الأحزاب يمكن أن توفر حلولًا لمشكلات الدولة التونسية، لذلك لجؤوا مرة أخرى إلى الشوارع طلبًا للانتصاف من مظالمهم. حيث أن الخيال السياسي المشدود إلى الإطار الوطني لا يؤهل لظهور نخب سياسية أرفع وقيادات سياسية أكبر. بعكس ذلك، يبدو هذا الإطار الوطني هو الحاضنة الأبرز لنخب جينوقراطية ذات الانقسامات والتفرقة وسيطرة البعض على الكل ، دون الأخذ بواقعها كمجتمعات ما بعد هجرية[23].

الديمقراطيات الناشئة:

إن العيش في نظام ديمقراطي حديث العهد بعد فترةٍ طويلة من حكم فردي “حكم بن علي” لا يعني أن مشاكل ذلك المجتمع سوف تحل تلقائيًا وبشكل سحري سريع عقب نهاية الحرب ضد الفردنة أو عقب اندلاع ثورة، بل قد تتحول الأمور إلى صراعات طبقية ودينية بين مكونات المجتمع الواحد ” الأطياف السياسية” وذلك إما تلقائيًا أو تبع مصالح أطراف تستغل فرصة الفراغ السياسي للتدخل حسب مصالحها، غالبًا، ستمر تلك المجتمعات بفترة اضطرابٍ بسبب سوء الإدارة السياسية وهو ما برز بصفة واضحة و مباشرة في تعاقب الحكومات التونسية، وأزمات اقتصادية متعاقبة، مما يؤدي تدريجيًا إلى خيبة أمل واسعة من الديمقراطية المرتجاة، والواقع أن الديمقراطية تحتاج وقتًا كافيا لإقرار و تنفيذ استراتيجيات عملية ناجعة ، إنها عملية إرساء معقدة لديمقراطية “حقيقية” على المدى البعيد.

ديمقراطية هشة:

منذ بدايات 2011 إلى اليوم، استجمعت الديمقراطية التونسية الفتية شروطها الدنيا لانطلاقةٍ – متعثرة لكن واضحة الهدف – نحو تحقيق “الديمقراطية الناضجة[24]“، إذ تعد تونس البلد العربي الوحيد الذي نجح نسبيًا في عملية الانتقال الديمقراطي.

تمت الانتخابات الرئاسية سنة 2014 تحت شعار إنهاء المرحلة الانتقالية “التأسيسية” ودخول المرحلة السياسية الدائمة، مرحلة الاستقرار الديمقراطي، فيما أشاد العالم بالتجربة التونسية، انتقل التونسيون من حالة “احتفال شعبي” وترحاب مجتمعي بالأحزاب باعتبارها من أدوات الديمقراطية التي يطمحون إليها، إلى شيطنة كلية للأحزاب والعمل السياسي، ودخول المجتمع التونسي في حالة من الإحباط الجماعي ومقاطعة الشأن السياسي واليأس من الديمقراطية المنشودة الكاذبة ولاحت في الأفق الفجوة العظمى بين الديمقراطية النظرية والديمقراطية العملية.

لكن بحلول عام 2020، أصبحت المهمةمستحيلة، في وقت كانت فيه “النهضة” تواجه أيضًا تحديات متزايدة من خارج صفوفها.وقد سبق أن خرجت حركة النهضة من انتخابات عام 2019 ضعيفة، على الرغم من أنها احتفظت بأكثرية المقاعد. ولم يتمكن مرشحها لمنصب رئيس الوزراء من تشكيل حكومة كما ووجهت بتزوير الانتخابات والإخلال بقواعد القانونية للحملات الانتخابية كأكثر الطرق انتشاراً لديمقراطية المزعومةلعدم اليقين بنزاهتها والتقلب الهستيري للعبة السياسية.

” إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم، وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجؤون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات …ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على حياة الديمقراطية”.

