إعداد الدكتورة بدرة قعلول : رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية بتونس
منذ اندلاع الأحداث بليبيا أصبح المشهد الميداني والسياسي والدولي معقدا أكثر فأكثر وأصبحت ليبيا ساحة صراع داخلي وخارجي، ساحةً جمعت بين ثورة شعب طمح إلى الأفضل، وتدخلات أجنبية، وجماعات إرهابية، وميليشيات متحالفة ومتصارعة، وبرلمانات متنافرة، وحكومات متسابقة وقوى أجنبية متنازعة ودعم أجنبي مزدوج، ودعم عربي إقليمي متضاد ومتناقض وصراع مسلح على النفط و الثروات الطاقية.. ليبيا منذ 2011 وهي ميدان مصارعة حرة بين القوى العالمية والمصالح المتضاربة
كذلك أصبحت ليبيا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة وحالة من الصراعات الرهيبة في السياسات الداخلية والخارجية، كما أصبح العمل العسكري الداخلي والخارجي وغرف الإستخبارات العالمية التي تدار في العمق الليبي والحرب بالوكالات،سيفا مسلطا على الشعب الليبي، وانعكست الصراعات بين الأقطاب العالمية التي تبحث عن تموقع وتحالفات جديدة لتضمن من خلالها مصالحها.
ويرى المراقبون أن تزايد التدخلات الخارجية، هو بمثابة خطر داهم سيبتلع ليبيا وجيرانها ويتركها فريسة التفكك والفوضى الداخلية، وسيشكل تهديدًا مستمرًا لدول الجوار التي بدأت ترفع من وتيرة إجراءاتها لتأمين حدودها من تسلل العناصر الإرهابية والمافيا التي تتاجر خاصة بالسلاح والمخدرات والبشر والهجرة غير الشرعية.
فالمحاولات الدبلوماسية والسياسية لإيجاد أرضية مصالحة ومبادرات للمصالحة الليبية الليبية لم تنجح ، بل ازداد الوضع الميداني والسياسي تعقيدا، وتبيّن أن أي تدخل خارجي في الملف الليبي لا يزيد الوضع إلا تعقيدا وتأزما، إذ لم تنفع تدخلات البلدان الغربية أو الإقليمية أو بلدان الجوار ولا تدخل الأمم المتحدة، ولم يعد الليبيون يثقون بأي تدخل مهما كانت الجهة، وبالنسبة إليهم الكل خانهم وساهم في إسقاط دولتهم.
فمن “ثورة” لإسقاط نظام سياسي وإزاحة القائد معمر القذافي، يتطور الوضع إلى مستوى إسقاط دولة بكاملها، ونزاع مسلح بين أطراف متعددة، وتكوين ميليشيات وكتائب عدة لا تزال تتنازع فيما بينها، وحرب أهلية تدور رحاها إلى الآن بإيعاز أجنبي وكأن الكل يريد أن يبقى الحال على ما هو عليه بما في ذلك أطراف ليبية.
وبرغم إعلان حلف الأطلسي عن إيقاف العميات العسكرية في ليبيا بعد اغتيال العقيد القذافي، إلا أن التدخل الخارجي تواصل في الكواليس وغرف الإستخبارات والعمليات العسكرية. فالأوربيون ينكرون في العديد من المناسبات تواجدهم على الأراضي الليبية زاعمين أنهم يسعون إلى حل الأزمة الليبية سياسيا وليس ميدانيا أو عسكريا ، إلا إن البراهين والتقارير تفضح في كل مرة تورطهم وتدخلهم المباشر وغير المباشر بأشكال وطرق مختلفة وبعدها يعترفون بضلوعهم في الشأن الليبي تحت زعم التحالف الدولي “محاربة الإرهاب والهجرة غير شرعية ونواياهم الطيبة من أجل حل الأزمة الليبية”!
