الجمعة. ديسمبر 27th, 2024

اعداد فاتن جباري : باحثة بقسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية

اشراف ومراجعة: الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية

المقدمة:

في الوقت الذي تتوالى فيه مجريات الأحداث العالمية بنسق سريع جدا، دقت فيه طبول الحرب و انطلقت فيه أصوات الأسلحة بين قطبيتين حكمتا العالم لسنوات طوال في مشهد لم يتوقعه احد من قبل ولا يعرف مصيره احد تتشكل الحرب الجنونية لتلقي بالعالم في هوة سحيقة.

لم يتخيل احد وان ذلك الصدام العسكري المباشر بين روسيا والغرب، لطالما كانت دائمة الحضور في بطون الكتب بمختلف تصنيفاتها، وبالتأكيد على شاشات السينما بحبكات مختلفة وصلت إلى حد استعمال الخيال العلمي في مجال التسلح والصواريخ وفنون القتال والاستخبارات، لنجدها اليوم حقيقية مجسدة على ارض الواقع جميعها تُحذِّر من عواقب اندلاع حرب عالمية ثالثة بين أعضاء النادي النووي قد تكون سببا في فناء البشرية بالكامل…

في الوقت الذي كان فيه العالم مشغول بالتداعيات الاقتصادية والتحديات الإستراتيجية التي تشهدها الساحة الدولية وتأثيرها بالكامل على منطقة البحر الأبيض ومنطقة شمال إفريقيا بالتحديد:

يوجد سؤال موجه إلى كل من لديه رؤية لتونس الإستراتيجية وتموقعها الاستراتيجي الحر والحتمي والمأمول أو انتقالها الاستراتيجي المستحق على ضوء الساحة الدولية ؟  خاصة إذا كانت رؤية ملتزمة بالدولة الوطنية أو بالسياسات الوطنية السيادية

1-التغيير الجديد لشكل الاقتصاد العالمي

يبدو أن القرية الكونية التي نعيش فيها لن تهدأ بعد ألان فبينما كانت أنابيب النفط والغاز الطبيعي يعبران البحار إلى أقصى نطاق الأرض ومنها إلى البحر الأبيض المتوسط، وبينما كانت حركة الملاحة البحرية والجوية تجوب خريطة العالم وصولا إلى كل نقطة من خلال طائراتها وبواخرها وعباراتها الحاملة للأدفاق البشرية والمسافرين والسلع والبضائع وتصل إلى البحر الأبيض المتوسط ومنطقة شمال إفريقيا، بدأت البورصات العالمية تسجل انهيارا مؤداه اضطراب كبير في برامج الاقتصاد العالمي علاوة على الارتفاع الصاروخي في أسعار برامل النفط حيث يتخطى  119 دولار، علاوة على ارتفاع أسعارالذهب في شكل غير مسبوق منذ 2014فتتجاوز الأونصة  1900دولار والغاز و الوقود  وبقية الصادرات الدولية من المواد الأخرى كالقمح الذي تجاوز 900 دولار والذهب،وشلت حركة الاتصال العالمية والنظام المالي الدوليوفقا لأحدث التقديرات.

توتر العلاقات الدبلوماسية  التي فاقت كل التوقعات إلى أسوء مساراتها بين روسيا-أوكرانيا  وأمريكا ومنه إلى أوروبا عموما والشرق الأوسط  وبقية دول العالم، جعلت الخريطة الجديدة للعالم على أهبة جغرافيا جديدة قد تجعل من دول العالم النامي دولا صاعدة من جديد.

روسيا لم تعد اليوم وحدها في عالم متعدد الأقطاب، ذلك بعد أن رسمت قاعدة جد واسعة ومع حلفاء من طراز رفيع كالصين وايران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا سوريا …

إن هذه الرقعة الإستراتيجية لروسيا ستأخذ في الإمتداد ألتجاذبي لتكسب قاعدة شاسعة وهو ما سيخلق قاعدة حزامية مساندة للرأس الروسي الذي سيتجه نحو بلدان البحر الأبيض المتوسط والقارة الإفريقية كأكبر ضربة تتلقاها أوروبا التي كانت تعتلي عرش المتوسط .

