أحمد نظيف-28-9-2020
ساهمت الطرق الصوفية في إعادة تشكيل التنظيم الإجتماعي في تطاوين، بداية من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وصولاً إلى بدايات القرن العشرين، لا سيما مع دخول الطريقة التجانية إلى المنطقة (1912).
وأعتقد أن هذه الأخيرة كانت الأكثر تأثيراً على مستوى التغيرات الجذرية التي خلقتها في طبيعة التشكيلات الإجتماعية التي كانت قائمة والعلاقات بينها وبين مجالها الجغرافي ومصادر كسبها الإقتصادي.
بدأت القصة مع تأثر الشيخ سعد كادي (زيتوني، عدل) بقدوم الشيخ محمد بن فرج التجاني من وادي سوف بالجزائر، تحت غطاء تاجر تمور، والذي لقنه قواعد الطريقة، ولأن إشعاع الشيخ كادي كان كبيراً في المنطقة، لجهة قلة المشتغلين بالوظيف العمومي وقلة المتعلمين أصلاً، وأيضاً لإنفتاحه على مختلف الطبقات وخاصة الفقراء، نتيجة نشأته في عائلة فقيرة يتيم الأب، وهذا أمر سيؤثر كثيراً في مستقبله وانحيازاته الطبقية.
قبل ذلك كانت القادرية والرحمانية طرق منتشرة على نطاق محترم في المنطقة، وكانت ظاهرة الصلحاء تأخذ حيزاً هاماً من ميول الناس الروحية وأهمهم كان الولي عبد الله بوجليدة ووالده السائح.
لكن الظاهرة الصلحائية لم تكن منظمة بشكل صارم وتراتبي كالطرق، لذلك كانت أشبه بالإنتماء الحرّ بعيدةً عن إلتزام منهج معين روحياً واجتماعياً، وهذا الإنتماء أقرب إلى التوجه المناسباتي في المولد والأعياد.
في المقابل شكلت الطرق (الرحمانية والقادرية) منهجاً لأقلية من الأعيان والذوات، ولم تجد طريقها نحو الطبقات الأكثر فقراً لاسيما البدو، الذين لم يهتموا كثيراً بالشأن الديني شأن اهتمامهم بملاحقة الأمطار ومواطن الرعي والتفصي من العوائق التي كان يضعها مكتب الشؤون الأهلية باعتباره الذراع التنفيذي للحاكم العسكري في المنطقة.
عندما دخلت الطريقة التجانية المدينة الصغيرة، شكل ذلك أشبه برجة إجتماعية طالت مستويات عديدة من التنظيم الإجتماعي للجهة، حيث انتشرت هذه الطريقة بشكل عمودي مخترقة أغلب الطبقات (الفلاحون المستقرون من الأمازيغ، البدو الرحل من العرب، الأعيان من موظفي الدولة) وخلقت تشكيلاً اجتماعياً مستقلاً بذاته فوق الإنتماءات القبلية السائدة فأصبح المريد عندما يُسأل أنت إلى أي قبيلة تنتمي يجيب بأنه “تجاني”، وكان ذلك أمراً غير مسبوق في المنطقة، كما ربطت الصلات بين قبائل كانت على طرفي نقيض منذ الخلاف الباشي الحسيني، وجسرت الهوة بين القبائل الأمازيغية (الجبالية) والعربية والتي كانت قائمة على المغالبة وعقود الولاء.
وبموازاة هذه التحولات الإجتماعية كانت المدينة تشهد تحولات اقتصادية لافتة، فقد جنحت الكثير من فروع القبائل التي انخرطت في هذه الطريقة إلى الإستقرار بدلاً من حياة الترحال والبداوة، تأثراً بنظيرتها الأمازيغية وأيضاً تأثراً بحياة شيخ الطريقة، الذي كان يمتهن الفلاحة وتجارة التمور، ويمتدح العمل مدحاً يوازي دعوته للتأمل الروحي، بشكل أقرب للقداسة، لتتحول الكثير من الأراضي التي كانت مجرد مراع جرداء إلى مزارع زيتون وقرى وبلدات مستقرة.
