تقرير رباب حدادة : باحثة في المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية و العسكرية
قسم البحوث السياسية و الدولية
تونس 13/02/202
يعتبر تحويل مسار الأودية و الأنهار أو تلويث منابع المياه أمرا مخالفا للأعراف الدولية و الأخلاقيات الكونية، لكن في الفترة الحديثة أصبحت هذه الممارسات تتخذ شكلا مغايرا من خلال بناء السدود الكبرى على منابع المياه ما ينتج في غالبية الأحيان احتباس المياه على باقي الدول الواقعة على مسارات تلك الأنهار .
تصدت القوانين و المواثيق الدولية لهذه الظاهرة من خلال تنظيم استغلال منصف لمنابع المياه و تم إقرار مبادئ قانونية عامة مثل عدم الإضرار بها ومبدأ الاستخدام المنصف، مبدأ الإخطار المسبق… لكن في أغلب النزاعات تضرب هذه الاتفاقيات و القواعد القانونية عرض الحائط و لا يبقى غير السبل الدبلوماسية و المفاوضات السياسية التي أصبحت تعرف بدبلوماسية المياه. كما كشفت محكمة العدل الدولية أن 263 حوض مائي في العالم متنازع عليه مع وجود 40 ألف سد ضخم في العالم ما سيجعل المياه في المستقبل أندر من المعادن الثمينة و من الارجح سيعيش العالم أزمة مياه.
كما تعيش البلدان العربية فعلا أزمة مياه قديمة من خلال مشاريع السدود التي تقيمها دول الجوار خاصة سوريا و العراق في الشرق الأقصى و مصر في الشرق الأدنى إذ أن 43 بالمائة من مصادر المياه العذبة في البلدان العربية تنبع من بلدان غير عربية.
السدود التركية: أداة حرب قاتلة
ينبع نهري دجلة و الفرات من إيران و تركيا و هما من أسباب الانتعاش الاقتصادي في سوريا و العراق، غير أن تركيا تتلاعب سياسيا و اقتصاديا بمنابع المياه، الذي بدأ بمشروع جنوب شرق الأناضول الذي يضم مشاريع لإقامة 22 سد من بينها 14 سد على نهر الفرات و 8 سدود على نهر دجلة، و أضخم هذه السدود هو سد أتاتورك في محافظة أورفا. قد بني حديثا سد “اليسو” و يعود مشروع هذا السد إلى برنامج قرر قبل 23 سنة، إلا أن السد بدأ في العمل في ماي 2020 بتشغيل “طوربيد 1” وسط احتفاء وطني و دشنه اردوغان شخصيا و سيوفر هذا السد 2.8 مليار ليرة تركية سنويا و سيشغل المحطة الكهربائية “لأليسو” و هي رابع اكبر محطة في تركيا.
هذا السدّ الذي أثار جدلا واسعا على المستوى الوطني و الدولي، إذ تم إقامته على منطقة أثرية منها قرية “حسنكيف” التي يبلغ عمرها 12 ألف سنة، و198 قرية أخرى، و استوفت الأطراف المدافعة على المنطقة طرق الطعن الوطنية و الإقليمية غير إن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان اعتبرت أن حماية التراث ليست من الحقوق الأساسية التي تدخل في اختصاص المحكمة.
رغم انسحاب الشركات الدولية من مشروع السد ألغى اردوغان القانون الوطني المتعلق بمراقبة المناطق الأثرية قبل بناء السدود و اعتمد على التمويل الداخلي لإتمام بناء المشروع.
التشغيل الجزئي لتوربيدات السد لا تصل إلى درجة الإضرار إلا أن التعبئة الكاملة للسد تقطع تقريبا المياه على العراق و تخفض الموارد المائية للدولة إلى 60 بالمائة .
استخدام المياه كورقة سياسية أمر معتاد لتركيا ففي 2019 حبست بشكل كلي المياه عن العراق و سوريا ما أدى خلق حالة من الجفاف و كارثة بيئية و اقتصادية من خلال هروب أطنان من الأسماك في مجاري دجلة و الفرات و هلاك المحاصيل الزراعية.
في زيارة الوفد العراقي لتركيا في 17 ديسمبر 2020 كان الملف المائي احد أهم نقاط التفاوض إلا أن اردوغان بعد مفاوضاته مع الكاظمي اختار سياسة لي الذراع و استخدام السدود التركية كوسيلة ضغط اذ أعلنت تركيا بعد أسبوع واحد من هذه الزيارة تشغيل توربيدات سد اليسو الستة و التعبئة الكلية للسد و ذلك في تهديد واضح للعراق الذي سيعاني على هذا المنوال من جفاف بين 2025-2030 حسب تحذيرات محمد الجليحاوي رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية الديوانية جنوب العراق.
لحق حبس المياه عن العراق عملية عسكرية جديدة في 10 فيفري 2021 أطلق عليها مخلب النسر 2 ضد قواعد حزب العمال الكردستاني، فعلى ما يبدو مفاوضات الكاظمي باءت بالفشل و بعد خروجه من ليبيا محملا بخسارته و بتاريخ اسود لم يبقى لاردوغان غير التقوقع من جديد في المجال الإقليمي لتركيا و سيضغط بكامل ثقله في العراق و سوريا.