هذا ماكشفت عنه احدث الدراسات المهتمة بشان الاقتصاد الدولي وهو عبارة على اتفاقيات مالية وتجارية SWIFT روسيا التي عملت على صنع برنامج مالي مواز ساعية إلى ضم اكبر عدد من الكتل إلى حزامها المنافس:

يتضمن التعامل بعملات بعيدة عن الدولار مع كل من إيران والصين والدول الآسيوية  وإنشاء مناطق تبادل قارية جديدة،فإزاء تراجع العلاقات بين الاتحاد الأوربي وروسيا في الوقت الذي كانت فيه أوكرانيا الملقبة بسلة أوروبا مصدرا هاما تتمعش منه القارة العجوز،وهذه الأخيرة التي ستجد نفسها اليوم أمام عوائق شتى ستذهب للبحث عن شركاء جدد.

فمنذ تفشّي فيروس كورونا وبروز تداعياته على حركة النشاط الاقتصادي الأوروبي العالمي بات من الواضح أن ثمة إرهاصات لتغييرات على المسار الاقتصادي العالمي، وبدأ المفكّرون الإستراتيجيون في رسم سيناريوهات للشكل المتوقع للعالم الاقتصادي ما بعد كورونا، انطلاقاً من مجموعة من الأزمات المتوقعة كنتيجة لتنامي الإغلاقات ومشاكل سلاسل الإمداد والتوريد، وشح المعروض من الإنتاج لبعض السلع، وتنامٍ كبير في الطلب لمستهلكي وشركات الدول الغنية والتي أفرطت بنوكها المركزية في التعويضات والأموال التي أغدقتها عليهم لتعويض تداعيات الفيروس، سواء بصورة مدفوعات مباشرة، أو من خلال خفض سعر الفائدة وإتاحة تلال الأموال بصورة شبه مجانية.

روسيا هي الأخرى  ستركز على البحث في علاقات جديدة واعدة تؤمن منها موفورها من النفط والغاز الطبيعي و البترول وغيره من المنتجات الحيوية الأخرى،لا شك حتى الآن وان طرد روسيا من اتفاقيات”swift ” سيدفع القطب الروسي للبحث عن بدائل مالية خارج المنظومة الاقتصاد الامبريالي العالمي  حيث الصين باعتبارها قوة  اقتصادية عملاقة بامتياز كذلك كوريا الشمالية  إيران و اليمن وسوريا .

من الضفة الأخرى للعالم تبدو السوق الجزائرية في نظر الغرب،سوقا جد واعدة ذالك ان الجزائر عاشر اكبر بلد في العالم من حيث المساحةبمساحة تبلغ 919.595 ميل مربع وبفضل موقعها الاستراتيجي المطل على البحر الأبيض المتوسط وتحدها في الشمال الشرقي تونس وشرقا ليبيا و غربا المغرب والصحراء الغربية ومن الجنوب الشرقي النيجر، وجل هذه الدول المتاخمة تشكل كذلك مواقع استراتيجية مهمة للغاية من حيث الثروات الطبيعية كما تعد قوة إقليمية ومتوسطية علاوة على كونها عضو مؤسس في التحاد الافريقي  والاوبك.كما تعادل صادرات الطاقة العمود الفقري لاقتصادها وبحسب منظمة الدول المصدرة للنفط اوبيك تحتل المرتبة ال16 عالميا من حيث احتياط النفط في العالم والثاني في إفريقيا كما إنها تحتل المرتبة التاسعة من حيث احتياطات الغاز الطبيعي اذ تقوم بتوريد كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الى اوروبا ،سونطراك، الشركة الوطنية للنفط وهي اكبر شركة في إفريقيا.