شكلّت انتفاضة عام 2011 بداية للمنافسة التعدديّة الحزبية في تونس؛ إذا كان في البلاد نظام متعدد الأحزاب بحكم القانون منذ عام 1987، ولكن التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب الحكومة، هيمن على كل الانتخابات.

وراء هذا الكم الكبير من الأحزاب السياسية التي تشكلت بإرادة العودة إلى ساحة الديمقراطية والسيطرة على مجريات الأمور السياسية والاقتصادية في تونس، فالنظام التونسي، يريد إعادة تدوير نفسه وأن يظهر بوجه ديمقراطي للعالم وأن يصبح النموذج الأصلي المبتكر. وكان من المفترض قبل تحديد موعد الانتخابات تطهير الأجهزة الأمنية والقضائية وتنظيم مرحلة انتقالية حقيقية. لكن للأسف طريقة سير عجلة النظام لم تتغير لدخول النهضة وتبعاتها وتقوية أصولها وجذورها في معظم أركانالدولة واعتمدت في ذلك طبعا على حرية إنشاء أحزاب سياسية، لكن ليس على أرضية ديمقراطية حقيقية. وكأن الدكتاتورية التي كانت متأصلةبالنظام السابق تسعى إلى العودة إلى الواجهة عن طريق التعددية الحزبية والانتخابات الهشة.

4النموذج التونسي معيار جديد “للديمقراطية المفتوحة”

عرفت تونس منذ سقوطنظام بن علي ولادة أحزاب سياسية وجمعيات غير حكومية عديدة، وإذا كان هذا يعكس الجو الديمقراطي الذي أصبح يسود الدولة التونسية بعد القمع السياسي الذي عانى منه أكثر من 20 سنة، وتكاثر الأحزاب الهستيري قبيل ذلك شكل هو أيضا عائقا امام المسار الصحيح للانتقال التونسي نحو بر الأمان.

ينبغي فهم دور الأحزاب في إطار النظام الرسمي الذي أسسه الدستور فالنظام في تونس “مختلط” يتجه نحوإعلاء المؤسسة البرلمانية كسلطة تشريعية في شخص رئيسها مجلس نواب الشعب، أما عن السلطة التنفيذية فهي ذات رئيسين بتعلة الخوف من التفرد بالحكم فجمعت بين برئيس حكومة يُمنح الثقةمن قبل البرلمان، وبين رئيس جمهورية منتخب عن طريق الاقتراع العام، مع سلطة كبيرة على السياسة الخارجية والعسكرية. ولقد سعى الرؤساء الثلاث منذ عام 2014 إلى زيادة قوتهم، ولم يحالفهم النجاح إلا في خلق التوترات التي أفضت الى أحداث 25 جويلية 2021. 

وذلك بعد تجمع المتظاهرين في شارع بورقيبة، حيث تجمعت الحشود لإظهار عدم رضاهم عن الوضع الرّاهن، وقبل كل شيء، للتعبير عن خيبة أملهم من الأطياف السياسية والعملية الديمقراطية والأحزاب السياسية التي حولت السياسة إلى صدام فوضوي للطموحات والشخصيات من دون معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الضخمة في تونس. 

فجوهر العملية الديمقراطية التقليدية في البلدان التي أرست تجارب ثابتة هو تحميل الراغب في القيادة والحكم مسؤوليته أمام الشعب حيث يصير النجاح مكسبا للشعب ويصير البقاء في الحكم جائزة للسياسي وهذا ما لم نلمحه في الديمقراطية التونسية التي التنصب مسؤولا يتحمل بصفة مباشرة واصلية مسؤولية ما يحدث في اطر المنظومة السياسية.

بهذا المعني تجدد الشعوب لحكامها أو تقصيها على “قاعدة المسؤولية”، وينظم هذا عبر قوانين يجري على أساسها الانتخاب فيخرج من الصناديق حزب أو أحزاب مسؤولة تؤلف حكومات وتمضي، في عملها تحت الرقابة الشعبية عبر البرلمان ومؤسسات المجتمع المدني، لكن شتان بين ثراء القواعد وافتقار التطبيق.

