اعداد : صبرين العجرودي باحثة بقسم الدراسات السياسية والعلاقات الدولية
مراجعة: الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية
لا يمكن المرور من وضع الى وضع دون القيام بإصلاحات جذرية، ينطبق ذلك على الوضع الرّاهن الذي تعشيه تونس منذ 25 جويلية، إذ يسعى رئيس الجمهورية قيس سعيد الى توفير الارضية المناسبة حتى تتم إعادة بناء نظام سياسي جديد دون شوائب، ويجدر الانطلاق في القيام بذلك من مؤسسات الدولة التي ستلعب دورا بارزا في الفترات المقبلة في عملية الاصلاح وارساء برامج وأنظمة تنموية ذو نجاعة كبرى، وإلاّ ستتمكّن العناصر الفاسدة من الالتفاف على عملية الاصلاح وعرقلة أي محاولة للاصلاح،فالسعي للقيام بأي تغيير في الانظمة داخل المجتمع التونسي لن يكون بتلك السهولة المتوقعة، لأنّ أي نظام سواءَ كان اجتماعيا، اقتصادي او سياسي له مؤسساته الخاصّة به، والمرحلة القادمة في تكريس اللامركزية الديمقراطية تتطلّب عمليّة إصلاح شاملة لكافة العناصر التي يمكن لها أن تلعب دورا رئيسيا داخل النّظام السياسي.
يسعي الرئيس لإصلاح المجتمع المدني لما يكتسبه من أهمية في عملية التغيير في الفترة القادمة وذلك من خلال العمل على مراجعة فصل التمويل لكل من الجمعيات والمنظمات.
فيما تتمثّل أهمية المجتمع المدني في نموذج الديمقراطية التشاركية؟
ولماذا يجدر مراجعة المرسوم 88 فيما يتعلّق بالتمويل الخارجي للجمعيات التونسية ؟
لا يخلو أي نظام سواء أكان ديمقراطي أن لا من نقائص وسلبيات، كما لا يمكن التغاضي عن دور خصائص المجتمعات ومكوّناتها في إنجاح أي نموذج ديمقراطي، سواءَ كان مباشر أو تمثيلي أو تشاركي، لكن إذا ما تمّ التدقيق في آليات ومكوّنات كل من هذه الانظمة الديمقراطية، فإنّ النموذج التشاركي يُعد الامثل حاليا بالنسبة للبلاد التونسية في تحقيق التنمية المحلية والدّاخلية والتّخلص من احتكار الاحزاب السياسية للسلطة وخدمة مصالحها الخاصة مقابل تهميش الشعب.
يشير الكثير من الباحثين الى أن من عيوب الديمقراطية التشاركية تعدد مراكز اتخاذ القرار، ممّا يمثّل حاجزا أمام الاتفاق على قرار موحد نتيجة الاختلافات التي يمكن ان تسود، كما أنّ هذا النموذج التشاركي لا يلغي جانب تحقيق المصالح الخاصة الطاغي على الديمقراطية التمثيلية، فكما الحال بالنسبة للأحزاب السياسية يمكن أن يتكرر نفس الشي بالنسبة للمثلي الشعب على المستوى المحلي.
تتعدّد مكوّنات المجتمع المدني في تونس، كما لا يمكن عدم الاشارة الى الدور الهام الذي لعبته عناصره في مختلف المجالات في الفترات الماضية، فلها تاريخ حافل زهر بمقاومة الاستعمار والتطرف الديني وحقوق الانسان … والقيام بأنشطة على مختلف المستويات سواءَ كانت محلية أو إقليمية وحتى الدولية.
ولكن على قدر تعاظم دور هذا المكوّن الهام في المجتمع التونسي، فإنّه تمّ استغلاله كأداة لتحقيق غايات ومصالح متداخلة مع المصالح الوطنية، ويجدر الاشارة الى أن المشكل لا يكمن تحديدا في وجود علاقة بين المجتمع المدني والمجال السياسي وإنما في كيفية سير هذه العلاقة والى ما ترمي.
إبّان ثورة 2011 ظهرت العديد من الجمعيات الموالية للأحزاب السياسية، يمكن أن تعرقل مسار الديمقراطية التشاركية وتتنكّر تحت غطاء المجتمع المدني، في حين أنّ لها غايات نابعة من الاحزاب ممّا سيعرقل سير البلاد نحو التغيير والتّحسن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي من خلال العمل على تحقيق المصالح الخاصّة.
