الدكتور عدنان منصور: وزير الخارجية والمغتربين الأسبق: قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 18-12-2024
لم يكن تحرك المجموعات المسلحة والفصائل الإرهابية مفاجأة لكلّ من يتتبّع تطورات الأحداث في سورية منذ اندلاع العنف فيها عام 2011 وحتى اليوم.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت سورية المركز الرئيس في اهتمامات الولايات المتحدة وهي التي بدأت تحلّ مكان الدولتين الاستعماريّتين بريطانيا وفرنسا في منطقة غربي آسيا.
مكانة سورية الاستراتيجية والتاريخية، والقومية، وأهمية موقعها الجغرافي في قلب المشرق، ودورها المؤثر، دفع بوزير الخارجية الأميركية الأسبق جون فوستر دالاس، مهندس السياسة الأميركية في الخمسينيات من القرن الماضي، ليعبّر بكلمات قليلة يصف فيها أهمية سورية ليقول:
“سورية موقع حاكم في الشرق، إنها أكبر حاملة طائرات ثابتة على الأرض. إنها نقطة التوازن تماماً في الاستراتيجية العالمية، هذا الموقع لا يجازف به أحد، ولا يلعب به طرف، من امتلكها امتلك مفاتيح الشرق، وسيطر على البعض الذي يصل المشرق بأوروبا”.
لقد سبق لقيصر روسيا بطرس الأكبر في القرن السابع عشر أن أشار في وصية شفهية له الى أهمية سورية بالنسبة لروسيا، لتلحق به بعد ذلك الامبراطورة كاترين الثانية في القرن الثامن عشر لتصف سورية بـ “مفتاح البيت الروسي”.
نظراً لما تشكله سورية على الدوام من أهمية بالغة لكلّ من يريد أن يكون له موطأ قدم في المنطقة، أكان ذلك في زمن السلم أم في الحرب، كانت المواجهة على الدوام بين سورية التي جسّدت في العمق المفهوم الوطني، والقومي التحرري، الرافض بالشكل والأساس لقيام “دولة إسرائيل” في فلسطين، والداعي إلى إزالة دولة الاحتلال، والوقوف في وجه سياسات قوى الهيمنة، والتسلّط والنفوذ الأجنبي، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي دبّرت أول انقلاب عسكري في سورية عام 1949، قاده عميلها حسني الزعيم، ليمرّر أثناء حكمه الذي دام لأشهر قليلة، عدة مشاريع للغرب، وأهمّها خطوط أنابيب التابلاين.
إنّ ما جرى في شمال سورية من تسونامي عسكري، وهجمات واسعة قامت بها فصائل مسلحة، وعناصر إرهابية قدم العديد منها من دول خارجية، لم يكن مفاجئاً، ولم يكن ليحصل دون تواطؤ ودعم ومباركة الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتركيا لها، لا سيما بعد حرب غزة ولبنان، وما شكلته وتشكله سورية من رافعة ودعم داخل محور الممانعة.
بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار بين لبنان و”إسرائيل”، كان لا بدّ لحلف “التواطؤ الثلاثي” الأميركي ـ “الإسرائيلي” ـ التركي أن يتحرك باتجاه سورية، ليقوم بتصفية حساب قديم جديد معها، وإنْ كان لكلّ واحد في الحلف حساباته وأهدافه الخاصة به.
تركيا لم تتوقف يوماً عن مطالبتها بـ “حقوقها التاريخية” المزيّفة في سورية والعراق، حيث ترى أنّ حقها الجغرافي يمتدّ إلى شمال سورية، ليشمل منطقة حلب وإدلب وريفها، كما تدّعي أيضاً بحقها في شمال العراق، وبالذات محافظة الموصل وصولاً إلى كركوك حيث منابع النفط.
هي تركيا التي بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الأحداث في سورية عام 2011، دعت المعارضة السورية في شهر حزيران الى عقد أول اجتماع لها في أنطاكيا. وفي شهر آب تمّت قطيعتها مع دمشق، وفي شهر أكتوبر من العام ذاته، احتضنت العناصر المسلحة التابعة لـ “الجيش الحر” على الأراضي التركية، وفي شهر نوفمبر اتخذت أنقرة من جانب واحد، إجراءات وفرضت عقوبات اقتصادية ومالية ضدّ سورية، كما دعمت بشكل كبير المؤتمر الدولي لـ “أصدقاء سورية” الذي عقد يوم 24 فبراير 2012 في تونس. كما حرّكت تركيا الأمم المتحدة والحلف الاطلسي لتدويل الأزمة السورية، فيما طلب رئيسها أردوغان من الرئيس الأميركي باراك أوباما دعم ضربة عسكرية ضدّ سورية تهدف إلى تغيير النظام.
أما الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فتجدان أنّ الفرصة سانحة جداً لهما اليوم، للانقضاض على النظام السوري عبر الجماعات الإرهابية التي موّلتها، ورعتها ودرّبتها وسلحتها.
لطالما كانت سورية على الدوام جزءاً لا يتجزأ من محور رافض لسياسات الغرب ومشاريعه، ورافض بالمطلق للكيان “الإسرائيلي” في فلسطين ومقاوم للاحتلال.