منطقة شمال إفريقيا التي تقف الآن على أعتاب مبادرات مهمة للتكامل الإقليمي نتيجة لتنوع مجالاتها الاقتصاديةوإمدادات الطاقة وقوة المياه  والنمو الأخضر وثرواتها الطبيعية الوفيرة وموفورها التاريخي الغزير الذي جعل منها قطبا عالميا جاذبا على مر العصور لاجتذاب مزيد من الاستثمارات

على مدار التاريخ كانت المنطقة في مفترق طرق التجارة الإقليمية والعالمية وذالك اثر تطور حركة المبادلات التجارية العالمية وهذهالمزايا يدركها جيدا خبراء الاقتصاد العالمي اذ تلعب جل هذه الأسباب دورا تحفيزيا كبيرا في ظم هذه الدول ضمن صفها مثلما تقف مجموعة البنك الدولي علىأهبةالاستعداد للقيام بدور في تعزيز علاقتها من جديد مع هذه الأجندة التي تستشرف المستقبل .

في الوقت الذي امتطت فيه  الرأسمالية بنسختها القديمة الإصدار الأول من العولمة عبر المستعمرات القديمة، كما انقضّت على الثورة التكنولوجية، والمؤسسات الاقتصادية والقانونية الدولية على الإصدار الثاني، الذي رسخ الهيمنة للدول الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وأضحت بقية دول العالم تابعة اقتصادياً وسياسياً لهذا الرأس، تتحرك وفق خطط وآليات ومهام مرسومة، عبر مفاتيح مخزونة في أدراج مكاتب البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي.

2-الأمن والخريطة الجيواستراتيجية الجديدة

تعمّقت أسس هيمنة النظام الرأسمالي خلال القرون الخمسة الأخيرة، واستطاعت الرأسمالية استيعاب تغييرات تكتيكية في مواجهة العديد من الأزمات الحادة التي هددت استمرارها، وهي الأزمات التي تُعتبر نتيجة طبيعية لسريان قوانين السوق دونما قيود أو ضوابط.

لا تزال آفاق النمو الاقتصادي على الأمد القصير تبعث على “التشاؤم” فبينما كان العالم يبني اقتصاد النمو يظهر اليوم مفهوم جديد وهو “اقتصاد الحرب “هذه الحرب  التي ستغير وجه العالم اليوم  ليس فقط من حيث خريطته الجيوسياسية الجديدة بل الجغرااقتصادية فالقارة الأوروبية وأثر الأزمة الفيروسية التي أصابت رأس المال البشري والمادي بأضرار هائلة، وخلقت أكبر أزمة مالية خانقة ناهيك عن الحصار العالمي وغلق المسالك الدولية وتراجع معاملاتها الاقتصادية وصادراتها وضيق أسواقها ومواردها منالأسلحة واليورانيوم  البترول و النفط و الغاز الطبيعي و حجم الذهب و الحديد و السلع و المنتوجات الغذائية

ففي الوقت الذي يواجه فيه العالم بأكمله مستقبلا قاتما تتهدده الحروب النووية تكون طبول الحرب قد صمت الاذان في اوروبا  فلا سؤال يعلو في اوروبا و العالم يعلو اوروبا.

ماهي تاثيرات الحرب بين روسيا والاطلسي على الاقتصاد العالمي  ؟

الديبلوماسية التونسية والحرب الروسية الأكرانية:

وبمعنى آخر، أي موقف للخارجية التونسية في ضل هذه الصراعات العالمية  في مشهد يصعب فيه إبداء موقف دبلوماسي محايد كما عهدنا فيه تونس من قبل فنحن لن نكون أبدا بمعزل عن الاوضاع الخارجية سواء على المستوى الاقتصادي والسياسي والأخطر من ذلك الأمني الاستراتيجي.

وفي وجه هذه الانقسامات و التحالفات الحتمية نتساءل عن موقع تونس المنحازة وأي انحياز هو يخدم مصالحها  تحسبا لأي تطورات محتملة وإزاء أفراد جاليتها المقيمةعلى محور الصراع الاكراني والتنسيق مع مختلف الجهود الدولية إزاء تهدئة الأوضاع العالمية والحث علىالتريث وإعلاء منطق السلام العالمي قبل كل شي.