ماهي أسس علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية التشاركية ؟
أهمية المجتمع المدني في نموذج الديمقراطية التشاركية
يكتسب المجتمع المدني دورا بالغا الاهمية في تكريس الديمقراطية داخل المجتمعات، فهو يعتبر وسيطا بين المجتمع والدّولة من خلال تبليغ صوت المواطن ومعرفة احتياجاته عن قرب والنّقائص التي تعاني منها الجهات… وبذلك فهو يدعّم التنمية المحلية والجهوية من خلال أدواره المتنوّعة التّي تستهدف كل المجالات السياسية والاجتماعية.
ويعدّ النّشاط المكثّف للمجتمع المدني داخل الدولة في مختلف المجالات دليلا قاطعا على التّعددية في صنع القرار أي ديمقراطية النّظام السياسي وتعبيرا عن مدى مرونته في تشريك مختلف الفاعلين وعدم صلابته، ويندرج ذلك بشدة ضمن إطار الديمقراطية التشاركية، بحيث يُعد المجتمع المدني عنصرا رئيسا وفاعلا كبيرا ضمن هذا النموذج الديمقراطي الذي يُسمح فيه للشعب باختيار مصيره وتدبير شؤونه محليا وصولا الى السلطات العليا التي بيدها المصادقة والتنفيذ، وبالتالي يتم إلغاء المركزية والاحتكار في صنع القرار السياسي واعتماد اللامركزية الديمقراطية، حيث لا يتمّ الغاء الجانب التمثيلي بتاتا بل يتمكّن الشّعب من الحكم انطلاقا من ممثليه المنتخبين على نطاق ضيّق (معتمديات، جهات) وصولا الى السّلط المركزية، وللشعب القدرة على محاسبتهم وسحب الوكالة منهم ما لم يكونوا على قدر مسؤولية المهام الموكّلة إليهم، وهو ما لا يمكن أن توفّره الدّيمقراطية التّمثيلية التّي لا تعطي للشعب إلاّ الآلية الانتخابية لانتخاب ممثّليهم في قترة محدّدة دون أن يُسمح لهم بمراقبتهم أو المساهمة في صنع القرار.
ويجدر القول أنّ جلّ التّجارب الديمقراطية تظّل رهينة الوعي الجماهيري والتّنشئة الاجتماعية السياسية، وكلّ نماذجها لها سلبياتها وايجابياتها، لكن لا يمكن التنكر لمزايا النموذج الاشتراكي خاصّة من جانب تشريك المواطن في الحكم، ولا يمكن التّشكيك بتاتا في أنّ أي مشروع إصلاحي ستدخل فيه البلاد في المراحل القادمة لن تُواجه بالمرصاد من طرف من حكموا طيلة العشرية السوداء وهيمنوا على السلطة تحت غطاء الديمقراطية التّمثيلية.
من يضمن ألاّ يتنكّر الحزب المُقصى من السّلطة برداء المجتمع المدني من جديد ؟
مراجعة المرسوم 88 للمضي قدما في المرحلة القادمة
أشار مركز الاعلام والتكوين والدراسات والتوثيق في شهر أفريل الفارط من عام 2021 الى أنّ عدد الجمعيات بلغ 23925 جمعية بعد ان كان 9969 في عام 2011، وقد اعتبر الكثير أن هذا الارتفاع المهول لعدد الجمعيات في تونس لا يمكن له أن يكون مؤشرا إلاّ على مدى الوعي الذي وصل اليه المجتمع التونسي بأهمية العمل المدني في النهوض بالبلاد، ونوعا من التحرر بعد القيود التّي كانت تكبّله قبل 2011، ولجؤ الشعب التونسي الى الجمعيات كبديل عن الأحزاب التي لا يجد متسعا ليمارس مهامه كمواطن فاعل في الحياة المدنية وليست السياسية وهذا يمكن اعتباره مؤشر واضح على الغاء مفهوم الحزب السياسي والذهاب الى الجمعيات المدنية من دون حسابات سياسية ضيقة ولا ايديولجيات حزبية.
ولكن يبدوا أنه توجد حقيقة أخرى،فقد وجد العديد من المخرّبين والاحزاب الرامية لأهداف وغايات مخفية وغير ظاهرة للعيان في تأسيس الجمعيات وسائل لنشر ايدولوجيتهم وأفكارهم وكذلك للجوسسة والتخابر لصالح أطراف خارجية لتنفيذ مخطّطاتهم، ويتجلّى ذلك في العديد من الجمعيات الخيرية في تونس الموالية لحزب النّهضة الذي ادعى خروجه من سقف الايديولوجيا والاسلام السياسي لينخرط في الحياة السياسية، لكنّه احتكر السلطة من جهة وكان يعمل في الخفاء من خلال هذه الجمعيات الشّكلية التي تدعي العمل الخيري من جهة اخرى، لاستقطاب الشباب في صفوفها واقناعهم بأيديولوجيتها باعتماد جملة من الانشطة التي تقوم بها هذه الجمعيات كالرحلات والدورات التكوينية والاعمال الخيرية.