الانتخابات الفعالة تتطلب صحافة حرة؛ وهذا للتركيز على الموضوعات التي تحتاج لانتباه الحكومة وللسماح بالانتقاد العلني لرؤى المرشحين السياسية. كما أن الإعلام جوهري وضروري لتوضيح وإبراز الاهتمامات العامة بين الانتخابات… وهو من المدخلات الهامة بما أن مجرد تصويت واحد كل بضعة سنوات هي طريقة غير كافية للكشف عن الاهتمامات العامة. ولهذا فمن غير المدهش أن الحكومات التي تحاول التحكم في العملية الديمقراطية تقوم بإسكات الصحافة.

يصف أفلاطون على لسان سقراط في حواره مع أديمانتوس، الديمقراطية بسفينة الحمقى، يقول الفيلسوف الإغريقي إن الديمقراطية نظام يتجاهل الفروق العلمية لأفراد المجتمع ويتجاهل قيمتهم بفرض نوع من المساواة غير المشروطة بينهم، أي أن مصير السفينة لن تحدده النخبة العالمة، بل الأغلبية الجاهلة، أي الحمقى الذين لا دراية لهم بكيفية قيادة السفينة.

في تونس بلد القانون والتشريعات السباقة في العالم العربي والداعمة لحقوق الانسان، نلاحظقصور القانون الانتخابي الذي يشتغل كعائق لتقدم التجربة الديمقراطية إذ يعمل النظام الانتخابي على منع استفراد أي حزب بأغلبية حكم ويؤدي دوما عبر قانون أكبر إلى بقايا برلمان مفتت غير جامع بين مكوناته سوى التعطيل المتبادل. ولذلك ورغم أنالتغيرات في المشهد السياسي قد أدّت إلى تغيير منظومة الحكم والمعارضة إلا أن ذلك ليس بفعل القانون الانتخابي بل بانكشاف العجز الطبيعي في منظومة الحكم والتي انهارت من داخلها.

وضعت لجنة بن عاشور سنة 2011 نواة القانون الحالي ولم يتم تعديل النقطتين الإشكاليتين في القانون المذكور الصادر سنة 2014. (قانون عدد 16 لسنة 2014) فتم ترسيخهما وهما:

  • نقطة التصويت النسبي: الفصل 107 منه الذي ينصّ على أنهيجرى التصويت على القائمات في دورة واحدة، ويتمّ توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا”. 
  • ونقطة: المناصفة بين الذكور والإناث في القائمات.

فقد مرت البلاد التونسية بمرحلة الاضطراب ونعتبرها ثمنا لوعي بفشل القانون الانتخابي في تنظيم الحكم وقد كان يمكن تلافيها بشجاعة التغيير القوي لقانون الانتخابات واختيار نظام سياسي يتماشى مع خصوصية المجتمع التونسي الذي يفترض وجود وزعيم شعبي فالمجتمع التونسي هو “مجتمع أبوي” بامتياز حسب دراسات في علم الاجتماع[25] ، يتطلب الأمر شجاعة سياسية كبيرة لنقد القانون ونتائجه. لقد كانت المطالبات بتعديل الدستور تتركز على استعادة النظام الرئاسي (بتوسيع صلاحيات الرئيس) عوض النظام الحالي الذي يقسم السلطة التنفيذية بين رئيسين.

ولم يتم تعديله بعد تنقيح 2014 رغم معرفة نقائصه وضعف بعض الفصوله فبقيت الأمور على حالها وأجريت انتخابات 2019 بنفس القانون بما يمنع أي حزب من أغلبية حكم تجعله يتحمل مسؤولية الحكم أمام الشعب وكان ذلك بناء على توافقمن الأحزاب بما فيها النهضة التي تحرص على بقاء النص القانوني كما هو هروبا من مواجهة شجاعة للوضع الاقتصادي المتردي. حيث يصير البرلمان المشتت ذريعة وعذرا للعجز عن الحسم على استراتيجية بعينها.

