الدكتورة بدرة قعلول : رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية بتونس
هل تخرج أوروبا من عباءة الهيمنة الأمريكية العسكرية؟
في ظل التطورات والتحولات الكبيرة في العالم وتضارب المصالح يطرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبشدة، في هذه الفترة، فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد، وبرغم غموض ملامح هذه الفكرة الجديدة القديمة إلا أن العديد من الدول الأوربية أصبحت تتبناها وعلى رأسها ألمانيا.
وقد أدركت أوروبا متأخرة جدا، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تحمي أوروبا إنما تستغلها في حروبها العسكرية بالوكالة لتصبح الجيوش الأوربية تعمل لدى أمريكا وغير مستقلة بل تخدم المصالح الأمريكية وتدفع الكثير من الموارد المادية والبشرية، لذا بدأت تفكر جديا بإنشاء جيش أوروبي مستقل كي لا تتورط ضمن تصفية حسابات أمريكية.
ألمانيا وفرنسا والكثير من الدول الأوروبية الأخرى ترى في تكوين جيش أوروبي موحد يندرج ضمن طموحاتها القومية ومصالحها،خاصة بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، وفي أعقاب تهديدات إدارة ترامب، برفع الحماية في حالة عدم زيادة دول أوروبا إنفاقها العسكري.
فكرة إنشاء جيش أوروبي ربما جاءت بسبب عدم رغبة وقدرة دول أوروبا من تلبية طلبات واشنطن بتحقيق زيادة تمويل قواعد الناتو. كما تحاول أوروبا إيجاد الحل بفكرة تشكيل جيش أوروبي لسد الثغرات الأمنية، أمام تصاعد تهديدات الجماعات المتطرفة، وكذلك من أجل مسك الحدود الداخلية والخارجية لدول الإتحاد.
أوروبا تعرف جيدا أن الإدارة الأمريكية تريد إضعافها وتركها تحت سيطرتها وإملاءاتها وليس في نطاق التعاون المشترك، وهذا التصعيد الأوروبي الأمريكي يأتي على خلفية ما يعرف بصراع الدولار مع اليورو،إذ لم تعد أوروبا تأمن كثيرا الجانب الأمريكي، لأنها تورطت في العديد من المسائل العسكرية الخارجية ودفعت الثمن باهظا، وأمريكا هي الرابح الأكبر.
وبهذا وجدت أوروبا نفسها أمام خيار يمكن أن يحفظ لها “ماء الوجه” وهو التقليل من الإعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية في الجانب العسكري خاصة أن أوروبا تخوض الحروب وأمريكا تنتصر، والتقليل من وجود القواعد العسكرية لحلف شمال الأطلسي على أراضيها وذلك بإنشاء جيش أوروبي موحد. فهل تنجح أوروبا في حلمها؟
أثار تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون بإنشاء “جيش أوروبي مهمته حماية القارة الأوروبية من الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة” جدلا كبيرا كان أبرز مظاهره غضب الرئيس الأمريكي ترامب، وفي المقابل كانت ردود الفعل الأوروبية مؤيدة لماكرون،علما أن الفكرة ليست جديدة بل هي قديمة جدا، إذ أن فكرة تأسيس جيش أوروبي موحد وردت في المادة 42 من معاهدة الإتحاد الأوروبي، غير أن تحقيقها يقتضي إجماع الدول الأعضاء وتخليها عن بعض من السيادة الوطنية. لكن ألمانيا وفرنسا اللتين تدعوان بشدة إلى سياسة أمنية أوروبية مشتركة غير مستعدتين للتخلي عن سيادتهما الدفاعية.
ويبدو أن فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد تبقى حلما معلقا تسعى إلى طرحه في كل مرة قيادة من القيادات الأوروبية عندما يشتد عليها الخناق الأمريكي، برغم التعاون المستمر على عدة أصعدة بين الجيوش الأوروبية، من بينها التدريب المشترك والتنسيق والتعاون في عمليات حفظ السلام عبر العالم، إلا أن تشبث كل دولة بسيادتها يعتبر عائقا أمام تشكيل هذا الجيش.