وقد ساهم ارتباط الكثير من هذهالجمعيات بأطراف خارجية وأحزاب سياسية في عدم حصول الكثير من الجمعيات الاخرى حديثة النشئة على حظوظها في تحقيق أهدافها نتيجة عدم توفر التمويل والدعم اللازمين مثل ما هو الحال بالنسبة للأولى الحاصلة على تمويلات ضخمة اجنبية مجهولة المصدر، مما حال دون تحقيق التناصف ومزيد هيمنة الجمعيات الوهمية على المجتمع المدني وتنامي دورها.
ينص المرسوم عدد 88 المؤرخ في 24 من شهر سبتمر لعام 2011 المعني بتنظيم الجمعيات في فصله الاول على ” حرية تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط في إطارها وإلى تدعيم دور منظمات المجتمع المدني وتطويرها والحفاظ على استقلاليتها” وبالنسبة لتعريف الجمعية فقد ورد في الفصل الثاني منه على أنّها ” اتفاقية بين شخصين أو أكثر يعملون بمقتضاها وبصفة دائمة على تحقيق أهداف باستثناء تحقيق أرباح”. أمّا فيما يتعلّق بتمويل الجمعيات، فقد نصّ الفصل 34 من المرسوم 88 على أنّ مواردها تشمل اشتراكات الاعضاء والمساعدات العمومية الى جانب التبرعات والهبات والوصايا ويكون مصدرها إمّا وطنيا أو أجنبيا، ذلك لا يمثّل أي مشكلة.
في الفترة الاخيرة دعا رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد الى ضرورة مراجعة هذا الفصل المتعلّق بتمويل الجمعيات من خلال منع التمويل الاجنبي للجمعيات الغير حكومية، ممّا أثار بلبة في الوسط الحقوقي والاعلامي وانقساما الى شق ادعى أنّ ذلك ليس إلاّ وسيلة للتضييق على حريّة المواطنين في ممارسة النّشاط الجمعياتي وشق اخر مؤيد لضرورة مراجعة جانب التّمويل نظرا في أنّ العديد من الجمعيات في تونس تثير العديد من التساؤلات حول مواردها أو الانشطة التي تقوم بها.
في هذا السياق أكّد سعيد أنّ الكثير من المجموعات المؤدلجة في تونس ترتدي لباس الجمعيات وتتظاهر بممارسة العمل الجمعياتي خدمة لأجندات خارجية وأحزاب سياسية وأغراض اخرى مشبوهة من خلال وصفه إيّاها بأنّها “امتداد لأحزاب سياسية أو قوى لفظها التّاريخ”.
وقد يبدو أمرا غريبا سماح القانون التونسي بتلقي هذه الجمعيات التمويلات الخارجية بكل حريّة دون أدنى رقابة، وقد شدّد الكثير سابقا على ضرورة إعادة النّظر في هذا الفصل لانّ الكثير من الاطراف سوف تستغلها لأهداف غير قانونية، لكن الأحزاب المهيمنة على السلطة طيلة العشر سنوات الفارطة تغاضت عن ذلك خصوصا حزب النهضة الذي تواليه الكثير من الجمعيات الخيرية مشبوهة الهوية والتّي تعمل لصالح أطراف خارجية لها أهداف ايديولوجية، في هذا الاطار أشار المحامي حازم القصوري الى أنّ هناك الكثير من الجمعيات تعمل في المجال السياسي بالرغم من أنّ القانون يمنع ذلك، الى جانب وجود الكثير من المنظمات الاخرى المرتبطة بدول أجنبية والتي تدعم التّطرف ولها يد في استقطاب الشباب الى صفوف الجماعات الارهابية في مناطق التوتر في العالم وتبييض الاموال.
ويعد التدقيق في عناصر المجتمع المدني أمرا في غاية الاهمية في وضع حد امام أي محاولة لضرب او عرقلة المسار الاصلاحي للبلاد نظر لأهمية هذا العنصر في نموذج الديمقراطية التشاركية، وليكون أيضا فعّالا ونزيها يجدر بالضرورة الحفاظ على سيادة البلاد واستقلاليتها من خلال منع أي تمويل اجنبي.