هل يمكن حقيقة تعميق صياغة عقيدة وطنية إستراتيجية أمنية وعسكرية ودبلوماسية مع دول الجوار وخاصة ليبيا ومصر والجزائر ومع دول الإقليمومع دول الاقطاب الصاعدة وخاصة روسيا والصين عدا عن علاقاتهابدول الافريقية وعلى رأسها جنوب  مصر أفريقيا ونيجيريا ومالي… وغيرهم  … وذلك لاجل تحديد سياسة سيادة أو ديبلوماسية مستقبل تقوم على خطة دقيقة وتفصيلية للتعامل مع تعقيدات العلاقات الخارجية الدولية في كل ترتيباتها ومقتضياتها تحت سؤال كيفية التعامل مع الكيانات الثائرة الجديدة التي صنعتها التحالفات الاقليمية والدولية الجديدة.

وفي كل هذه التشابكات والمعادلات والاشتباكات هل يمكن حقيقة ومنطقا لتونس ان تتغير وتتقدم دون سيادة تساعدها على التطور والنماء والصعود؟

هذا في الوقت الذي تراجعت فيه مكانة الاتحاد الأوروبي بشكل كبير على اعتباره كان الداعم الرئيسي التاريخي والأول لتونس خلال عقود مضت تحت شعار الشراكة الأورومتوسطية والتي اثبتت اليوم تبعية الدولة التونسية طيلة عقود مضت للاتحاد الأوروبي الذي مثل الوجه الأبرز لدور المستعمر تحت قناع المستعمر حتى ابان الاستقلال والى اليوم.  

أم أن البحث عن علاقات شراكة جديدة أكثر نجاعة من حيث القوة الاقتصادية والسياسة التنموية والأمنية الشاملة ونقصد هنا بالذات دول الجوار والصين وإفريقيا وروسيا …وعلى المدى القريب الجزائر وليبيا…كبدائل عن الشراكة الأوروبية بامتياز.

كما أنّ جل هذهالتحولات والمشاكل ستطرح في سائر أطر المنظمات الدولية الأممية ومجلس الأمن وأهم من ذلك على مستوى مؤسسات الأمم المتحدة وبقية المنظمات الإقليمية والدولية التي تشارك فيها تونس وتلتزم بها، هذا عدا عن المنظمات الدولية التي تعني بشتى أنواع الحقوق وبشتى أنواع القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة.

هذا فضلا عن وجوب المصادقة على الانضمام إلى أطر أخرى خاصة بالأمم المتحدة في موضوع التهديدات وصياغة اتفاقات دولية أخرى تحمي السيادة والحق في اختيار السياسات الخارجية الأكثر نجاعة من سابقاتها وتمكينها من المراهنة على خيارات أنموذجية جديدة لم تعهدها الدولة التونسية من قبل على اثر تغيرات القرن الحديث، بما في ذلك اتفاقيات التجارية والأمنية علاوة على الاقتصادية المتعلقة بالشراكات الإستراتيجية الجديدة والسيادية المستوجبة.

تكتسي الآفاق العشرية للتنمية أهمية خاصة في التاريخ الدبلوماسي والاقتصاد التونسي باعتبار أنها تشكل أول إستراتيجية وضعتها الدولة التونسية الناشئة خلال مرحلة الستينات لبناء اقتصاد انتاجي والتخلص من رواسب الاستعمار  الاقتصادي الفرنسي وذلك بعد تأكد الرئيس بورقيبة ان استرداد مقومات الاستقلال الحقيقي والتام يحتاج الى تبني أسلوب التخطيط الاستراتيجي  وتولي  الدولة التونسية،  كفاعل إقتصادي رئيسي، السهر على إنجاز المخططات التنموية  المجسدة لهذه الإستراتيجية.

ورغم حصول هذا الخيار على تزكية البنك الدولي فانه اصطدم بصعوبات داخلية و خارجية من بينها الموقف الفرنسي المعارضالمسنود داخليا من اللوبيات الفرنكوفونية  التونسية المدعومة من فرنسا.