وعليه، لا نرى العائق مبدئيا في الدستور بل في القانون الانتخابي وما لم يتجه العمل على تغييره الجذري فإن مرحلة الاضطراب ستطول أكثر من هذا وستفضي إلى وضع شبيه بالحالة الايطالية حيث تسقط الحكومات كل يوم وهو ما تلمسناه في تعاقب 9 حكومات على التوالي في 12 سنة.

لماذا تم اختيار تونس كبلد نموذج لبعث البديل الجديد؟

الأسباب المباشرةالأسباب غير المباشرة
منذ عهد “بورقيبة” تبنت الدولة التونسية نموذج الدولة الوطنية الحديثة بنظامها الإداري والسياسي الغربي.موقع استراتيجي يربط بين القارة الافريقية والقارة الأوروبية.مجتمع حداثي متأقلميجمع بين الهوية العربية الاسلامية والثقافة الأوروبية المتحررة.أحداث 14 جانفي 2011 ، حيث كانت أول دولة عربية تندلع فيها شرارة الإطاحة بنظام دام لأكثر من 20 سنة.أحداث 25 جويلية  2021 المتمثلة في تجميد البرلمان من قبل الرئيس “قيس سعيد”.ديمقراطية تمثيلية تعددية حزبية 214 حزب.لقد كانت تونس أكثر نجاحًا من أي بلد عربي آخر منذ عام 2011 في إنشاء المؤسسات والعمليات الديمقراطية ظاهرية. اتخاذ رؤساء حكومة مستقلين كهشام المشيشيالذي لا ينتمي إلى أي حزب، تشكيل الحكومة 2021 واضطر إلى تعديل وزاري للاحتفاظ بثقة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، بسبب تفشي وباء (كوفيد -19).الاحتجاج كوسيلة روتينية للمواطنين للتعبير عن مظالمهم والمطالبة بالإنصاف يدلّ على فشل الديمقراطية البرلمانية، هذه المؤسسات فشلت في معالجة مشكلات وشكاوى المواطنين، و إخفاق الأحزاب السياسية في توفير القناة بين المواطنين والحكومة هو محور هذا الفشل.تعاقب رؤساء الحكومات غير متحزبين رئيس الجمهورية موصوف بنظافة اليد رجل قانون غير متحزب.الأخذ بالحكومة القاعدية اللامركزية كفكرة بصدد التطبيق الفعلي.الاعتماد على المجتمع المدني ككيان جديد لديمقراطية مفتوحة.رسم خارطة جديدة لنظام سياسي مبتكر معلن .عدم وجود انقسامات مذهبية عميقة وحادة فالأغلبية مسلمة مع بعض الأقليات التي لا تواجه مشاكل عقائدية. أول إمرأة عربية رئيسة حكومة “نجلاء بودن”أول امرأة رئيسة حزب سياسي “عبير موسي”دولة رائدة في الحقوق والحريات: منع تعدد الزوجات،تقنين مؤسسة التبني ،إقرار المساواة في الميراث ،نسبة تمدرس عالية في صفوف للنساء ومنافستهم الرجال في كل المجالات …ليس بمجتمع عدواني مسلح فلا يعتمد على الأسلحة البيضاء وحمل الأسلحة النارية يخضع لقوانين في حالات استثنائية، فالأمن العام يستأثر به الهيكل الأمني.استنباط نموذج سياسي تونسي معتبر يدرس في جامعات العلوم السياسية كفكر جديد ذات معيير مغايرة.الاعتماد على قاعدة المناصفة في تشكيل الحكومات والسلط.شعب متعلم مثقف رائد أمام دول العالم.ليس هنالك انفصال بين القوميات.اختيار الكفاءات التونسية في الجامعات الاوروبية و مراكز مهمة “كاختيار فاطمة ميلي عميدا لجامعة في الولايات المتحدة الامريكية”.تعتبر تونس دولة القانون والمؤسسات.اعتمدت على استراتيجية “تطهير القضاء”.تعتبر من الدول الأولى عربيا في تشريك الشعب في الشأن السياسي وقدمت المبادرة الأولى في “الاستشارة الوطنية” التي بعثت من رئاسة الجمهورية.الثورة التشريعية التي ساعدتها على احتضان عديد الظواهر الاجتماعية وتقنينها.تونس النموذج الافريقي في رقمنة الاقتصاد.