اعتادت سوريا منذ بداية الحرب العيش في نقص المياه و الكهرباء و نقص المحاصيل الزراعية فإلى جانب القصف العسكري خفض اردوغان باستعمال السدود منسوب المياه التي تحض به سوريا إلى اقل من ¼ الكمية التي من المفترض أن تحض بها حسب القانون الدولي قاطعا بذلك شريان الحياة في الدولة.
نقص المياه النهرية يؤدي مباشرة إلى الإضرار بالمخزون الباطني من المياه و حسب بعض الدراسات و التقارير ستحتاج سوريا لإعادة الاعمار و بناء الدولة إلى 2 مليار متر مكعب من المياه على الأقل و حالة الجفاف التي تكاد تصلها البلاد لن تكون قادرة حتى على توفير مياه الشرب و توريد الطاقة فكيف بعمليات الاعمار، فالأزمة ستتواصل الى أجيال و ستعيق حركة الانماء مستقبلا حتى و إن استقرت البلاد سياسيا.
في توضيح لتداعيات السدود التركية على منطقة الشرق الاوسط يقول يكلاس سكولز خبيرالموارد المائية في جامعة لوند، بالسويد “سيكون هناك المزيد من نقص المياه في المستقبل، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء والمياه بالنسبة للفقراء سيكون التأثير أكبر، ومن المتوقع حدوث أزمة صحية عامة تتفاقم بسبب الفقر وضعف البنية التحتية وانعدام الحوكمة الرشيدة في هذه المناطق”
في ظل الصراعات السياسية و الحروب تظل قضية المياه و السدود اشكالية كبرى تؤرق الجميع لأهميتها و لكنها تعتبر أمرا ثنويا بالنسبة للحكام العرب بل أنها لا تحض بتركيز السلطات السياسية التي تواجه الحروب المسلحة، بالرغم من أنها تتسبب في عملية إبادة للطبيعة تسير بالدول نحو الجفاف و تسجن الدول في إرادة المشروع العثماني.
أثيوبيا تسير على خطى تركيا في الاستبداد المائي
مياه النيل العابرة لمصر و السودان تنبع من هضبة أثيوبيا حيث قامت الدولة الأثيوبية ببناءسد النهضة اكبر سد في إفريقيا وواحد من اكبر 12 سد في العالم. و سينجم عنه تشكل بحيرة اصطناعية بمساحة 246 كيلومترا مربعا وتتسع إلى أكثر من 74 مليار متر مكعب.
سد النهضة هو النسخة الجديدة لسد الألفية الذي كان مشروع أثيوبي بدعم أمريكي سلط كعقاب على المشروع الإقليمي لجمال عبد الناصر إلا أن المشروع لم يتم، كما تدخل الجانب التركي لدعم اثيوبيا في مشروع سد النهضة بتقديم نموذج سد اتاتورك لأثيوبيا ضمن الصراع القائم بين تركيا و مصر .
عاشت مصر تاريخيا الضغط السياسي باستخدام السدود فحتى في بناء السد العالي في مصر لمنع فيضانات النيل رفض بنك الدولي تمويل المشروع تحت ضغوط أمريكية منحازة إلى الطرف الإسرائيلي في مواجهة جمال عبد الناصر و لكن عبد الناصر قد نجح في بناء السد العالي الذي يعتبر تحد كبير لمصر.
استغل الجانب الأثيوبي انشغال الدول المجاورة في أزماتها السياسية المندلعة في 2011 و بدأ مشروع بناء السد، و ذلك دليل على المساس بمبدأ حسن النية، في العلاقات الدولية، إذ لم تتشكل في مصر سلطة سياسية مستقرة قادرة على علاج الملف و الخوض فيه إلا في 2014، و كان المشروع قد قطع شوطا هاما في الانجاز و منذ ذلك الوقت و الدول الثلاث لم تستطع الوصول إلى اتفاق منصف أمام تعنت الجانب الأثيوبي الذي خرق كل الاتفاقات الدولية و كذلك الاتفاق الثنائي مع مصر في لسنة 2015 ، ما جعل الاشكالية تصبح دولية و رفعت الى مجلس الأمن الدولي و الاتحاد الإفريقي في محاولة لحل الأزمة.
لكن في المقابل تواصل أثيوبيا المماطلة في المفاوضات، مع كل من السودان و مصر لربح الوقت و إتمام التعبئة ما سيجعل المفاوضات القادمة و إن نجحت فلن تكون ذات فاعلية كبيرة لبقية الأطراف لان الضرر يكون قد حاصل، إذ قدرت الخسائر المصرية 151 مليار جنيه سنويا خلال فترة الملأ التي قد تتراوح ما بين 5الى 15 سنة، كما أن مصر تعاني من عجز مائي يقدر ب55 مليار متر مكعب .
على الأغلب، الأزمة لن يكون لها حل قريب المدى بما أن أثيوبيا في موقف قوة و ليس هناك ارادة حقيقية دولية للضغط عليها لصالح الدول المتضررة .
حسب تقرير للبنك الدولي 33 دولة سيعيشون أزمة جفاف في 2040 بما فيهم 13 دولة عربية و 140 مليون شخص سيكونون في حالة نزوح مناخي، لذلك على الدول أن تعمل على تحقيق أمنها المائي بحلول بديلة مثل تخزين مياه الأمطار كما تفعل الهند إلا أن هذه المشاريع الكبرى قد تنجح في بعض الدول لكن بالنسبة لدول كالعراق و سوريا فان عدم الاستقرار السياسي سيحول دون ذلك.