3-أسباب تبني تونس للتخطيط الاستراتيجي على ضوء التغيرات العالمية الجديدة كمنوال للتنمية والتخلص من الاستعمار الاقتصادي

لم يكن بروتوكول  الاستقلال المبرم مع فرنسا بتاريخ 20 مارس 1956 سوى إعلان للمبادئ وهو ينص على إجراء مفاوضات لاحقة قطاعية بداية من أفريل 1956 لنقل مقومات السيادة إلى تونس مرحليا في القطاعات السيادية كالأمن والشؤون الدفاعية والخارجية والاقتصادية وغيرها.

غير أن وثيقة الاستقلال التام كانت قابلة للتأويل من حيث أنها أبقت على اتفاقيات الحكم الذاتي لسنة 1955 سارية المفعول والحال أنها تكرّس الهيمنة الفرنسية المطلقة على مفاصل الاقتصاد وتضمن للفرنسيين وللجاليات الأوروبية الحفاظ على حقوقهم المكتسبة أثناء فترة الاحتلال بموجب منظومة الامتيازات الخاصة بالأجانب.

وهذا ما يفسّر تعثر مفاوضات نقل السيادة وتعدد مظاهر التوتر والصدام والأزمات  التي سادت العلاقات بين تونس وفرنسا طيلة العقد الأول الموالي للاستقلال  وإلى آخر الستينات  كما هو مبين في الدراسات الأكاديمية ومنها اطروحة الدكتوراه للكاتب الجامعي الألماني Werner Ruf وهي صادرة باللغة العربية بتونس سنة 2011 بعنوان”البورقيبية والسياسة الخارجية لتونس المستقلة”.

 وإزاء موقف فرنسا غير المتجاوب مع تطلعات تونس للحصول على استقلالها التام والمعرقل للمساعي التونسية الرامية لبناء علاقات تعاون متكافئة ومفيدة للجانبين مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية، ارتأى الرئيس بورقيبة اللجوء مطلع الستينات  إلى التخطيط الاستراتيجي لوضع مشروع مجتمعي متكامل يقوم على استرداد تونس لحقها في تقرير مصيرها  و بناء أسس الدولة التونسية الحديثة.

و الملاحظ في هذا الصدد، أنه باستثناء الاتفاقية الموقعة بتاريخ 15 جوان  1956 التي استردت تونس بموجبها استقلالها في مجال السياسة الخارجية استمرت فرنسا في توخي أسلوب المماطلة وظلت تقايض كل خطوة بشروط  تعجيزية من قبيل المطالبة بتعويضات للمعمرين الفرنسيين لتحقيق الجلاء الزراعي مما اضطر الرئيس بورقيبة لتأميم الأراضي الفلاحية وذلك في إطار استراتيجية  الآفاق العشرية للتنمية لمرحلة الستينات التي شكلت تحولا كبيرا في استراتيجية تونس لتجسيد تحررها من الاستعمار الفرنسي.

الدعم الدولي للتخطيط الاستراتيجي التونسي  و أسباب التخلي عنه.

بجدر التذكير بأن تونس، سبق لها أن لجأت خلال السنوات الخمس الأولى الموالية للاستقلال إلى عدة خطوات سيادية  ومنها خاصة استرداد السيادة النقدية والمالية بإحداث البنك المركزي التونسي والعملة الوطنية وتأميم القطاع البنكي إلى جانب تأميم الخدمات والمرافق الأساسية في مجالات إنتاج و توزيع الماء والكهرباء.

هذا إضافة إلى العديد من الإصلاحات الكبرى الأخرى التي شملت التجارة الداخلية والخارجية ومنظومة الصرف فضلا عن الإصلاحات المتعلقة بالقطاعات الاجتماعية والتعليم وتحرير المرأة وغير ذلك من القطاعات الحيويّة.

وتزامنت هذه الجهود مع حركية دءوبة للدبلوماسية التونسية لتوسيع دائرة العلاقات الخارجية لتونس وتنويع شركائها الاقتصاديين  وحشد الدعم الدولي لإستراتيجيتها الجديدة ولمخططاتها التنموية فضلا عن مبادراتها  الهادفة  لتحقيق الجلاء العسكري عن أراضيها واستكمال مقومات سيادتها الوطنية.