إن ثقفنة الديمقراطيةوتعميمها تجردها من قواها وروحها القتالية، بتسهيل مطابقتها مع الكل ، أو مع هذا البلد أو ذاك، دون حضور فاعل للديموس (الشعب)[26] أو لصراع من أجل حقوق أكبر ومساواة أكبر، ما كان يمكن أن ينقذ الديمقراطية هو تقوية بعدها المعياري، ما يتصل بمزيد من العدالة الاجتماعية ومن الحرية، وهو تعميمها العالمي، وهو كذلك الدفاع عن حريات أكبر وحقوق أكثر ومزيد من العدالة للمحرومين منها في كل مكان دون اعتبار لمناخ الدولة التي قد يستأثر فيها الفساد داخل دواليبها فيضطر لاعتداد بقاعدة الجزر والردع لاستئصال الورم قبل نشر المنظومة الديمقراطية والاشادة بمجسم الحريات منطقيا.

فالعالم يقف شاهقا من هول مناخ الأزمة العالمية للديمقراطية، واحتدامها واتصالها بمشكلات عالمية في تكوينها مثل التدهور البيئي والأوبئة، وكذلك المنعطف الجينوقراطي والمسألة الإسلامية، فضلا عما يبدو من أزمة اقتصادية اجتماعية مستمرة، والاحتمالاتالمرعبة لتطور كل من تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا البيولوجية.

وقد بين يوفال نوح هراري “من غير المحتمل أن تجد الأزمة العالمية حلولا لها في غير نطاق عالمي إنساني”.

لكن هذه الظاهرة ليست حكرا على البلاد التونسية ففي العديد من الدول الأوروبية و العربية وقع الاختيار على مرشحين للرئاسة لعدم انتمائهم للأحزاب السياسية وفوزهم الساحق بنسب عالية توضح نفور الشعوب من الأحزاب السياسية و هم على سبل المثال “قيس سعيد” رئيس الدولة التونسية، “عبد فتاح السيسي” رئيس الدولة المصرية ،”عبد المجيد تبون” رئيس الدولة الجزائرية و كذلك “ترامب” رئيس الولايات المتحدة الامريكية الذي ترشح عن الحزب الجمهوري برغم من انه لم يكن بود سابق مع قائد الحزب ولجنة الحزب القومية والرؤساء الجمهوريين السابقين ،فجعله مجرد وسيلة للوصول لسلطة…

وهذه الأخيرة رغم كونها من أكثر الدول المنادية بالديمقراطية الظاهرية فإنها لم تكن تعتمد بصفة كلية وحتمية على الانتخابات التي قد تمثل للبعض الركيزة الاساسية للديمقراطية الكلاسيكسية،ففي عام 1796، وجه الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الانتقادات للأحزاب السياسية كونها أتاحت الفرصة لرجال “مخادعين وطموحين وبلا مبادئ لتقويض سلطة الشعب”.

