اعداد رباب حدادة باحثة في قسم البحوث والدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية
يمر حلف شمال الاطلسي بمرحلة ضعف بسبب تفكك العلاقات بين دوله ما تسبب في اضعاف وحدة الحلف.وتوتر العلاقات بين تركيا من جهة وباقي دول الاطلسي من جهة ثانية من ابرز التصدعات في صفوف الناتو.
منذ اتفاقية شراء تركيا لنظام الصواريخ “إس-400” الروسي والتوتر يتزايد بعوامل مختلفة منها الاتفاقية الفرنسية-اليونانية، من اجل التعاون الاستراتيجي العسكري المبرمة في سبتمبر المنقضي حيث اعتبرت انقرة ان مثل هذه الاتفاقيات الثنائية تمثل “خطرا على وحدة الناتو”.
وفي الفترة الاخيرة،بلغ التوتر الديبلوماسي اشده بين تركيا وحلفائها بسبب قضية رجل الاعمال التركي “عثمان كافالا”والتي ستشهد تطورات جديدة اواخر شهر نوفمبر الجاري.
قضية كافالا بدأت منذ اعتقالهسنة 2017 مثيرة جدلا واسعا، غير ان المسألة اخذت بعدا مختلفا في 23 اكتوبر حين كادت تؤدي الى قطيعة خطيرة بين انقرة و10 دول حليفة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والمانيا.
فمن هو عثمان كافالا؟ ولماذا يحضى بكل هذا الدعم الدولي؟
عثمان كافالا رجل اعمال تركي وصاحب مشاريع خيرية،ولد في باريس في 1957. ودرس الاقتصاد في جامعة مانشستر في بريطانيا وكان بصدد اعداد الدكتوراه في الولايات المتحدة الامريكية حين اضطر للعودة لانقرة في 1982 بسبب وفاة والده،من اجل تسلم ادارة شركة العائلة.
عرف كافالا باختلافه عن رجال الاعمال النمطيين، بانشغاله بالأعمال الفنية والثقافية ونشاطه الخيري.ومنذ عودته في 1982 اسس دار النشر التركية الشهيرة”Iletisim”، وفي 2002 انشأ منظمة “الاناضول الثقافية”.
من خلال “منظمته دفع كافالا” الى التشجيع على حق الشعوب والاقليات وفتح نقاشات حساسة في تركياكإبادة الارمن، وشجع على اقامة علاقات بين ارمينيا وتركيا.ويعرف “الفيلانثروب” التركي بعلاقاته مع حزب “الشعب الجمهوري” وكذلك حزب”الشعوب الديمقراطي” المناصر للاكراد وكانت منظمة الاناضول الثقافية ناشطة جدا في مناطق اقامة الاكراد خاصة مناطق الجنوب الشرقي.
كفالا كرجل اعمال لا يعرف الكثير عن ثروته ونشاطاته الاقتصادية، غير تلك الموروثة من العائلة وجلها استثمارات في مادة التبغ.ولكن وسائل الاعلام التركية الموالية لنظام اردوغانتصف رجل الاعمال دائما بـ” الملياردار الاحمر”،وهو اللقب الشهير لرجل الاعمال الفرنسي Jean-Baptiste Doumeng، ويعد الاخير من الشخصيات التاريخية المثيرة للجدل بسبب نشاطاته الفكرية والسياسية والاقتصادية المختلفة والمتناقضة في نفس الوقت.
يعتبر البعض ان نشاطات كافالا مهددة للمشروع السياسي لاردوغان الذي قرر التخلص منه في 2017 بتهم متعددة،ومنذ ذلك الوقت وهو طور الايقاف دون حكم قضائي.
ما حقيقة التهم الموجهة لكافالا؟والمالذي تخفيه علاقاته؟
اعتقل رجل الاعمال في مطار اسطنبول،في 18 اكتوبر2017،وتم توجيه تهمتين له الاولى،تحريضه على احتجاجات جيزي في 2013 ضد حكومة اردوغان عندما كان رئيسا للوزراء. رغم تبرئته من التهمة في 2020، سريعا ما تم اعادة احتجازه بعد يوم واحد من الافراج عنه بتهمة ثانية، وهي التجسس والمساهمة في التخطيط للانقلاب العسكري لسنة 2016 بناءا على وجود اتصالات بينه وبين الأكاديمي التركي المقيم في الولايات المتحدة “هنري جاي باركي” المتهم بدوره بالمشاركة في الانقلاب حسب السلطات التركية.
الى جانب تهم التجسس والتحريض ضد السلطات، يواجه كافالا تهما اخرى أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في احد تصريحاته حيث اعتبر كافالا”رجلسوروس في تركيا” .
فمن هو جورج سوروس؟
جورج سوروس رجل اعمال يهودي امريكي من اصول هنغارية،ولد في هنغاريا سنة 1930، فر وعائلته من المد النازي بتزويروالده وثائق تثبت تدينه بالمسيحية.سافر في 1947 الى بريطانيا لدراسة الاقتصاد وبعدها الى الولايات المتحدة الامريكية حيث بدأ عمله كمحلل اقتصادي ولمع نجمه كأحد نوابغ بورصة وول ستريت، وبدأ مسيرته في تشكيل ثروته.
