الدكتورة بدرة قعلول : رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية
الكثير من الحسابات في جراب السياسيين المحنكين الذين يستغلون الأزمات ليصنعوا من أنفسهم أبطالا ويتحركوا وسط الخراب بحرية.. الكل منشغل والكل خائف والكل لا يرى ولا يبصر ولا يسمع.
حكومات تحاول إثبات قدرتها على إدارة أزمة الوباء ..سوف تشتري بعض رأس المال السياسي لكسب خزانات بشرية للعودة إلى المناصب السياسية والسلطة، أما الذين سيفشلون فسيجدون صعوبة في مقاومة إغراء إلقاء اللوم على الآخرين لفشلهم وترويج مشاكلهم إلى الخارج.
أصبح علماء السياسة وعلماء الإجتماع السياسي والإستراتجيون يفكرون يتساءلون : أماّ بعد، ما هي أبرز السيناريوهات التي سنعيشها بعد ستة أشهر وبعد سنة وبعد سنوات؟
السيناريوهات السياسية ما بعد كورونا:
تتسارع الحكومات والطبقة السياسية لاتخاذ كل التدابير والإجراءات لتقوية المناعة للدولة، وسوف تتبنى الحكومات من جميع الأنواع تدابير طارئة لإدارة الأزمة،لكننا نرى أنه لن يتغير شيء من الطبيعة المتضاربة للسياسة العالمية.إن الأوبئة السابقة لم تُنهِ تنافس القوى الكبرى ولم تبشر بعهد جديد من التعاون العالمي، كما لم تضع الأوبئة السابقة حدا للتنافس بين القوى العالمية الكبرى ولم تبشر بحقبة جديدة من التعاون العالمي، ولن يفعل كذلك هذا الوباء،بل نحن وفي خضم هذا الوباء، نشاهد العكس..نشاهد التطاحن والتكتيك وحبك المخططات لما بعد كورونا. لكن ما سنشهده ربما هو مزيد من التراجع عن العولمة المفرطة، حيث ستسعى الشعوب إلى مزيد من التأطير المواطني وسوف تعتكف أكثر على أوطانها وستتطلع إلى الحكومات الوطنية لحمايتها، في الوقت الذي سوف تسعى فيه الدول والشركات إلى الحد من نقاط الضعف في المستقبل.
هذا الوباء سكون سببا في تراجع العولمة وسيكون العالم أقل انفتاحا بل ربما سنشاهد شعوبا وأوطانا تتقوقع على ذاتها وتبتعد عن ربط مصيرها بالأخر.
يمكن أن يعيش العالم اليوم من دون عولمة،فهذا الوباء قد عرى ظهر العولمة الإقتصادية والعولمة السياسية. يجبر وباء الكورونا الحكومات والشركات والمجتمعات على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الذاتية الإقتصادية والعمل بمبدإ تكنولوجيا الإنترانت وشبكات التواصل الإلكتروني.
بذلك سيصحو العالم على مبادئ جديدة، فلن يعود العالم إلى مبدإ العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي حددت أوائل القرن الحادي والعشرين.وبدون الحافز لحماية المكاسب المشتركة من التكامل الإقتصادي العالمي، فإن هيكل الإدارة الإقتصادية العالمية الذي أنشئ في القرن العشرين سوف ينحلّ بسرعة، وعندئذ سيتطلب الأمر انضباطاً ذاتياً هائلاً لكي يحافظ أصحاب القرار السياسي على التعاون الدولي وألا يتراجعوا إلى المنافسة الجيوسياسية المفتوحة.
كما أن الوباء قد يؤدي إلى تسريع التغيير الذي كان قد بدأ بالفعل: الإبتعاد عن العولمة التي تركز على الولايات المتحدة، ولن تعود من هنا فصاعدا هي مركز العالم أو شريكة العالم بل العولمة ستصبح أكثر تركيزاً على الصين.
القادة الصينيون يعرفون الآن جيداً أن قرن الإذلال الذي تعرضت له الصين في الفترة من سنة 1842 إلى سنة 1949 كان نتيجة لرضاها عن الذات والجهد العقيم الذي بذله زعمائها لقطعها عن العالم. واليوم تعيش الصين انفتاحا وانتعاشا اقتصاديا كبيرا تستطيع من خلاله المنافسة في أي مكان.