والدليل على ذلك أن نسبة متزايدة من الناخبين الأمريكيين[27] ذكروا أنهم لا ينتمون لأي من الحزبين. وهذه النسبة الآن أكبر من نسبة الناخبين الذين يعتبرون أنفسهم إما جمهوريين أو ديمقراطيين

وفي أوروبا على سبيل المثال، اتُهمت أحزاب اليسار المعتدل التي تمتلك قاعدة شعبية قوية في المعتاد، بأنها تتجاهل ناخبيها، وربما أسهمت في إشعال الغضب الشعبي الواسع الذي أدى إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

وأثارت هذه الكراهية الشعبية المتزايدة نحو الأحزاب السياسية جدلا واسعا بين خبراء العلوم السياسية. ويرى المدافعون عن النظام السياسي التقليدي أن الديمقراطية تعتمد على فصائل سياسية قوية ومنظمة وجديرة بالثقة.

.

فقد صرحت الباحثة في العلوم السياسية بجامعة هارفارد”نانسي روزينبلوم: “كثيرا ما يحاول الناس في عالم السياسة الالتفاف على الأحزاب السياسية ومخاطبة الشعب مباشرة. لكن في الواقع، من دون أحزاب سياسية، ستشيع الفوضى”.

وفي المقابل، يرى زمرة من الباحثين، أكثرهم في ريعان الشباب، أن الوقت قد حان لرسم ملامح نظام ديمقراطي مباشر وأكثر انفتاحا، يتراجع فيه دور الأحزاب السياسية ورجال السياسة. وتقول هيلين لانديمور، الباحثة في العلوم السياسية بجامعة ييل، إن هذه المقترحات كانت تثير الدهشة حتى عقد مضى، لكن أحداث مثل الأزمة الاقتصادية في عام 2008 وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2016، قد وسعت نطاق هذا الجدل.

يرى “شابيرو “وغيره من الخبراء أن الأحزاب السياسية فقدت نفوذها وتأثيرها في السنوات الأخيرة، وهذا يؤثر على النظام الديمقراطي برمته “إن أحزابا سياسية كثيرة حول العالم فقدت مصداقيتها وتأثيرها.”

كما أنلانديمور تقول إن الرأي العام الآن في مفترق طرق فمنذ خمس سنوات فقط،تنبّأ زملائي في أحد المؤتمرات بفكرة الديمقراطية المفتوحة، التي يدخل في صميمها المواطنون وليس النخبة، وتضيف: “لكن الآن بعد خمس سنوات أعتقد أن الفكرة ستلقى تأييدا شعبيا واسعا“.

وتبعا لذلك، فإن النظام الديمقراطي لم يعد يؤتي أُكلا لقربه حدّالانصهار مع النظام الديكتاتوري والتهاونبآمال الشعوب وتصوراتهم لقيم العدالة والخير، فيبدو حقاأن للديمقراطية نهاية لكن ليست بنهاية التاريخ، فيتصور أن العالم اليوم يقف أمام تدشين “البديل” دون اقتراع بمجرد أوراق مزيفة في صناديق مبهرجة أو أحزاب سياسية ورقية تعلي بأسبقية الحزب على الدولة وأفضلية أعضائهم على الشعب.

فقد جزم الفيلسوف المادي الجدلي كارل ماركس في أن التاريخ الحقيقي للبشرلم يبدأ بعد حتى يقال إنه انتهى، ويقول الفيلسوف المعاصر “فرانسيس فوكوياما” في مقاله الشهير “نهاية التاريخ” إن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة أو مرور فترة معينة لمرحلة ما بعد الحرب، وإنما نهاية للتاريخ، بوضع حد للأفكار الأيدلوجية في التاريخ الإنساني وانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية، أمثل نظامٍ للحكم وأرقى ما توصل إليه العقل البشري، فأين يكمن الصحيح الوجيه؟

فنهاية التاريخ الديمقراطي الليبرالي قد ولدت من داخلهبالذات الجينوقراطيات الشعبية حكم الشعب للشعب” وهو التوجه المتبنى من قبل الرئيس التونسيقيس سعيد “، والذي لا يبدو حدثا عارضا، ويمكن أن يكون إنقاذا للديمقراطية بمبادئها الاصلية، وهو تحدلظهور مجتمع عالمي والعمل على إعادة بناء النظام الدولي حول ذلك، أي التحول إلى ما بعد الدولة الأمة والسيادة، وترجيح “الدولة الفاضلة” بمبادئها الإنسانية الأخلاقية.