لكن سوروس ليس من الشخصيات التي قد يمراسمها بهدوء،فهو من اكثر رجال الاعمال اثارة جدلا في الولايات المتحدة الامريكية والعالم.
انشأسوروس في 1979Open Society Institute””وهي شبكة من المنظمات العالمية تتواجد في خمس قارات وفي اكثر من 100 دولة وهدفها نشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان وتعتبر ثاني اكبر منظمة خيرية في العالم بعد منظمة بيل غاتس “Bill et Melinda Gates “.وقد استثمر رجل الاعمال الامريكي في المنظمة ما يقدر بـ 32مليار دولار امريكي.
يعتبر سوروس من اكثر الداعمين لحقوق الشعوب والاقليات ويعرف بدعوته الى حماية حقوق المثليين وايجاد عقوبات بديلة لمستهلكي المخدرات وقد ساهم من خلال منظمته في تحقيق الانتقال الديمقراطي في دول الشرق. كما حظيت الولايات المتحدة 19% من مساعدات المنظمة تليها افريقيا بنسبة 14% وفي مرتبة ثالثة اوروبا 10%.وتعد هنغاريا بلده الام من اهم المستفدينبالمساعادات المالية.
الاستثمار الانساني لمنظمة سوروس في مجال الحقوق والديمقراطية في كل انحاء العالم ما يجعل مناصريه يلقبونه بـ”رجل دولة بدون دولة” ولكن لمنتقديه راي مخالف.
منذ 1992 بدأت الحملات تشن ضد سوروس حين استثمر في البورصة البريطانية بسبب تنبؤه بضعف الجنيه الاسترليني في تلك الفترة،قرر أن يحقق ارباحا للمالي الامريكي، ولكن في الوقت ذاته دفع البنك البريطاني الى خفض قيمة العملة ما سبب خسائر مالية للدولة ولقب على اثرها بـ”مصاص الدماء الامريكي”.
اتهم كذلك بجرائم عديدة ابرزها انتماؤه في شبابه لمجموعة”SS” وهي منظمة نازية تولت حماية هتلربالرغم من اصوله اليهودية،كما اتهم بالتسبب في وباء الايبولا وموجة انتشارها في الغرب الافريقي منذ 2013، ويقال انه المدبر لأحداث سياسية كبرى في امريكا كاحتجاجات شارلوت فيل في 2017 ومسيرات حقوق المرأةضد نظام ترامب،كما خطط لقتل 100 الف تاهيتي.
وبالرغم من استثماره في هنغاريا قرابة 400 مليون دولار منذ 1984 وكان مشروع منظمته قد انطلق من بلده الام، الا ان قادة الدولة كان لهم راي مخالف حيث اعتبره الوزير الاول الهنغاري فكتور اوربان “خطرا يهدد امن الدولة”
حسب البعض جورج سوروس هو من صناع القرار العالمي واحد اهم “محركي الدمى في العالم” وقد ثبت تمويله لحملة الديمقراطيين في امريكا اهمها حملة جون كيري ضد جورج بوش في 2004 وحملة هيلاري كلينتون ضد ترامب في 2016.
ملاك ام شيطان؟
يصعب الجزم في حقيقة جورج سوروس ولكن الرئيس التركي استغل الوجه المظلم للامريكيسوروسواتهم معارضه كافلي بكونه يد سوروس في تركيا وهدفه هو الاطاحة بالدولة.
خرجت منظمة سوروس العالمية عن صمتها للمرة الثانية في 22 اكتوبر المنقضي،ونددت في بيان لها على موقعها الرسمي باتهامات الرئيس التركي لمالكها وذكرت الاتي”تحث مؤسسة اوبن سوسايتيرئيس تركيا اليوم على التوقف عن الاحتجاج باسم جورج سوروس في محاولة لإخفاء الحقائق حول قضية عثمان كافالا، رجل الأعمال والأعمال الخيرية الذي قضى أربع سنوات في السجن هناك بتهم وهمية.”
وقال مارك مالوك براون، رئيس منظمة “اوبن سوسايتي”، “إن لغة الرئيس أردوغان المهينة بشأن جورج سوروس، وهو رجل رحبت به حكومته في اسطنبول، هي محاولة لصرف الانتباه عن الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن عثمان كافالا بريء وينبغي الإفراج عنه…هذه التعليقات السامة من الرئيس حول قضية معروضة حالياً على المحاكم هي اعتداء آخر على النظام القانوني المستقل المزعوم في تركيا. ونحث السلطات التركية على إطلاق سراح عثمان الآن “.