ومن خلال انكبابنا في المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية على الملف الليبي لمدة خمس سنوات، أصبحت الصورة واضحة حول كل ما يجري على الساحة وفي الميدان الليبي، حيث تحول الوضع إلى منعرج خطير في الجوانب العسكرية السياسية وفي مجال التدخلات الأحنبية “المخيفة” وكأننا إزاء حقبة استعمارية مهينة للدولة وللشعب الليبي، وصولا غالى تحضيرات مؤتمر برلين الذي يقصي كل الأطراف الليبية، إذ أن من المفارقات الغريبة أن يُطرح الملف الليبي في مؤتمر دولي من دون حضور المعنيين أنفسهم.
الإشكالية الليبية والصراع الليبي -الليبي والتدخل الأجنبي على الأراضي الليبية لا يهم ليبيا وحدها إنما يهم منطقة شمال إفريقيا والقارة الإفريقية والعالم، لأن ليبيا أصبحت أكبر قاعدة للنزاع المسلح ومعسكرات تدريب الإرهابيين..
فزعيم “داعش”الإرهابي البغدادي عند هزيمة تنظيمه بالأراضي السورية والعراقية في نهاية سنة 2017 وبداية سنة 2018 أصدر بيانا أمر جماعته بالنفير إلى بلد الإسلام و يقصد بها ليبيا..
محتوى البيان وأهدافه،والمؤشرات الميدانية التي تلته، تؤكد على أن الدور قادم على منطقة شمال إفريقيا وبلدان الساحل والصحراء أين تمت تهيئة الأرضية، وحيث ينشط تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي وتتحكم أجنحته بالميدان مزودة بالسلاح،ليتم تطعيمها بدواعش متمرسين في الحرب ولهم خبرة في القتال و الإرهاب.
وفي ظل تعاظم الدور التي تلعبه القوى الأجنبية والإقليمية في ليبيا، أصبحنا وكأننا أمام شركات تأمين خاصة مأجورة لمهام معينة داخل الأراضي الليبية، غالبيتها بريطانية وفرنسية وتركية وبعض المرتزقة من مختلف الجنسيات ومعهم ليبيون يعملون على تأمين مصالح الغرب النفطية من شركات ومنشآت، فضلاً عن شركات الحماية الخاصة على غرار “بلاك ووتر” و”كنترول ريسكس” و”تانغو سبيشيال بروجكتس” وغيرها من قوى تتدخل بتعلات متعددة وبأهداف مخفية مباشرة وغير مباشرة، لتصبح الأراضي الليبية مستباحة لكل الأطماع.
ويرى المتابعون للشأن الليبي والإفريقي ،أن التوجه لدعم الوجود العسكري الأجنبي في منطقة شمال إفريقيا يأتي تزامناً مع خطة أوروبية تتبناها إيطاليا لمكافحة الهجرة غير شرعية، ومنع وصول المهاجرين إلى سواحلها عبر البوابة الليبية وبصفة عامة انطلاقا من سواحل بلدان شمال إفريقيا خاصة السواحل التونسية والليبية.
وبرغم الجهود الدولية لإيجاد حل للأزمة الليبية كما يحلو للبعض تسميتها، إلا أن فشل المساعي كان سيد الموقف حيث فشلت كل المحاولات في التحكم في المشهد وجعل أطراف الصراع تتفق على المصالحة والإحتكام إلى اتفاق ينهي تسع سنوات من الإقتتال السياسي والإنفلات الأمني والمعاناة المعيشية للشعب الليبي.
ومن الواضح أن تدخل الأطراف الخارجية زاد الأوضاع تدهورا لتتعمق الفجوة بين الليبيين إذ أصبح بين الليبيين دم وثأر وتعمقت الجراح، وانقسم الشعب الليبي لتجد الفتن والإرهاب مجالا واسعا للإنتشار. كما وصل الأمر حد طرح فرضية التدخل العسكري الأجنبي من جديد في أكثر من مناسبة نتيجة الفوضى السياسية وتنامي التهديد الإرهابي على الأراضي الليبية، إذ أصبح الوضع في ليبيا يهدد دول الجوار والمنطقة والعالم،لكن كل البلدان تخشى من نتائج إعادة الكرة بالتدخل العسكري المباشر.