ستعطي أزمة فيروس كورونا وقوداً لجميع المعسكرات سواء للقوميين والمناهضين للعولمة والصقور الصينيين، أدلة جديدة تجعلهم يؤكدون على صحة نظرتهم وعدائهم للعولمة.ومن الصعب بعد كورونا أن نرى أي شيء آخر غير تعزيز الحركة نحو القومية، والتنافس بين القوى الكبرى، مما يجبر الصناعات الإستراتيجية على وضع خطط احتياطية محلية قومية لتنخفض نوعا ما الربحية المتوحشة، وتترك مكانها للإستقرار في الطلب.
الوباء اليوم هو دليل على ترابط عالمي كبير ولكن في جميع الأنظمة السياسية، هناك بالفعل تحول إلى الداخل، والبحث عن الإستقلال الذاتي.
قال ريتشارد دانزيغ سنة 2018: “إن تكنولوجيات القرن الحادي والعشرين عالمية ليس فقط في توزيعها،ولكن أيضاً فيعواقبها.مسببات الأمراض،وأنظمة الذكاء الإصطناعي، وفيروسات الكمبيوتر، والإشعاع التي قد تطلق عن طريق الخطإ يمكن أن تصبح مشكلتنا. يجب اتباع نظم الإبلاغ المتفق عليها، والضوابط المشتركة، وخطط الطوارئ المشتركة، والمعايير والمعاهدات كوسيلة للتخفيف من مخاطرنا العديدة المتبادلة “.
فيما يتعلق بالتهديدات العابرة للحدود مثل الكورونا وتغير المناخ، لا يكفي التفكير في القوة الأمريكية على الدول الأخرى. مفتاح النجاح هو أيضا تعلم أهمية السلطة مع الآخرين. كل بلد يضع مصلحته الوطنية في المقام الأول.. والسؤال المهم هو كيف يتم تعريف هذه المصلحة على نطاق واسع أو ضيق؟.
إن هذه الأزمة الوبائية سوف تُجري تعديلاً في هيكل السلطة الدولية بطرق لا يمكننا إلا أن نبدأ في تخيلها، كتواصل خفض النشاط الإقتصادي وزيادة التوتر بين البلدان. وعلى المدى الطويل، من المرجح أن يؤدي الوباء إلى الحد بشكل كبير من القدرة الإنتاجية للإقتصاد العالمي..
الصدمة الأساسية للنظام المالي والإقتصادي في العالم هي الإعتراف بأن سلاسل العرض وشبكات التوزيع العالمية معرضة بشدة للإضطراب. ولذلك فإن وباء كورونا لن تكون له آثار اقتصادية طويلة الأمد فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى تغيير أكثر جوهرية. كما أنها ستؤدي بمعظم الحكومات إلى التحول أو الرجوع إلى الداخل، مع التركيز على ما يحدث داخل حدودها بدلا من ما يحدث وراءها.
كما ستكون التحركات والتحولات داخلية لتصل بأغلب البلدان نحو الإكتفاء الذاتي الإنتقائي، والتقليل من الرغبة أو الإلتزام بمعالجة المشاكل الإقليمية أو العالمية نظراً للحاجة إلى تخصيص الموارد لإعادة البناء في الداخل والتعامل مع العواقب الإقتصادية لأزمة الفيروس.
أتوقع أن يجد العديد من البلدان صعوبة في التعافي من الأزمة، مع تحول ضعف الدول والدول الفاشلة إلى سمة أكثر انتشاراً في العالم. ومن المرجح أن تساهم الأزمة في التدهور المستمر في العلاقات الصينية الأميركية وإضعاف التكامل الأوروبي.
في مرحلة ما بعد الوباء، وعلى مستوى العلاقات الدولية وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لن ينظر العالم إليها على أنها زعيم دولي بسبب المصلحة الذاتية الضيقة لحكومتها وعدم كفاءتها. كان من الممكن تخفيف الآثار العالمية لهذا الوباء إلى حد كبير،وهذا أمر كان يمكن للولايات المتحدة أن تنظمه..لقد فشلت واشنطن في اختبار القيادة.
وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة والصين، وهما أقوى دول العالم، من تنحية حربهما الكلامية جانباً حول من هو المسؤول عن الأزمة وأن تقودا على نحو أكثر فعالية، فإن مصداقية البلدين قد تتضاءل إلى حد كبير. وإذا لم يتمكن الإتحاد الأوروبي من تقديم المزيد من المساعدات الموجهة لمواطنيه البالغ عددهم 500 مليون نسمة، فقد تسترجع الحكومات الوطنية المزيد من السلطة.