لا يمكن لواشنطن تمرير مشاريعها الكاملة في المشرق، فيما سورية تشكل حاجزاً ممانعاً لها مع شركاء متصدّين لمشاريعها المشبوهة في المنطقة، التي من خلالها تريد أن تهيمن على الشرق الأوسط وتمسك بزمام أموره وقراره، وتستغلّ ثرواته، بالتنسيق مع “إسرائيل” على تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتوسيع اتفاقيات أبراهام، وتعزيز علاقات تل أبيب مع الدول العربية المطبّعة والدول التي على وشك التطبيع.
لذلك تجد الولايات المتحدة في سورية والقوى الوطنية في لبنان، والعراق وإيران ما يعكّر صفوها، ويعرقل أهدافها. لذلك رأت في العقوبات الظالمة الشرسة التي فرضتها على سورية، أنها لم تحقق غايتها، لذا كان عليها أن تتحرّك باتجاه آخر، للاقتصاص من رئيسها وتقويض نظامها، ومن ثم تقسيمها، وإنهاء دورها الفاعل في المشرق.
إنّ العمل على إسقاط النظام في سورية ليس هدفاً نهائياً لكلّ من واشنطن وتل أبيب وانقرة، إذ أنه بعد حرب “إسرائيل” على غزة، ووقف إطلاق النار بين لبنان و”إسرائيل”، ستعمد الولايات المتحدة و”إسرائيل” إلى توسيع رقعة القتال للفصائل المسلحة داخل العراق، وصولاً إلى قلب محور الممانعة إيران!
وإنّ إسقاط سورية يعني في ما بعد، إسقاط دول محور الممانعة الواحدة تلو الأخرى، وهذا ما يشكل انتصاراً ساحقاً لدول التواطؤ الثلاثي، انتصاراً يخدم كلً دولة من الحلف مصالحها الاستراتيجية.
لكن ماذا عن روسيا ومفتاح البيت الروسي؟!
أليست معنية بشكل كبير بما يجري في الميدان السوري، وما قد يفرزه من انعكاسات وتداعيات خطيرة على مصالح روسيا، وأمنها القومي، ومجالها الحيوي، خاصة أنها تتعرّض منذ أكثر من ثلاث سنوات لهجمة أوروبية أميركية عنيفة في أوكرانيا، فيما هي تواجه حلفاً أميركياً أوروبياً يريد استنزافها، وتطويقها ومن ثم الانقضاض عليها وتطويقها، وشلّ قدراتها، وتحريك القوميات في جمهورياتها الاتحادية، بغية زعزعتها، وتقليص دورها، وعزلها عن القرار الدولي!
لذلك من المستحيل ان ترضى موسكو بأيّ شكل من الأشكال، بانهزام سورية وهي في مواجهة الفصائل المسلحة، والجماعات الإرهابية المدعومة من دول حلف التواطؤ الثلاثي لأنّ إسقاط النظام السوري في يد الجماعات الإرهابية، يعني سقوط المنطقة والشرق الأوسط برمته في يد الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
حلف التواطؤ الثلاثي لن يكتفي بإسقاط النظام في دمشق، اليوم سورية، وغداً العراق، وبعد غد إيران. هنا تكمن أهمية الدور الروسي. إذا ما تخلّت روسيا عن دورها وهي تشاهد عن بعد تسونامي الإرهاب يجتاح سورية ودول المنطقة، فإنها ستجد نفسها على قارعة طريق الشرق الأوسط، وهذا يعني انكسار دورها العالمي وتراجعه إلى حدّ بعيد.
أما إيران التي تشكل قلعة محور الممانعة، فهي والمستهدفة من قبل الغرب، يقع على عاتقها الدفاع عن الخطوط الأمامية للمحور بكلّ قوة وحزم، كما يتوجب أيضاً على القوى الوطنية في العراق والمنطقة، ومعها روسيا الوقوف بحزم الى جانب سورية، والعمل معاً للقضاء على القوى المسلحة والفصائل الإرهابية في أسرع وقت، لأنّ حلف التواطؤ الثلاثي يعمل على إطالة أمد المعارك، من أجل جرّ هذه الدول الى حرب استنزاف طويلة ومكلفة، على غرار حرب الاستنزاف التي تقوم بها الولايات المتحدة وأوروبا ضدّ روسيا بغية إنهاكها وجرّها إلى مفاوضات قسرية لا تصبّ في صالحها ولا تخدم أهدافها القومية ومصالحها الأمنية والاستراتيجية.
إنها مواجة مكشوفة بين دول حلف التواطؤ المتربصة بالمنطقة، والداعمة للفصائل المسلحة ومرتزقتها، وبين دول آلت على نفسها أن تتصدّى وتحبط مؤامرة دولة الاحتلال “الإسرائيلية”، وأطماع السلطان العثماني، وتسلّط قوى الهيمنة المتمثلة بالولايات المتحدة.
يبقى على ميدان سورية الملتهب أن يقول كلمته الفصل، وإنّا لمنتظرون…!