بدرة قعلول، أستاذة علم إجتماع و رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية
في هذا البحث لن أتعرض إلى المنظومة السجنية في تونس ولن أتطرق إلى الإرهاب كظاهرة اجتماعية، تاركة هذه التحاليل لأهل الإختصاص.
سأحاول كباحثة علم اجتماع الخوض في نقطة تكتسي أهمية كبرى وهي كيف يتم إعادة إدماج الإرهابي داخل السجون؟
كيف نحارب الإرهاب من داخل السجون؟ هل تصح مقولة لا حوار و لا إدماج لإرهابي قد احترف الإرهاب؟ لماذا لا يتوب إلا القليل من الإرهابيين ويقتنعون بالمراجعات؟
ننطلق في هذا الطرح الإشكالي من نقطة هامة وهي أن الإرهاب ظاهرة اجتماعية يقودها فاعلون اجتماعيون بالمفهوم السوسيولوجي باعتبار أن بداياته تكون عنفا إيديولوجيا رمزيا يستمر في المكان والزمان ليصبح إرهابا مسلطا على الجماعات والمجتمع.
ينطلق الإرهاب من فكر لتصبح مقومات المؤسسة التي تخضع إلى قواعد وأطر يلتزم بها الإرهابي سعيا وراء التحرك وسط فئة معيّنة من المجتمع.
ننطلق من فرضيات وتساؤلات سبق أن طرحت و نعيد طرحها حول التجربة الأمريكية في تعاملها مع الإرهابيين داخل سجونها السرية بأوروبا وسجنها الشهير غونتنامو.
ذكرت “صحيفة globle recherche » الكندية أنه يجب التخلي عن الأخلاقيات و الإحتراف الطبي والتجاوزات بحق المعتقلين الإرهابيين.تحدث تقرير الصحيفة بالأساس عن معتقلي غونتنامو وعن التجاوزات التي تمارس ضدّهم، بما يعني أن اكبر ديمقراطيات العالم التي خاضت حروبا وصرفت مليارات الدولارات واستخدمت أطنان القنابل والتي تدّعي حقوق الإنسان تبيح لنفسها انتهاك حقوق الإنسان في حربها ضد الإرهاب.
فغونتنامو والسجون السرية الأمريكية في أوروبا تعتبر خرقا لكل القوانين الدولية بحيث نسمع الكثير من الروايات والقصص عن التعذيب و أن النزلاء لا يخضعون إلى أبسط الحقوق وهي المحاكمة العادلة، مما يذكّر بمقولة لا أخلاق و لا حقوق إنسان في الحرب.
وتقول دراسة أمريكية إنه يجب إعادة النظر في مثل هذه المقولات بأكثر تمعنا بل والتطرق إلي جوهرها وأبعادها.
وقد احتضنت السجون الأمريكية في أوروبا الكثير من الإرهابيين ولا أحد كان يعلم من هم، وما هي جنسياتهم و لا كيف يعاملون و لماذا أمريكا وحدها من يهتم بالملف و ليس البلد المحتضن لهذه السجون.. غموض وسرية تامة بشأن التعذيب.
تكتسب هذه الملاحظات أهمية خاصة في ضوء الحقيقة القائلة بأن العديد من خريجي غوانتنامو لم يقتصر دورهم بعد” إطلاق سراحهم “على العودة إلى ممارسة الإرهاب، ولكنهم صاروا قادة لتشكيلات إرهابية كبيرة تابعة للقاعدة، بل وصل بعضهم إلى مواقع سياسية هامة، كما حصل في ليبيا – فالفرضية المنطقية القائلة بأن من أطلق سراحهم كانوا متورطين وتابوا لذلك استحقوا الحرية ، تنهار أمام الواقع القائل بأن بعضهم تخرجوا من غوانتنامو ليتحولوا إلى قادة للإرهاب مزوّدين بمؤهلات عالية تمكنهم من أداء هذا الدور .
هذه الحقيقة تجعلنا نتساءل عن الأساليب التي جرى اتباعها في وما حصل في السجون الأمريكية في أوروبا ، مع ملاحظة الفارق بين ظروف اعتقال نزلاء غوانتنامو وبين الغموض والإبهام المحيطين بنزلاء السجون الأمريكية في أوروبا .