كما شهدت المدينة تحولات على مستوى العادات اليومية فقد بدأت تظهر أسماء للمواليد الجدد من قبيل “أحمد التجاني” و”التجاني” “والعروسي” وغيرها تحيل على مرجعيات الطريقة التجانية وأسماء شيوخها، وكذلك مقاطعة الكثير من العائلات والعروش لطقس “الطبالة” في حفلات الأعراس (رغم أنها غير ممنوعة عند أبناء الطريقة التجانية في الجزائر أو المغرب أو حتى العاصمة)، ومما تشير إليه إحدى كنانيش أحد مقدمي الطريقة التجانية في تطاوين حول أسباب منع “الطبالة” أنها كانت في ذلك الوقت (الثلاثينات) تحمل مضامين “عبودية مذلة”، من خلال الأهازيج والمعاملات، التي تجري خلال هذا الطقس الاحتفالي.
لكن هذه التحولات التي أحدثتها التجانية في تطاوين لم تكن تجد ترحيباً لدى العديد من القوى الفاعلة في المجتمع المحلي، في رد فعلي طبيعي من القديم ضد الجديد.
مكتب الشؤون الأهلية كان يخشى أن تتحول هذه الطريقة إلى قوة يصعب السيطرة عليها، والطرق الصوفية الأخرى كانت تخشى على مريديها من “الفتنة” بما يعنيه ذلك من خسارة مصالح اقتصادية واجتماعية مهمة بالنسبة لها، وشيوخ القبائل كانوا يخشون تصدعات داخل الجسم القبلي، بما يعنيه من نزاعات على الأراضي والملكيات الجماعية. لذلك بدأت موجة من الصراع ترواح بين القوة واللين لسنوات، لكن الأمر لم يخلوا من طرافة.
ففي إطار الحرب التي شنها خصوم التجانية ضدها ابتكروا حزمة من الشتائم والمعلومات لتحذير الناس منهم فكانوا يقولون إن هؤلاء القوم يصلون عراة أو يعبدون رجلاً يعيش في الجزائر، وكثير من الإشاعات، في المقابل تحمس بعض منتسبي هذه الطريقة وشنوا هجمات عقائدية ضد خصومهم وصلت حد التفسيق والتبديع وغيرها، ولم تهدأ الأمور إلا بعد الإستقلال، عندما حسمت الدولة قضية الأوقاف، فخسرت أغلب الطرق مصالحها الإقتصادية فلم يبقى ملتزما داخلها إلا من كانت غايته منذ البدء ليست مادية، فاندثرت أغلب الطرق من تطاوين ولم يتبقى غير الطريقة التجانية، وذلك يعود لأسباب إجتماعية وحتى طبقية يطول شرحها.
ولأن لاشي يفنى ولا يستحدث بل يتغير من شكل إلى شكل آخر، فقد شكلت القطاعات الواسعة التي تركت الطرق الصوفية في نهاية الخمسينات وخلال عقد الستينات جمهوراً يحمل قناعات محافظة ولديه غايات أكثر من روحية، ليجد نفسه أخيراً في الإسلام السياسي الذي بدأ يلقى صدى كبيراً في أعقاب حرب 1967.
لتبدأ البلاد في حقبة “الصحوة الإسلاموية” منذ منتصف السبعينات ولتتحول تطاوين من التدين الشعبي إلى هيمنة الإسلام السياسي، وحتى بعد هزيمة هذا التيار في بداية التسعينات، حلت محله الموجة الوهابية مع بداية ظاهرة الفضائيات وبكائيات عمرو خالد وشيوخ السعودية وتزايد نشاط رحلات الحج غير الشرعية انطلاقاً من المدينة، والتي شكلت وسيلة للإثراء المادي للعديد من التُجار في ذلك الوقت.
قصارى القول، إن التدين الشعبي الذي كان غالباً في تونس إلى حدود الستينات كان تديناً صوفياً. بعد الاستقلال اتخذت الدولة قراراً بوضع اليد على الدين، وعقلنة هذا التدين الشعبي. فأصبحت النخب تتهم هذا النوع من التدين بالشعوذة والخرافة وغيرها.
هذه العقلنة التي كان يراد بها تكريس علمنة نسبية في المجتمع والدولة، لم تتجه نحو العلمنة بقدر ما أوقعت التدين الشعبي في شراك السلفية، دون وعي منها.
حيث تقاطعت سياسة الدولة في تحييد التصوف مع العقيدة السلفية. في النهاية جاء الإسلاميون ووجدوا الساحة فارغة. فارغة تماماً.
اليوم التدين الشعبي مستبطن للسلفية بلا وعي. في النهاية لا حافظنا على التدين الصوفي ولا سادت العلمنة المجتمع (مع أن الصوفي الحقيقي علماني حتى النخاع)، على العكس تماماً، رجعنا إلى الوراء قرونا.