لكن تونس سرعان ما أدركت أن العمل على التحرر من التبعية والهيمنة الاقتصادية الفرنسية   المستمرين منذ اكثر من سبعة عقود من الزمن، يحتاج إلى نفس طويل وإلى تبني  التخطيط الاستراتيجي كمنوال للتنمية وهو ما تجسّد عبر الآفاق العشرية للتنمية  التي كرست الدور المركزي للدولة التونسية الناشئة و القطاع العام في إدارة الشأن الاقتصادي وتحقيق أهدافهاالإستراتيجية  بعيدة المدى المتمثلة في إزالة الاستعمار الاقتصادي من خلال بناء اقتصاد إنتاجي صناعي وفلاحي حديث يرمي إلى الارتقاء بالإنسان التونسي وجعله أداة فاعلة في العملية التنموية.

ورغم القيود والمحاذير الصارمة التي وضعتها الآفاق العشرية للتنمية في مجال التداين الخارجي واللجوء إلى  التمويلات والاستثمارات الخارجية خلال السنوات الأخيرة،  فقد بدا واضحا منذ البداية أن الموارد الذاتية التونسية المحدودة ستضطرها إلى الاقتراض من الخارج وإلى التعاون مع المؤسسات المالية الدولية  والبلدان الغربية المنتمية لما يسمى بكتلة العالم الحر فضلا عن فرنسا التي احتفظت بمكانتها على رأس الشركاء الاستراتيجيين لتونس.

وبذلك تبين منذ مطلع الاستقلال أن احدى  نقاط الضعف الرئيسية لتونس، التي شكلت عبر التاريخ المصدر الأساسي لتبعيتها للخارج ولخضوعها كلقمة سائغة لموجات متعاقبة من الغزاة والمحتلين هي حاجتها المستمرة لموارد مالية تتجاوز إمكانياتها الذاتية، و قد أثبتت التجربة التاريخية على مر العصور أن هذه العقبة، إلى جانب الفساد وسوء الحوكمة، ساهمت بقسط وافر في إجهاض التجارب الإصلاحية والتنموية الوطنية بل أنها غالبا ما تؤدي، كما هو الحال  اليوم، إلى جر البلاد إلى التداين المفرط  وإلى  الإفلاس المالي والاقتصادي و ما يترتب عنه من مخاطر وتهديدات على أمن تونس و مستقبلها.

وقد ثبت في غمرة أزمة المديونية والأزمة الاقتصادية المتزامنة مع الانتشار القصري لمنظومة اقتصاد السوق والعولمة التجارية والاقتصادية المفروضة من الدول الصناعية الغربية الكبرى ان تونس فشلت في الحفاظ على توازناتها المالية الكبرى وأضحت رهينة  للقروض المشروطة للمؤسسات المالية الولية،  و فقدت بذلك استقلالية قرارها في رسم و تحديد خياراتها الاقتصادية بما يخدم مصالحها.

وبالعودة إلى  إستراتيجية الآفاق العشرية للتنمية فقد  تم الشروع في تجسيدها عبر المخططات التنموية الثلاثة التي وضعت لتنفيذها، ورغم ما تخللها من عثرات ومن عقبات أثبتت الدراسات الأكاديمية أنها شكلت منعرجا حاسما  في سياسة تونس التنموية وذلك حرصا على تأمين الدعم الدولي والتمويلات اللازمة من الدول الغربية الفاعلة صلب المؤسسات المالية العالمية لإنجاز المخططات التنموية التونسية ومواجهة الموقف الفرنسي المتحفظ المسنود من قبل اللوبيات الفرنكوفونية الداخلية التونسية التي كانت تسعى بكافة السبل لإفشال التجربة التنموية .

و قد أدى ذلك لحصول تحول جذري ليبيرالي جديد سابق لأوانه في الأولويات الاقتصادية التونسية، مهد  للعودة  بتونس مطلع السبعينات إلى دائرة النفوذ الفرنسي وسياسة التبعيّة والانفتاح الاقتصادي والتجاري غير المتكافئ وهي الخيارات التي سبق تكريسها باتفاقيات الحكم التي تم إبرامها بين تونس والمجموعة الاقتصادية الأوروبية.