فالمرجح أن النزلاء في السجون قد تعرضوا إلى غسيل للأدمغة، فمنهم من تحطمت شخصيته ومنهم من تجاوب وأعيدت برمجته، ومنهم من لا يزال ينتظر مصيره، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى خبرات كبرى في الحرب النفسية وغسل الدماغ والبرمجة البشرية.
وضمن هذه العمليات فيها جزء من التدريب الديني لشيوخ يمارسون التلقين والدمغجة لاحتواء العناصر المبرمجة للإفساد والإرهاب باسم الدين والتعصب الديني، فهذه بهدف ممارسة الإرهاب بالمنحى المطلوب حسب الأجندات المرسومة.
وإذا وضعنا في الإعتبار الحقيقة القائلة بأن العديد من خريجي غوانتنامو لعبوا أدواراً قيادية في خدمة مؤهليهم ، ومن خلال تنظيم القاعدة ، بدا واضحاً أن برامج التأهيل الأمريكية لا تقف عند حدود التأثير على الإتجاه السياسي والولاء وإنما تتضمن أيضاً إعداد كوادر قيادية قادرة على إدارة مجموعات كبيرة من العصابات الإرهابية .
وإذا كنا لا نستطيع إصدار حكم مماثل على خريجي السجون السرية الأمريكية الأخرى ، فمردّ ذلك هو التكتم الكامل حول هويات نزلاء هذه السجون ومصائرهم .
الفرضية الأقوى هي أن هذه ليست سجوناً ، وإنما هي منعزلات بالغة السرية ضمن المعسكرات والقواعد الأمريكية، وما يحدث فيها يختلف غالباً عمّا واجهه نزلاء غوانتنامو ممّن جرى اعتقالهم خلال الحرب وخاصة في أفغانستان .
فنزلاء السجون السرية المزعومة الأخرى قد يكونون كوادر من شباب العالم العربي والإسلامي يجري استقطابهم مباشرة، ويرسلون إلى تلك المنعزلات ليجري تأهيلهم تدريبا وتعليماً على جانب الإعداد النفسي إلى المدى الذي يمكنهم من أداء أدوار قيادية.
وباختصار ليس سجن غوانتنامو والسجون السرية الأمريكية الأخرى في أوروبا سوى مدارس لتأهيل وتدريب وإعداد الإرهابيين خاصة على المستوى القيادي ، وهذا ما يضمن لأمريكا التحكم بتشكيلات القاعدة من خلال التحكم بالقيادات العليا والوسطى وضمان ولائها وتنفيذها للتعليمات المعطاة إليها .
ومن الطبيعي أن تتم محاولة التغطية على هذا الدور ، وما من سبيل إلى ذلك سوى الادّعاء بأن من يدخلون هذه المدارس ويخرجون منها هم سجناء يودعون السجون بل وإشاعة الأخبار من حين إلى آخر حول التعذيب الذي يمارس ضدّهم بغرض ذرّ الرماد في العيون .
فإحلال كلمة”سجن ” محل كلمة “مدرسة” من شأنه أن يقلب ما يحدث رأساً على عقب .الحلول : من هنا ننطلق إلى الحل داخل سجوننا وهو التأهيل والتكوين وإعادة الإدماج بطرق علمية .. فالمثل يقول: داوني بالتي كانت هي الداء.
وإذا كانت الأدمغة قد مُلئت بدغمائيات الإرهاب وإيديولوجيات سافرة تعتبر أن العنف منطق ديني يرمي بهم إلى الخلود وحور العين والجنة، وأن من يقتلون هم يستحقون هذا الجزاء وأنهم بالأحرى سوف يجازون خيرا، وفي المقابل-حسب رأيهم- خدّام الطاغوت هم خوارج عن شرع الله ووجب القصاص منهم وقتلهم، فإن الحل اليوم في جزء منه يكمن في فئة تتواجد بالسجون وجب إعادة تأهيلهم وإقناعهم علميا ونفسيا بالتدريج بعكس ما تم حشو أفكارهم به من تضليل.