في عام 2016 صادق الإتحاد الأوروبي على استراتيجية أمنية موحدة أكدت على “احتفاظ الدول الأعضاء بالسيادة في القرارات المتعلقة بالمجال الدفاعي، مع تشجيع الإتحاد على تطوير صناعة دفاعية والتعاون بين جيوش الدول الأعضاء”.
إن التساؤل عن التفعيل المحتمل لظهور قوة عسكرية أوروبية على الخارطة الإستراتيجية العالمية يجب أن يستحضر عاملين أساسيين يتعلق أولهما بحساسية تخلي الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي عن سيادتها الدفاعية من جهة، وهيمنة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كمرجعية يصعب تجاوزها في وضع الإستراتيجيات الدفاعية الأوروبية من جهة أخرى.
حلف شمال الأطلسي “ناتو” هو الإطار الدفاعي المرجعي للدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، تمّ إنشاءه بعد الحرب العالمية الثانية.وبعد سقوط جدار برلين بدا جليا أن على الأوروبيين تحمل مزيد من المسؤولية في الدفاع عن أنفسهم، وكانت أول خطة في هذا الإتجاه معاهدة لشبونة عام 2009 التي رسمت الملامح الأولية لسياسة أمنية تعتمد على حشد القدرات العسكرية والمدنية للدول الأعضاء والتنسيق بينها في العمليات الخارجية سواء أكانت عسكرية أو مدنية. فمركزية الناتو بالنسبة لأوروبا هامة جدا، وهذا ما أكده الأمين العام للحلف “ينس ستولتنبرغ” الذي حذر من تقويض العلاقات على ضفتي الأطلسي.
ماكرون المتحمّس للحلم والفكرة يعرف جيدا صعوبة التفعيل على أرض الواقع ومدى ارتباط مصالح أوروبا بالولايات المتحدة الأمريكية،إذ قال “إن الولايات المتحدة هي حليفنا التاريخي، وستبقى كذلك، وهي الحليف الذي نتحمّل معه جميع المخاطر والذي نقوم معه بأكثر العمليات تعقيدا، ولكن أن نكون حلفاء لا يعني أن نكون تابعين، ولكي لا نكون تابعين يجب أن لا نكون معتمدين عليها”.
طبعا هذا يعني أن أوروبا تقيم تحالفا دائما واستراتيجيا مع الولايات المتحدة، وبالتالي فإن الجيش الأوروبي حتى لو تشكل لا يمكن فصله عن حلف الناتو الذي تقوم مهامه بالأساس على الدفاع عن أوروبا.
ويرى الكثير من الخبراء وخاصة من الأوربيين أن من الصعب وشبه المستحيل ما يدعو إليه ماكرون وميركل، لأن الولايات المتحدة تعتبر الأولى عالميا من حيث القوة وآلة الحرب والسيطرة الفضائية، وبالتالي من الصعب اليوم تخطي القوة الأمريكية من قبل أي جيش آخر في العالم سواء أكان أوروبيا أو غير ذلك، فهي تهيمن على قدرات التصنيع العسكري والسيطرة التكنولوجية على الفضاء والإنترنت، وبالتالي أية قوة عسكرية جديدة ستدخل في تماس بشكل ما مع الولايات المتحدة.
لكن التحولات الجيواستراتجية وتسارع الأحداث العالمية وصراع الأقطاب العالمية النافذة جعلت أوروبا اليوم أكثر اقتناعا بوجوب تشكيل جيش أوروبي، إذ تحضي الفكرة بتأييد واسع في ألمانيا، وقد رحبت بها ميركل كما وزيرة الدفاع “أورزولا فون دير لاي”، والتي دعت إلى أن تكون المسؤولية تحظى بتأييد من البرلمانات الأوربية، وقالت”نحن بحاجة كشركاء إلى تقاسم عادل للعبء داخل الأطلسي، وهذا يعنى أنه ينبغي علينا كألمان بذل المزيد من أجل أمننا”.