وعليه فإن تتطور الديمقراطية لا يتّبع مسارا أحاديا مستقيما بل هي أنساق متضافرة ووتيرات متعددة إلا أن انتكاساتها التي قد تواجهها قد تصل إلى تدميرها في بعض الأحيان.

خلاصة القول أنالديمقراطية التي لا مجال لاستبدلها بغير نظام أو توجه كأنها الأصل والمبدأ، أصبحت اليوم من المعضلاتالكبرىبتشكيلها خطرا محدقا لكيان الدول وسلاحا شرسا بيد الحكومات وأملا كاذبا للشعوب. فالديمقراطية من المجسمات الإنسانية الباهتة، لم يعد من إشعاعها سوىقهقرةمبادئاللجوء الـ”ديمقراطي” بدلاً من المبادئ الديمقراطية أحد مظاهر الفشل المألوفة هي دعم شخص “ديمقراطي” مزعوم بدلاً من مبادئ حقوق الإنسان التي تضفي على الديمقراطية معناها الحق.

والنظم الديمقراطية القائمة يبدو أنها تبحث بوتيرة متزايدة عن الأشخاص – وليس المؤسسات – أملاً في أن يُعادل الشعب بين صعود زعيم يلجأ للتحدث عن الديمقراطية بدلاً من الديمقراطية نفسها، حتى إذا كان الدرس الأول للديمقراطية هو أن السلطات غير المقيدة برقابة محصنة ضد الاختراق قد تخلق طاغية.

المراجع:

31/08/2019القانون الانتخابي التونسي يعيق الديمقراطية نور الدين العلوي

https://www.bbc.com/arabic/vert-fut-57434065
https://www.ultrasawt.com
https://legislation-securite.tn/ar/law/104538
https://www.ultrasawt.com
https://ar.businessnews.com.tn

الطغاة يتنكرون في ثوب الديمقراطية بقلم آينيث   روثhttps://www.hrw.org/legacy/wr2k8/introduction/introduction_ar.pdf

مارينا أوتاواي، Marina Ottaway:Tunisia: Political Parties and Democracy in Crisishttps://bit.ly/2TGWXTe

الكتاب: ما بعد الديمقراطية،ايمانويل تود ،غاليمار باريس 2008


[1] ليست حكم الأقلية حيث تحكم شريحة صغيرة من المجتمع. وليتم فهمها بشكل صحيح يجب ألا تكون الديمقراطية “حكم الأغلبية” والديمقراطية على الأقل من الناحية النظرية تعني الحكومة بالنيابة عن جميع الناس وفقاً “لإرادتهم”.

[2] While democracies share common features, there is no single model of democracy.UN Resolution on promoting and consolidating democracy (A/RES/62/7)

[3]تبقى هناك حقائق مهمة، فـ123 دولة من أصل 192 دولة في العالم لديها نظم ديمقراطية انتخابية،كما ان عشرين من أصل اكبر خمسة وعشرين اقتصادا في العالم تتواجد في دول ديمقراطية، وتشكل 65 بالمائة من مجمل الانتاج العالمي. 

[4] حسب التقرير النهائي لاعمال الورشة المتعلقة بتقييم الإطار القانوني للحملاتالانتخابية في تونس.لعل العملية الانتخابية هي خبر دليل على الفوهة الكبرى بين المنشود من الديمقراطية والموجود، وحتى اباطير الديمقراطية لهم في شان الجرائم الانتخابية نسب كبيرة ،والأهم انها جرائم تبقي خارج دائرة الجزاء والعقاب.