وسبق للمنظمة وسوروس قد اعلنا تعليق اعمال المنظمة في تركيا في 26 نوفمبر 2018 بناء على “الادعاءات الباطلة وبدون دليل” التي تستهدفها بشكل جعل مواصلة نشاطها في تركيا امرا مستحيلا، ويأتي هذا القرار على اثراتهامكل من الرئيس التركي والصحافة التركية لها بمحاولة الاطاحة بالنظام والدولة، كما ادانت الاعتقال غير المبرر لعثمان كافالا وكانت المنظمة كذلك موضوع تحقيق خاص من وزارة الداخلية ادعت فيه وجود علاقة بين المنظمة واحداث جيزي في 2013 وكان من مجموعة 13 متهم احد مؤسسي الفرع التركي للمنظمة، “هاكانالتيناي”.
اعتقالات صرّح على اثرها اردوغان قائلا”الشخص (كافالا) الذي موّل الإرهابيين أثناء أحداث جيزي موجود بالفعل في السجن…ومن خلفه؟
اليهودي الهنغاري الشهير سوروس، هذا الرجل يكلف الناس بتقسيم الأمم، لكسرها، لديه الكثير من المال وينفق جزء منه بهذه الطريقة “.
منظمة سوروس تدعم بشكل واضخ المعارض التركي عثمان كافالا ولا أحد يعلم هل هو دعم لناشط حقوقي ومثقف، ويكون ذلك مدفوعا بمبادئ المنظمة والتزامها بالدفاع عن الحقوق والمبادئ الديمقراطية في كل انحاء العالم،ام هو دفاع على احد رجال سوروس كما يدعي النظام التركي.
في كلتا الحالتين ضغط كل من عثمان كافالا ومنظمة الاوبنسوسايتي على النظام التركي من خلال نقاط ضعفه وهي دكتاتوريته، وابادته للأقليات في تجاهل صارخ لكل مبادئ حقوق الانسان وحقوق الشعوب.
قضية كافالا….ازمة جديدة بين تركيا وحلفائها
اعتقال كافالا منذ 2017 يثير انتقادات دولية عديدة صدرت من كل من المجلس الاوروبي والمحكمة الاوروبية وبعض الدول،واخرها دعوة رئيس لجنة العلاقات الخارجية الأميركية السيناتور الديموقراطي “بوب مينينديز” الى الافراج الفوري عن كافالا وباقي السجناء السياسيين في تركيا.
وكادت القضية تحدث ازمة ديبلوماسية واسعة النطاق بين النظام التركي ودول حلف شمال الاطلسي على اثر اعلانهالعزم على اقصاء 10 سفراء من انقرة على خلفية مطالبتهم بإطلاق سراح كافالافي بيان مشترك لهم صدر في 18 اكتوبر طالبوا فيه تركيا بـ”حل سريع وعادل للقضية”،وهم سفراء دول اعضاء في حلف الناتو ابرزهم سفير الولايات المتحدة الامريكية والمانيا وفرنسا.
قطيعة ديبلوماسية حادة لا يستطيعاردوغان تحملها وعزل تركيا اكثر،ماجعله يعلن سحبه لقراره في 25 اكتوبر 2021، مبررا ذلك بـ”تراجع” الديبلوماسين و”انهم سيكونون اكثر حذرا في المرة القادمة”.
خطاب قوي اراد به الرئيس التركي اخفاء موقفه الضعيف،فخلق قطيعة مع حلفاء الاطلسي ليس في صالحه، في وقت يشهد فيه الاقتصاد التركي سقوطا مدويا الى جانب ضعف نفوذه في مناطق مختلفة اهمها ليبيا وسوريا.
سحب اردوغان لقراره كان مدفوعا بسبب هام، وهو قمة روما لمجموعة العشرين التي انعقدت بين 30-31 اكتوبر والتي التقى فيها الرئيس الامريكي وباقي قادة حلفائه من حلف شمال الاطلسي.
ويهدد المجلس الاوروبي تركيا بالتصويت على قرار بدأ اجراء نظام العقوبات الاوروبي في حقها في دورته القادمة التي ستعقد بين 30 نوفمبر و2 ديسمبر، اذا لم يتم الافراج عن كافالا.
بالنسبة لكافالا فتصريحاته الاخيرة تعكس يأسا كبيرا قائلا في لقاء حصري مع وكالة الانباء الفرنسية “في ظل الظروف الراهنة،تحقيق محاكمة عادلة لن يكون مضمونا،لذلك لا ارى جدوى من حضور الجلسة القادمة.”
تاريخ انعقاد الجلسة القادمة للمجلس الاوروبي يأتي مباشرة بعد جلسة المحاكمة المحددة لرجل الاعمال البالغ من العمر 64 سنة،في 26 نوفمبر، تاريخ سيكون له تأثير كبير على تركيا في ظل تدويللقضية المعارض الشهيرالذي اصبح “الوحش الاسود”للنظام التركي.
فهل سيختار اردوغان الرضوخ للضغوط الدوليةوالافراج عن كافالا؟ام سيواصل عناده وتعميقالخلاف مع حلفاء الاطلسي؟