لكن ما يلاحظ أن أوروبا جادة في تفعيل حلمها على أرض الواقع في محاولة منها بتقليص الهيمنة الأمريكية والإعتماد عليها خاصة على الصعيد العسكري،وقد وقعت أكثر من 20 دولة من الإتحاد الأوروبي يوم 13 نوفمبر 2017 على ميثاق للدفاع ودمج التخطيط العسكري وتطوير الأسلحة والعمليات العسكرية بهدف خلق عهد جديد من التكامل العسكري على الصعيد الأوروبي لتدعيم وحدة الإتحاد وجعله أكثر تماسكا في التعامل مع الأزمات الدولية، وأثارت هذه الخطوة من الدول الأوروبية حفيظة الأمريكيين، لهذا التجأ ترامب إلى التعامل مع الوكيل التركي لضرب مصالح الأوربيين وخاصة فرنسا وألمانيا في الداخل والخارج.
وفي ظل اضطراب العلاقات الأوروبية الأمريكية تسعى الدول الأوروبية إلى ضخ “الأكسيجين” وإنعاش الإتحاد وإظهاره أكثر تماسكا وذلك بتعزيز التعاون في مجال سياسات الأمن والإستخبارات والدفاع لمواجهة تحديات باتت غير تقليدية عبر الجبهة الشرقية وشمال المتوسط إلى جانب تهديدات الإرهابيين ومحاولات التسلل، كذلك مخاطر اللاجئين والهجرة غير النظامية، إلى جانب تهديدات تنظيم “الإخوان المسلمين” في الداخل الأوروبي والذي يريد خلق مجتمع موازٍ.
ومن بين الحكومات الأوروبية التي ترغب في تشكيل جيش موحد، المجر وتشيكيا وبولندا وسلوفاكيا علاوة على فرنسا وألمانيا و بلجيكا.
وكان رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان قد صرح بالقول:”علينا أن نعطي الأولوية للأمن والبدء ببناء جيش أوروبي مشترك”.
من جهته قال رئيس الحكومة التشيكية، بوسوتكا “إن المطلوب ليس تعزيز التعاون ضد الإرهاب فحسب بل أيضا إجراء نقاش حول إمكانية إنشاء جيش أوروبي مشترك”.
أما رئيس الحزب الحاكم في بولندا “ياروسلاف كاتشينسكي” فقد اقترح إدخال إصلاحات على الإتحاد الأوروبي تمهيدا لإنشاء كونفدرالية دول أمم أوروبا، مع رئيس يكلف بقيادة قوة عسكرية مشتركة قوية، مضيفا أن”هذه الإصلاحات ستشعر الأوربيين بأنهم أسياد الإتحاد الأوروبي”
إذن.. ما يطرحه الزعماء الأوربيون من إنشاء جيش خاص بهم، هو إشارة واضحة إلى أن دول الإتحاد لم تعد ترغب في زيادة تمويل قواعد الناتو.
ومن الأسباب الرئيسة لإنشاء جيش أوروبي كذلك، مطالبة الناتو بزيادة عدد الوحدات القائمة التي تتألف في غالبيتها من الأمريكيين منذ 2015 وزيادة تمويلها.
وكرد على الضغوطات الأمريكية على الدول الأوروبية وخاصة بشأن هذه المطالب، بدأ الحديث عن إنشاء جيش أوروبي لأن الأوروبيين يدركون أن من الأفضل أن تخصص هذه النفقات لجيشهم وليس لجيش غريب، وعندما نتحدث عن قواعد الناتو، فإننا نعني القوات الأمريكية، وهذا ما يعنيه وجود قاعدة “رامشتاين” في ألمانيا.