وقد احتدم هذا الصراع على الأراضي الليبية،مما دفع عديد القوى إلى طرح مشاريعها تماما مثلما سعي المجتمع الدولي إلى البحث عن حل ينهي هذا الصراع ويعيد المشهد السياسي إلى مرحلة من الإستقرار تتم على أساسه إعادة بناء الدولة التي تم إسقاطها بداية من 2011. ويبدو أن الأقطاب الأجنبية لم تتفق بعدُ على حصتها حيث تتغير كل يوم خططهم وتحالفاتهم مع الميليشيات والقوى الميدانية الليبية، خاصة أن المشهد الليبي متحرك وغير مفهوم..
فأعداء الأمس يمكن أن يصبحوا أصدقاء اليوم والعكس صحيح في المقابل يجب أن لا ننسى أن الخطة المستقبلية لإعادة تقسيم المنطقة لا تزال في طور الإنجاز ولم تكتمل بعد، كذلك تجربة ورقة الإخوان المسلمين وزرعهم في المنطقة لا تزال قائمة، وتبقى ليبيا أسهل بوابة تمرر من خلالها الفوضى والأجندات لشمال إفريقيا وخط الساحل والصحراء، خاصة مع عودة العديد من العناصر الإرهابية الفارين من سوريا والعراق إلى الأراضي الليبية على مرأى ومسمع من دول العالم وخاصة الدول التي تدعي محاربة الإرهاب.
وبرغم نفي الدول الأوروبية الفاعلة في الميدان الليبي، ونقصد بالأساس أميركا، إيطاليا، فرنسا، بريطانيا وروسيا وتركيا، نيتها التدخل العسكري في ليبيا، إلا أن إيطاليا وفرنسا وبعض البلدان الإقليمية، لديها تواجد عسكري ميداني وأنها تزود بعض الأطراف والميليشيات الليبية بالسلاح والذخيرة.
كما بينت القراءات وتحاليل المهتمين بالشأن الليبي أن حكومة الوفاق هي من يشرّع للوجود الإيطالي والعسكري الذي يضمن ويحمي حكومة الوفاق وبخاصة السراج ومجموعته،علما بأن هذه الحكومة هي من ورط ليبيا فى اتفاقية الهجرة التي اعترفت رئاسة البرلمان بأنها كانت خطأ من قبل الحكومة التي باتت طرفاً في الصراع وبدأت في البحث عن حلفاء من الخارج وليس من الداخل الليبي لضمان بقائها وحمايتها مقابل وعود اقتصادية، ويبدو أن أقرب المستجيبين كانت إيطاليا، فحكومة الوفاق هي بالأساس حكومة الأمم المتحدة وليست حكومة الليبيين على حد تعبير الكثير من السياسيين وقناعة جزء كبير من الشعب الليبي. أصبحت ليبيا تعاني من عدم تكافؤ بين القوى المتنازعة على السلطة، وقد عكس التدخل الغربي حالة تناقض رهيب في السياسة يؤكده الإضطراب في التعامل مع قوات اللواء حفتر التي تحظى بالدعم العسكري و الإستخباراتي واللوجستي من بعض الأوروبيين ومن الأمريكيين وبعض الدول العربية، في ذات الوقت الذي يحظى خصمها فايز السراج بدعم مستمر ونداءات من الأمم المتحدة تدعو إلى دعم حكومته،وهو الوضع الذي أدخل ليبيا في حرب تجاذبات خارجية خاصة في ظل النفوذ الإيطالي المتزايد حيث تتسابق عديد البلدان من أجل التموقع والتعاون مع أطراف داخلية لتضمن لنفسها مكانة في ما بعد الصراع وعيونها على عقود البناء وإعادة الإعمار المغرية جدا في فترة ما بعد الحرب.