[5]جون جاك روسو ،هوبز ،هبغل ،كارل سميث…

[6]أوّل مؤلّف أخضع “الديمقراطية” لنقد عميق هوكتاب تحت عنوان “أزمة الدّيمقراطية” وهو في الأصل تقرير أكاديمي اشتغل عليه ثلاثة أمريكيّين كان من بينهم “صامويل هانتنغتون” الّذي اشتُهربنظريته حول “صدام الحضارات”.

[7] كارل بيكمان و فرانك كارستن “ما وراء الديمقراطية “.

[8] نظرية الديمقراطية البدائية. Theory of Primitive Democracy

[9]نظرية النقدية “الصناعة المزورة للواقع”.

[10]نظرية الرصاصة السحرية : “الوسيط الميدياتيكي”.

[11]هنالك فرق كبير بين الأخلاق (Morals) والأخلاقيات (Ethics).فالأخلاق هي مجموعة القيم والمبادئ التي تحرك الشعوب مثل العدل والمساواة والحرية؛ وتصبح مرجعية ثقافية لها وسنداً قانونياً. أما الأخلاقيات فهي مجموعة القيم والآداب، المتعارف عليها شفاهة أو كتابةً بين أصحاب مهنة معينة.

[12]عبد الله الزين الحيدري: الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام، الفصل الثالث من المؤلف الجماعي سلطة الاعلام الاجتماعي ،ص 89.

[13]الحرية هي الحق في أن تعمل ما يبيحه القانون”مونتسكيو

[14]المفكر محمد عابد الجابري، في مشروعه نقد العقل العربي نقد في جزءيهنقد العقل المعرفي ونقد العقل السياسي نقداً وافياً؛ ولما شرع في جزئه الثالث نقد العقل الأخلاقي لم يجد مادة أخلاقية كافية يستطيع نقدها، حيث لم يجد منظومة أخلاق عند العرب ولم يجد سوى أخلاقيات.

[15]نظرية الفوضى chaoslhery

[16]كانت قد صاغته مارغريت ثاتشر في ثمانينيات القرن العشرين .

[17]كان كولن كراوتش، وهو أكاديمي بريطاني، قد تكلم منذ عام 2004 على ما بعد الديمقراطية في مجتمعات الغرب.

[18]بين هجمات 11 سبتمبر الإرهابية والأزمة الاقتصادية في عام 2008، و لكليهما مفعول من الخوف وفقدان الأمان لدى قطاعات متسعة من الجمهور الأمريكي والأوروبي.

[19]جون كين استاذ العلوم السياسية بجامعة سيدني الامريكية صاحب كتاب 1000 ص “حياة الديمقراطية و موتها”.

[20]الخاصة بنهاية التاريخ

[21]الخاصة بصراع الحضارات.

[22]https://ar.lemaghreb.tn صادق الحمامي:تأملات في الديمقراطية التونسية وفي مستقبلها بقلم: الصادق الحمامي أستاذ التعليم العالي بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار (الجزء الأول) ،16/09/2021.

[23]أستعيرالمفهوممنورقةلمارياروكاليزارازو:
Postmigrant renegotiations of Identity andBelonging in Contemporary Germany

[24]حمادي الرديسي :كتابه “اختراع الحداثة في الإسلام”. L’invention des modernités en islam, de Hamadi Redissi

[25] النظام الأبوي كقاعدة سياسية تخلق الأسرة الأبوية، من ناحية أخرى، مبدأ الشرعية للحكم السياسي من خلال تضمين الطريقة الخاصة لـ “الأب والابن”. ما يسمى فلسفة “دولة الأسرة” هو نموذجي (ويطلق على M. Weber “Patrimonialismus”

[26]انظر الرسم التوضيحي

[27]تعادل 38 في المئة في عام 2018

By Zouhour Mechergui

Journaliste