فالتعذيب والإقصاء لن يردّهم عن أفكارهم بل أثبتت التجارب أن هذه الأفكار قد تزداد تعمقا ويزدادون تشبثا بها. وعندما نتحدث عن الإختراق في علم النفس الإجتماعي فلا يعني ذلك اختراقا أمنيا، بل هو اختراق ايديولوجي لتصحيح مسارهم الجهادي وهو ما يعرق بالمراجعات عند التيارات الجهادية والإرهابية. لقد ظهرت في بداية التسعينات نظرية المراجعات التي أحدثت زلزالا في الحركات الجهادية لأن من قام بها (المراجعات يعني التخلي عن خيار استعمال العنف) هو الزعيم والأب الروحي لهذه الجماعات،الإمام عبد العزيز،الذي كان يعرف بالدكتور فضل، الأمير الأسبق لجماعة الجهاد.
وحسب المختصين في الحركات الجهادية التونسية، فإن أغلب الجهاديين التونسيين لم يسمعوا بالمراجعات ولا بالإمام عبد العزيز، وهم متأثرون بالأساس بمحمد المقدسي “ابو قتادة” الفلسطيني، وأيمن الظواهري، الذين يؤكدان على وجوب تكفير وقتل كل من لم يحكم بما أنزل الله، ووجوب الخروج على الحاكم، ولم يصلهم إلى ألان أخبار العديد من القادة الذين انسحابوا من متاهات الفكر التكفيري المتشدد باعتبار أنه ليس الخيار السليم ولكونه أدى شرعيا إلى المفاسد ولم يحقق مراد الحركات الجهادية.
ومن المفارقات الكبرى عند الجهاديين التونسيين أنهم يستعملون ويقتادون بكتب الدكتور الفضل “العمدة في إعداد العدة” وهو الذي نظّر به إلى الجهاد في أفغانستان، وليس لديهم علم بكتاباته “المراجعات” و كتابه “ترشيد العمل الجهادي في مصر وفي العالم العربي” الذي صدر في 2007 وفيه يرفض تماما قتل المسلمين والجهاد ضد المسلمين.
والسؤال الذي يطرح لماذا لم تصل التونسيين الجهاديين مراجعات الدكتور فضل بالرغم من أنه يعتبر مرجعية للجهاديين،وقد تطور فكره.
حسب اعتقادي وجب أخذ هذه المعطيات بعين الإعتبار وتوظيفها في السجون التونسية في المعاملة مع السلفيين والجهاديين،إذ أن المعالجة العنيفة الأمنية قد جربت خلال النظام السابق فأصبحت لديهم قناعة بأنها حرب بقاء وازدادت قناعتهم بأنهم على صواب.
وما يلفت الإنتباه هو عدم وجود مرجعيات قيادية جهادية سلفية تونسية مؤثرة فعلا باستثناء الإدريسي.
كما تجدر الإشارة إلى أن القادة الميدانيين التونسيين يطمسون المراجعات عن الشباب السلفي الجهادي، وعلى إدارة السجون أن تضع بين أيديهم هذه المراجعات.
فحتى أبو عياض عندما سئل عن المراجعات في السجون التونسية مثلما وقع في بعض السجون العربية والتي بفضلها تاب العديد من السجناء الجهاديين عن استعمال العنف والسلاح، أجاب بأن النظام السابق جاء بشيوخ فاشلين محسوبين على النظام ولذا فشلوا من اللقاء الأول.
ويضيف أن التيار السلفي الجهادي في تونس لم تقع له مراجعات داخل السجون التونسية وذلك لغباء النظام السابق
. لذا وجب العمل على المراجعات داخل السجون التونسية وذلك من خلال حلين : من داخل التيار السلفي الجهادي بإدراج المراجعات والإستعانة بكتب المراجعات التي أحدثت زلزالا في التيار السلفي الجهادي المشرقي، يعني بخاصة المراجعات الجماعات الإسلامية في مصر.
ومن وجهة نظري يمكن اختراق الخطر الإرهابي التونسي في الكل الجبهات وخاصة في السجون إلى جانب خلق الظروف المناسبة لدفعهم إلى المراجعة النظرية لأسلوب التغيير الجهادي نحو أساليب أخرى تضمن لهم التعايش مع الواقع الموجود، و لايتم ذلك إلاّ عبر تفكيك البنية الدينية الجهادية العنيفة واعتبار كل الأساليب انتهت إلى إحداث فساد وتشويه للإسلام وإنهاك لقدرات الأمة العربية والإسلامية فضلا عن فتح الأبواب أمام الإحتلال الأجنبي باسم مكافحة الإرهاب.