و لكل هذه الأسباب فان الأفاق العشرية للتنمية،  و إن مكنت من وضع أسس النمط المجتمعي التونسي الجديد، فإنها لم تمكن من تحقيق  أهدافها الرئيسية والإستراتيجية بعيدة المدى  وفي طليعتها  بناء اقتصاد إنتاجي صناعي وفلاحي عصري وإزالة الاستعمار الاقتصادي الفرنسي الذي كان يتطلب المحافظة على سياسة التخطيط الاستراتيجي والدور الاقتصادي التعد يلي للدولة التونسية،ومواصلة التحكم في المديونية و المواظبة  على بناء قطاع خاص تونسي منخرط  بفاعلية في  منظومة انتاجية صناعية و فلاحية وطنية بما يجعله  شريك فاعل و أساسي للتنمية.

وهكذا يتضح أن العودة المبكرة، الى النمط الاقتصادي الليبرالي القائم على استقطاب الاستثمارات الأجنبية و الصناعات التصديرية الأجنبية كقاطرة للتنمية، أدى فعليا إلى تراجع تونس عن خيار التخطيط الاستراتيجي وفقدانها لاستقلالية قرارها في رسم سياساتها الاقتصادية  فضلا عن تكريس تبعيتها للمؤسسات المالية الدولية بفعل  خضوعها لإملاءات صندوق النقد الدولي وهو ما كرس فشل سياسة التحرر من   الهيمنة الاقتصادية الفرنسية الأوروبية  الغربية على تونس التي لم يكن من اليسير التخلص منها خاصة وانها تستمد جذورها من عمق التاريخ الاستعماري الفرنسي الطويل في المنطقة .

وهكذا اتضح منذ البداية أن الجانب الفرنسي والمجموعة الأوروبية لم يكونا مستعدين لتطوير نظرتهما للعلاقات مع تونس ومع الضفة الجنوبية للمتوسط باتجاه إقامة علاقات متكافئة تراعي مصالح الجانبين  وتراعي التفاوت الشاسع  في مستويات التنمية بين  الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط وتقطع مع عقلية  الاستعمار و الهيمنة والتبعية التي ظلت تميّز الروابط شمال جنوب منذ بداية  الاستقلال وهو ما سيتأكد لاحقا في كل الاتفاقيات التي ستبرمها تونس مع المجموعة .

فمع موقع جغرافي استراتيجي عند ملتقى طرق البحر الأبيض المتوسط، وبرحلة طيران لا تتجاوز عامّة ساعتين من العواصم الأوروبية الرئيسية وبرحلة بحرية من موانئ البحر الأبيض المتوسط الرئيسية لا تتجاوز 24 ساعة، ومع رأس مال بشري مؤهّل تأهيلا عاليا، وبنية تحتية متطورة وترسانة قانونية مفيدة وثابتة لتحسين حوافز الاستثمار، تطمح تونس إلى أن تصبح مركزًا صناعيًا وتكنولوجيًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط ومنصة مثالية للوصول إلى أسواق جوارها المباشر وإلى الشرق الأدنى والأوسط وأفريقيا، وخاصة إلى الاتحاد الأوروبي ذي المساحة الاقتصادية المشتركة الأكبر في العالم..

كما وقّعت تونس عددًا من الاتفاقيات الثنائية والاتفاقيات التفاضلية متعددة الأطراف على وجه الخصوص:

  • الاتفاقيات الثنائية لإقامة منطقة تجارة حرة مع ليبيا و الجزائر و مصر والمغرب و تركيا والأردن.
  • اتفاقية إنشاء منطقة تجارة حرة مع  الجانبتركي
  • اتفاقية تجارة حرة متعددة الأطراف مع دول الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة
  • اتفاقية أغادير للتجارة الحرة متعددة الأطراف بين الأردن ومصر والمغرب وتونس
  • اتفاقية إنشاء منطقة التجارة الحرة العربية مع 18 دولة عضو في جامعة الدول العربية
  • انضمت تونس إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) في عام 2017 بصفة مراقب وانضمت في عام 2018 إلى السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (الكوميسا) بصفة عضو كامل منفصل;

صادقت تونس منذ جويلية 2020 على الاتفاقية المتعلقة بمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية(AfCFTA).

سعي تونس للتحول نحو الاقتصادالرقمي والحر في دول القارة الإفريقية لركب قاطرة العولمة بما يعكسدفعاقاريا للرقمنة بين ليبيا والجزائر وتونس التي تحتضن فعاليات التعاون الحرالليبي الجزائري التونسي والتجارة البينية الإفريقية على المستويات الوطنية والإقليمية و القارية

الدفع الآلي للبنوك في مجالات الرقمنة وضبط برامج لبعث مناطق تبادل حر بين تونس والجزائر وليبيا  ،كما تونس تحصلت على ترخيص دولي في خصوص صناعات اللقاح ضد فيروس كورونا وذلك بمنحها دعما من منظمة الصحة العالمية.

تعمّقت أسس هيمنة النظام الرأسمالي خلال القرون الخمسة الأخيرة، واستطاعت الرأسمالية استيعاب تغييرات تكتيكية في مواجهة العديد من الأزمات الحادة التي هددت استمرارها، وهي الأزمات التي تُعتبر نتيجة طبيعية لسريان قوانين السوق دونما قيود أو ضوابط.تعمّقت أسس هيمنة النظام الرأسمالي خلال القرون الخمسة الأخيرة، واستطاعت الرأسمالية استيعاب تغييرات تكتيكية في مواجهة العديد من الأزمات الحادة التي هددت استمرارها، وهي الأزمات التي تُعتبر نتيجة طبيعية لسريان قوانين السوق دونما قيود أو ضوابط.تعمّقت أسس هيمنة النظام الرأسمالي خلال القرون الخمسة الأخيرة، واستطاعت الرأسمالية استيعاب تغييرات تكتيكية في مواجهة العديد من الأزمات الحادة التي هددت استمرارها، وهي الأزمات التي تُعتبر نتيجة طبيعية لسريان قوانين السوق دونما قيود أو ضوابط.انحياز موقف تونس اثر الصدامات والمواجهات الدولية المحتملة:

قد تتحول كل السياسات إلى صلاحيات الخارجية والأمن الاستراتيجي، بمعنى كون الملف برمته يصبح ملف أمن استراتيجي وتنتظم تحته كل مستويات الأمن و الخارجية والاقتصاد والسياسة…فحتى وزارات الثقافة والرياضة والشؤون الدينية والتجارة والفلاحة والسياحة والمالية قد تتحول… إلى وزارات خارجية وداخلية ودفاع وإلى سياسات خارجية وديبلوماسية وعلاقات دولية وشؤون إستراتيجية إقليمية ودولية.

في هذا المستوى يصبح الأمن العام مرتبطا أينما ارتباط باستقرار الأمن الخارجي وهذا مستبعد لان هناك تفاعلات قارية وإقليمية لن تكون تونس بعيدة عنها بما يضع احتمال المواجهة مع هذه الانعكاسات فوق كل احتمال

تجربة أنموذجية تونسية  جديدة  تخوضها ضمن المعترك الدولي اثر الأزمات الراهنة على المستوى السيادة الإقليمية الدبلوماسية الهادفة نحو الإنماء الاقتصادي و الدفع نحو شراكة مع دول جديدة أكثر نجاعة وبعيدة عن التبعية الاستعمارية الأوروبية التي عانت منها تونس لسنوات طوال. بما قد يحقق امن المجتمع وأمن الدولة وأمن حياة المواطنين والأمن الاجتماعي الشامل في خلال الحقبة القادمة.

هل ستفوت تونس فرصة طالما طمحت إليها منذ عقود وتجارب مضت في استبدال منظومة اقتصادية مواكبة للتحولات التي فرضتها المرحلة الدولية الجديدة؟

 فأينما تنتهي لعبة الأقوى تكون تونس قد ضفرت بفرصة مغرية تقتادها نحو رحلة طامحة إلى عالم افضل؟

By Zouhour Mechergui

Journaliste